الشاعر الكبير سميح القاسم حاورت مجموعة من المثقفين الإسرائيليين لكنني لم أؤبن رابين. أنا لا أعترف بشيء اسمه الدول العربية لأنها "حظائر سايكس بيكو". كانت الساعة العاشرة مساء عندما لحظت الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم في بهو فندق "ماريوت" بالقاهرة، طبعا قبل مباراة الرابع عشر نوفمبر، كان جالسا وسط مجموعة من المثقفين العرب، انتظرت حتى همّ بالقيام ثم اقتربت منه * * وسلمت عليه، وفي لمح البصر مرّت علي عشرات الصور الجميلة من العصر الذهبي للإبداع المقاوم.. قامات بحجم محمود درويش وفدوى طوقان ومعين بسيسو والقاسم أيضا..عدت إلى حاضر الزمان والمكان واستأذنت الأستاذ سميح في إجراء حوار مع "الشروق" الجزائرية، لكنه اعتذر بسبب التعب قبل أن يضرب لي موعدا لصباح الغد..وفعلا بحثت عنه ذاك الصباح في كل زوايا الفندق حتى وجدته يتناول الفطور فعدت إلى الاقتراب منه، لكنه في هذه المرة دعاني إلى ارتشاف القهوة معه، وبعد أن أهداني "القصيدة الجزائرية" واستحلفني بنقل تحية خاصة إلى صديقته أحلام مستغانمي، كان معه هذا الحوار الجريء. * * أثرت استياءَ الكثير من المثقفين العرب، لأنهم سمعوا بأنكم شاركتم مؤخرا في تأبين رئيس الوزراء الإسرائيلي المغتال إسحاق رابين... ما حقيقة هذا الأمر؟ * * كنت أتمنى أن يكون لديّ الوقت لتأبين شهدائي، ليست لديّ لا الرغبة و لا الوقت لتأبين كائنات فضائية. أنا شاركت في حوار مع مجموعة من المثقفين الإسرائيليين من اليمين واليسار بمناسبة ذكرى اغتيال رابين، والمؤسف أن مروّجي هذا الخبر الكاذب لم يهتموا بأطروحاتي في هذا اللقاء، التي تركزت على إدانة الطغمة الحاكمة الإسرائيلية المعادية للسلام والرافضة للمبادرات العربية والمديرة ظهرها للشرعية الدولية والمتحدية للمجتمع الفلسطيني والعربي والدولي، كان هذا جوهر موقفي في هذا الحوار وأنا متشبث به ومعتز لأنه لا يجامل الاحتلال ولا يجامل المحتلين ولا الصهاينة ولا الأمريكان، وهو خروج عن المألوف العربي المتردي للأسف الشديد... ربما يرى الجاهل في ذلك تطبيعا، لكنني مستعد لمحاورة الشيطان من أجل قضيتي، ثم أنني لست عنصريا ولا أكره اليهود لأنهم يهود ولا الفرنسيين لأنهم فرنسيون ولا البوذيين لأنهم بوذيون. * * ربما سيرد عليك البعض بأنك وإن لم تشارك في تأبين رابين فأنت قد وضعت خطوة خطيرة باتجاه التطبيع الثقافي مع إسرائيل.. * * الحديث عن التطبيع يُساء استعماله، وقبل كل شيء يجب أن يكون واضحا بأن المؤسسة الإسرائيلية لا تريد التطبيع مع الأمة العربية، هي تريد تركيع الأنظمة العربية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الحوار شيء والتطبيع شيء آخر، قلتها أكثر من مرة وأعيدها أمامكم الآن، والله لو طبعتم جميعا، ال350 مليون عربي، مع إسرائيل فسيظل مواطن في قرية بالجليل اسمه سميح القاسم يرفض التطبيع، الخطر عليكم وليس عليّ أنا، فمن ناحيتي الساحة آمنة تماما كما كانت دائما. * * قبل أن نبدأ هذا الحوار قلت لي كلاما جريئا جدا... قلت بأنك ضد دولة فلسطين. * * من حيث المبدأ أنا عروبي وحدوي وهذه ليست شتيمة ولا كلمة بذيئة، البذيء هو الموقف العربي. أنا مع الوطن العربي الواحد والدولة العربية الواحدة، قد يبدو هذا الكلام رومانسيا وطوباويا لكنني أقول بأنه ليس على هذه الأرض كلام أكثر واقعية من خيال الشعراء، ثم انه لا يوجد أي مبرر أخلاقي أو سياسي أو تاريخي أو اقتصادي لاستمرار واقع "سايكس بيكو"؛ واقع التجزئة الحقير، كما أنه لا يوجد مبرر لاستمرارنا في خيانتنا... نحن نخون أنفسنا... نحن نرتكب خيانة قومية حين نكرس سايكس بيكو، حين نكرس التجزئة والإقليمية، نحن بذلك نتحول إلى أمة من الخونة، أنا أرفض هذه الخيانة، أنا لا أعترف بشيء اسمه الدول العربية التي أعتبرها منذ عقود "حظائر سايكس بيكو"، لكن وما دام أن شعار الدولة الفلسطينية يعني إنهاء الاحتلال فلا بأس أن أقبل بهذا، لكن مرحليا فقط، كما أن هذا لا يلغي رؤياي الاستراتيجية، والتي تترجم إرادتي في الدولة العربية الواحدة للشعب العربي الواحد، مع أشقائنا الذين يعيشون في هذا الوطن من بربر وأكراد وأرمن، كل هؤلاء أشقاؤنا و شركاؤنا... أريده وطنا ديمقراطيا، علمانيا يحترم الدين الذي هو أحد أساسات تشكيلنا كأمة، كما أنني أرى بأن البحث عن المزيد من الدول العربية هو في حد ذاته كارثة، هم يريدون دولة على كل بئر نفط، يريدون دولة على كل منجم حديد... يجب أن نخجل من تشرذمنا، من حقارتنا، من وضاعتنا، من انحطاطنا، من كفرنا، من خيانتنا... لا نستطيع إلا أن نخجل إذا كانت فينا بقية من كرامة قومية وشخصية. * * ألا تخشى من أن يصنف هذا الكلام والموقف الجريء في خانة "الصرخة في واد"، خاصة وأن غالبية المثقفين العرب ينتجون أفكارا غير هذه؟ * * أنت تستفزّ رغبة السخرية لديّ حين تتحدث عن المثقفين العرب، أنا أرى قطيعا من المرتزقة، قطيعا من المأجورين، من الشعراء الوهميين والأدباء الافتراضيين والمفكرين المرتهنين... أشباه مثقفين، لا أرى بينهم ابن رشد واحد ولا ابن خلدون واحد، اعطني مثقفا عربيا حقيقيا واحدا بكرامة الثقافة والعروبة وبكرامة الإسلام والحرية وسأكون سعيدا جدا. * * نعود إلى قضيتنا المحورية، القضية الفلسطينية... ألا تعتقدون بأن حلم التحرير الفلسطيني، حلم عودة اللاجئين، حلم القدس عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة، في ظل الصراع بين حماس وفتح قد تبخر... ثم ما أصل هذا الصراع في رأيك وأنت تعرف القضية الفسلطينية كما لا يعرفها أحد؟ * أخي العزيز، حين تحدث تيودور هرتزل عن الدولة اليهودية قالوا له: الحديث عن أمر كهذا بعد ألفي سنة كلام أسطوري. فرد عليهم ببساطة، وهو مجرد صحافي: إن شئتم فلن تكون أسطورة... إنها المشيئة الإنسانية التي هي تجسيد للمشيئة الإلهية، إنها رغبة بسيطة وعادية في أن يسترد العرب كيانهم كشعب وكيانهم كوطن، هذا ليس طلبا خياليا وليس طموحا كبيرا، هذا ممكن التحقيق لو أن العربي الحقيقي كان موجودا. لكنني أعتقد، مع الأسف الشديد، بأن العرب الحقيقيين في أمتنا أقلية مضطهدة ومقموعة، العرب الحقيقيين هم الذين يؤمنون بالقيم العشر للعروبة، ولا أقول الوصايا العشر، الشجاعة والكرامة والشهامة والنخوة والكرم والإنصاف والتواضع والعدالة والمعرفة والمحبة، القيم العربية البسيطة دون تعقيد أو فلسفات كبيرة. أما فيما يتعلق بالخلاف بين فتح وحماس فأنت تبدو وكأنك جئت من اسكندنافيا ولا تفهم، نحن نفهم يا أخي بأننا نعيش عصر الجاهلية الجديدة، حيث تتحول الأحزاب والطوائف إلى قبائل، إضافة إلى ظهور مفاهيم غريبة عنّا كالإقليمية والعرقية، فأنا لم أكن أعرف فرقا بين العربي والأمازيغي في الجزائر ولا بين عربي وكردي في العراق ولم أكن أعرف فرقا بين السنّي والشيعي والمسيحي وعلوي وإسماعيلي في لبنان، كل هذه التفاهات ما كانت مألوفة في حياتنا، هناك إذاً جاهلية جديدة تنشأ وتتعزز، والغريب أننا نتفرج، بل ونبدي دهشة من ما نعرفه. وعليه أقول بأننا ما لم نحارب جاهليتنا الجديدة فلن ننجح في مواجهة أي من أعداء الأمة. وفي نفس الاتجاه أيضا، أقول بأن الخصومة الفلسطينية هي في الحقيقة حرب جاهلية جديدة بين "بني فتح" و"بني حماس"، فكفّوا عن هذه السذاجة. * * ألا تعتقد بأن المشكل بين فتح وحماس هو أيديولوجي وليس قبليا؟ * أنا أصرّ على أنه قبلي، فالخلاف الأيديولوجي له حدود وله منطق، وهو الحاصل في أوروبا وأمريكا وعند الاحتلال الصهيوني نفسه، فعندهم لا يلجأ الفرقاء إلى السلاح ولا يذبح أحدهم الآخر ولا إلى الانقلابات العسكرية ولا إلى الاغتيال والتدمير والترويع. في إسرائيل يتحدثون حتى الآن ويلطمون على اغتيال أو اغتيالين في تاريخهم، أما نحن فالاغتيال السياسي صار خبزنا اليوم، ففي أي دويلة تنتمي إلى حظائر سايكس بيكو يقتل يوميا أدباء ومفكرون وصحافيون، بل إن إحداها حكمت على صحافي بالتوقف عن الكتابة مدى الحياة، هذا جنون ولا يحدث إلا عندنا... يا أخي آن الأوان لنرى عيوبنا. * * هل سبق وأن قلت مثل هذا الكلام للقيادات الفلسطينية؟ * * قلته وأقوله لكل البشر، لوسائل الإعلام وعلى رؤوس الأشهاد، وبالمناسبة أنا لست بحاجة إلى مداراة أحد، فمقاومتي لإسرائيل سابقة لفتح ولحماس، أنا دخلت سجون الاحتلال قبل أن يسمع العالم بفتح وبحماس وبياسر عرفات وبأحمد ياسين وبجورج حبش وبأحمد جبريل وبنايف حواتمة، ولهذا فإنني لا أسمح لأحد بالتطاول على تاريخي. * * لكنكم ربما انسحبتم من الحياة السياسية فلم يعد لكم تأثير على منشطيها؟ * * لم أنسحب، ثم انني لا أسمّيها حياة سياسية، بل هي معركة وجود وبقاء، لم أنسحب بدليل أنني لازلت موجودا في وطني أقاوم بأدواتي ووسائلي، أقاتل من أجل شعبي وأمتي، وسترون كيف سينتصر خيال الشعراء، وسترون كيف سينمحي هذا العار، عار ال350 مليون عربي الذين لا يحسب أحد لهم حسابا.