أدركت الاتحادية الجزائرية لكرة القدم أن "القيل والقال" الذي صاحب تربص المنتخب الوطني بفرنسا قد دغدغ مشاعر الناس الذين مازالوا منتشين بأفراح الانتصار، فسارعت لإغراق الجمر بالماء عبر بيانها الذي أعاد للناس الطمأنينة، وتأكد مرة أخرى أن الكرة هي الحزب الأكبر إن لم نقل الوحيد في الجزائر.. فبقدر ما سكن أشبال سعدان قلوب الناس وهم يعيدون لهم أفراحا ظننا أنها صارت من الماضي والأرشيف بقدر ما يمكن لهؤلاء الناس جميعا أن ينسوهم، ولكن بسرعة مضاعفة إذا أحسوا أن ما قدّموه إنما كان بمقابل. * الأصداء التي وصلتنا من فرنسا ونحن متأكدون أنها مجرد أضغاث وسوسات وزوبعة في فنجان قهوة، ارتشفها محارب الصحراء بعد سكرات الفوز التي عاشها ونقلته إلى أمجاد لم يبلغها كبار العباقرة والعلماء والشهداء، الذين أفنوا العمر في سبيل أن يصنعوا الحياة لشعب وليس فرحة كرويةآنية. * لقد ساهم الجميع في تحقيق الانتصار الرياضي الذي جنينا منه عودة الوطنية ونبذ الخلافات، ولا أحد من الذين يبغون مزيدا من المال والجاه والشهرة يسقط دور الجماهير التي سافرت إلى صحاري وأدغال إفريقيا، والإعلام الجزائري المكتوب الذي حارب بأيديه الحافيتين مدفعية الفضائيات، والسلطة التي نزعت اللقمة من أفواه أخرى وأطعمتها أشبال سعدان لأجل تحقيق هذا الانتصار دون أن يطلب أحد من هؤلاء مقابلا ولا منّا ولا شكورا. وتواصل العطاء الشعبي من خلال جعل هؤلاء اللاعبين أفرادا من كل الأسر الجزائرية، وتم احتضانهم وهم يعلمون أن عباقرة جزائريين في كل العلوم والمعارف في مختلف الأمصار يشتاقون "شكرا" من شعب وسلطة وإعلام، كان همّهم أولا وقبل كل شيء صناعة الأمل والأفراح قبل الالتفات إلى بقية الواجبات، وعندما أعلنت السلطات الهدايا المادية الضخمة التي نافست في قيمتها ما تحصل عليه أفراد المنتخب الفرنسي، لم يبد أي جزائري اعتراضه بما في ذلك الجوعى وعددهم للأسف كبير ولا البطالون وعددهم للأسف كبير ولا حتى المرضى وللأسف هم أيضا عددهم كبير. وضرب الجزائريون مع الفرح مواعيد أخرى على أساس أن كل الظروف مواتية لذلك، ومنها المادية التي كانت إلى غاية رحلة الخرطوم آخر اهتمامات الناس والسلطة، وحتى صانعي الانتصار الكروي "الزائل" إن لم يكن له إخوة أكبر شأنا من مجرد الفوز بهدف في لقاء فاصل على منتخب عربي وإفريقي عادي في المنظومة الكروية العالمية، مما يعني أن ما تحقق لحتى الآن هو الوضع المنطقي للجزائر بل إنه أقل، لأن الجزائر بلغت هذا المونديال الكروي وهي لم تحتفل بعد بعشرين سنة من حريتها بلاعبين محليين كانوا يشتغلون في المؤسسات الحكومية في زمن الطوابير وزمن ما قبل البريسترويكا، حيث كانت الكماليات والهبات من المحرمات، ومع ذلك فازوا على ألمانيا وقارعوا البرازيل، ولم نسمع عن حكايات الملايير والإشهار لكبريات الشركات. ما لا يعلمه بعض أفراد صناعة الفرحة وربما نسيه، هو أن مناصرين بطالين لا يمتلكون حرفة ولا سكنا ولا حتى ثمن اللباس والطعام، يجمعون حاليا الأموال لأجل السفر إلى أنغولا، وما لا يعلمونه أن الشباب الجزائري الذي كان يحلم بالهجرة السرية إلى الشمال صار يحلم بالمغامرة الإفريقية لأجل مناصرة هؤلاء اللاعبين، وما لا يعلمونه أيضا أن رئيس الجمهورية وربما لأول مرة في تاريخ الجزائر خص اجتماعا وزاريا حاسما لأجل أن يكمّل هؤلاء رحلة الأفراح التي نشعر جميعا أننا طرف فيها، بل إننا طرف قوي فيها ولنا بأضعف الإيمان. هل هي سحابة شتوية راعدة في سماء "فرنسا" الشتوي جدا؟ أو جعجعة في طحين مازلنا نؤمن أن توابله جزائرية خالصة؟ أم هي ردّة نحو الزمن السابق حيث تتساوى نتائج الفوز مع الخسارة؟ * أسئلة لها عدة إجابات ولا أحد من الجزائريين يتمنى الجواب عن السؤال الأخير، لأن الجزائري كما يصنع الأبطال بوطنيته قادر على إرجاعهم إلى أقل من أحجامهم السابقة. * دعونا نمزق هذه الرسالة وننسى أنها كتبت أصلا.