مراد بن اشنهو أصدر مؤخرا السيد مراد بن أشنهو, وزير الاقتصاد السابق, كتابا يحمل عنوان: "الصهيونية, لاهوت إبادة جماعية" Le Sionisme, Théologie génocidaire ", التي تعرض فيه لحقيقة الفكر الصهيوني كما عبر عنه العديد من الساسة الإسرائليين في مختلف مواقفم وفي ممارسة دولة إسرائيل. هذه الإيديولوجية (الصهيونية) لم تخف هدفها حسب السيد بن أشنهو "المتمثل في تحقيق دولة تيوقراطية (لهوتية), بناء على أوامر إلاهية, تكون حصريا فقط على مجموعة دينية, والتصفية الجسدية للشعب الفلسطيني على النحو المطلوب في الإنجيل القديم". * ويتعرض بن أشنهو في هذا الحوار مع "الشروق" إلى جملة من القضايا منها مفاوضات السلام حيث يري أن "أي سلام لا يؤدي إلى الاعتراف من جانب الفلسطينيين بأنه ليس لديهم أي حق في الأراضي الفلسطينية يتعارض مع تعاليم الكتاب المقدس كما يفسرها الصهاينة". * كما تطرق لموقف المجموعة الدولية التي قال إنها "تتصرف ببعض السلبية, إن لم تكن متواطئة, إزاء سياسة الإبادة الجماعية المنفذة عمدا ضد الشعب الفلسطيني في غزة". * وفيما يلي نص الحوار: * * معروف عن السيد مراد بن أشنهو أنه خبير مختص في المسائل المالية والاقتصادية, ما الذي دفعكم للاهتمام بالإيديولوجية الصهيونية والكتابة في هذا الموضوع ؟ * أولا أود أن أشكركم على تفظلكم بقراءة كتابي وإعداد أسئلة لهذا الحوار, رغم أن لديكم مهمة تغطية الأحداث التي تعج بها الساحة. * إن السؤال الذي تطرحونه شرعي, لأنني خرجت في هذا الكتاب عن نطاق المواضيع التي كنت أكتب والتي تدور حول القضايا الاقتصادية في إطارها, فيها الواسع. لقد تصديت لهذا الموضوع البسيط في حد ذاته ويمكن تلخيصه في جملة واحدة, ولكنه صار معقدا بسبب التلاعبات والتزييف الذي خضع له باسم معركة معاداة السامية, وذلك لأنني شعرت كمثقف بواجب تحليل هذه الظاهرة الفريدة من نوعها في سجلات التاريخ العالمي, التي هي الصهيونية. * هذه الإيديولوجيا لم تخف هدفها المتمثل في تحقيق دولة تيوقراطية (لاهوتية), بناء على أوامر إلاهية, تكون حصريا فقط على مجموعة دينية, والتصفية الجسدية للشعب الفلسطيني على النحو المطلوب في الإنجيل القديم, الكتاب المقدس الذي تستمد منه مبررات وجودها وتستلهم منه. فالاعتداء الوحشي (الذي سمي "الرصاص المصب" واستمر من 27 ديسمبر 2008 إلى 18 جانفي 2009) الذي قام به الجيش اليهودي لإسرائيل ضد سكان قطاع غزة, التي تتكون من 85 في المائة من ضحايا عمليات الطرد التي نفذتها السلطات اليهودية لإسرائيل ضد الفلسطينيين بين عامي 1948 و 2008, جعل هذا التحليل أكثر إلحاحا. * أنا استخدم هنا عن قصد صفة "يهودي", لأنه رسميا, وهذه مفارقة كما تبدو, أن صفة "إسرائيلي" غير مقبولة من جانب السلطات اليهودية لإسرائيل; فهناك "يهود إسرائيل", "عرب إسرائيل", "دروز إسرائيل" ... إلخ, ولكن ليس "إسرائيلي", وما دام أن اليهود الذين يعيشون في فلسطين التاريخية لإسرائيل يحكمون إسرائيل لمصلحتهم ولا يخفون هذا, لا يمكننا إلا إلقاء اللوم عليهم لأنهم بسبب عملية الإبادة الجماعية التي نفذوها ضد غزة بين أواخر ديسمبر 2008 وجانفي 2009. إن طبيعة الإبادة (الجماعية) الدينية تشهد عليها تعليمة تستند إلى الكتاب المقدس تطرقت إليها في والتي قدمها الجنرال الحاخام الأكبر للجيش اليهودي لإسرائيل لجنود هذا, كتابي الجيش. * * تتحدثون في كتابكم عن الإبادة والتطهير العرقي المبيت في حق الفلسطينيين من خلال الأدبيات الصهيونية والمطبق ميدانيا, لكن في ذات الوقت تتبنى إسرائيل لغة السلام والمفاوضة مع الفلسطينيين لأجل التوصل إلى اتفاق. لماذا تزاوج إسرائيل بين هذين التوجهين المتناقضتين? بمعنى ما الذي يقصدة الساسة الإسرائيليون بحديثهم عن السلام ومسار المفاوضات الجاري علما أن إيديولوجيتهم تتحدث عن, آخر الإبادة? وهل ترى أن هناك أملا في المفاوضات الجرية منذ أوسلو ؟ * إن عبارات "السلام" و "مفاوضات" هي مصطلحات عامة وهي, في حد ذاتها, ذات معنى فضفاض وشديد الإلتباس. سلام المقابر هو شكل من أشكال السلام الذي يلهم قلة من الناس. والمفاوضات التي يملي فيها طرف واحد شروطه ليس فيها شيئا من المفاوضات, لأنها تفتقد إلى عنصر أساسي وهو أن كلا الطرفين المتخاصمين يصلان, في ختام محادثاتهم, إلى وضعية لا تتضرر فيها مصالحهما الأساسية. في حين أنه بالنسبة أي سلام لا يؤدي إلى الاعتراف من جانب الفلسطينيين بأنه ليس لديهم أي حق في الأراضي الفلسطينية يعتبر لا طائل, لإسرائيل منه لأنه سيكون حالة تتعارض مع تعاليم الكتاب المقدس كما يفسرها الصهاينة. * فالوزير الأول اليهودي لإسرائيل أكد في عديد من المرات, وخلال كامل مشواره السياسي, مثله مثل كامل الطبقة السياسية ليهود إسرائيل, أكد أن الكتاب المقدس هو كتاب سجل ملكية الأراضي لإسرائيل, عليه وبناء, فإن التنازلات عن الأراضي التي تشكل في رأي الجميع عناصر إلزامية لأي سلام عادل ودائم, هي أمر غير وارد. * من ناحية أخرى, فإن وزير الخارجية اليهودي لإسرائيل أشار إلى أن الحدود التوراتية (المقدسة أو) لإسرائيل يجب أن تكون مقبولة من الدول المجاورة كحدود شرعية لهذه الدولة التي لديها فيها حق إلاهي, في حين أن هذه الحدود تعني ضم سيناء, واحتلال جنوب لبنان من مدينة صور, ضم الأردن الحالي, وضم الجولان بصورة نهائية والنصف الجنوبي من سوريا الحالية, وجزء من غرب العراق وشمال المملكة العربية السعودية ودولة الكويت كاملة. أي سلام لا يعترف بهذه الأرض الممنوحة من طرف الله لليهود يعتبره الصهاينة مجرد هدنة مؤقتة, واستراحة مواصلة قبل تحقيق الحلم الصهيوني, الذي لم يتحقق إلا جزئيا. * من ناحية أخرى, أي سلام لا يجعل من إسرائيل دولة يهودية مائة في المائة يعتبر ناقصا فالهدف النهائي هو إفراغ إسرائيل كما يعرفها التوراة من كل السكان غير, أيضا اليهود. وعليه, فإن نوع السلام كما تتصوره السلطات اليهودية في إسرائيل ليس له أي علاقة مع نوع من السلام العادل الذي تسعى إليه, ليس فقط الدول العربية, ولكن أيضا غيرها من الدول. فالمفاوضات ليس لها من هدف آخر سوى دفع الفلسطينيين لإعطاء موافقتهم على استمرار تنفيذ هذه الأهداف, التي لم تخف عنها الحكومات الإسرائيلية المتتالية مهما كان التوجه الذي تقدم نفسها به إلى المجتمع الدولي في ما يتعلق بالسلام والمفاوضات من أجله. * السلطات الصهيونية بجميع اتجاهاتها متفقة على هذه الأهداف التي يمكن تلخيصها كما يلي: منح الفلسطينيين الاختيار بين الحقيبة والتابوت, وإعطائهم حرية الاختيار بين هذين الخيارين, ومفاوضات أوسلو توضح جيدا سوء الفهم الذي لا يزال سائدا فيما يخص تحديد مصطلحي "السلام" و "المفاوضات". والمحتويات التي تعطيها إسرائيل لهذين المصطلحين لا تتطابق, ولو جزئيا, مع تلك التي يعطيها لهما الفلسطينيون والدول العربية أو المجتمع الدولي ككل. فبالنسبة لإسرائيل, السلام يعني تحقيق الهدف النهائي كما شرعه الله, أي الرحيل الجسدي لجميع السكان غير اليهود من جميع أنحاء الأرض التي منحها الله لليهود, والتوسع الجغرافي لإسرائيل إلى الحدود التوراتية أو الحدود التي يقرها التوراة. وبالنسبة للفلسطينيين والمجتمع الدولي, فالأمر يتعلق بالتوصل إلى تحقيق اعتراف متبادل بحقوق اليهود وحقوق شعب فلسطين, دولة وإنشاء فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة اقتصاديا وأمنيا. قد يكون الصهاينة دون شك مستعدين لقبول هذا السلام كحل وسط مؤقت, ولكن معتقداتهم الدينية تمنعهم من اعتباره نهائيا. * بالنسبة لإسرائيل فإن المشكلة الفلسطينية هي ليست مشكلة حقوق متبادلة ينبغي الاعتراف بها أو منحها, ولكنها مشكلة داخلية يجب أن تحل طبقا للتعاليم الإلهية التي تشترط التصفية الجسدية للشعب الفلسطيني. إن النهج الاسرائيلي الثابت والمنسجم يرمي إلى دفع المجتمع الدولي لقبول رؤيتها الخاصة ومعتقداتها الدينية الخاصة, فإسرائيل لا يمكنها الخضوع لقواعد وأهداف المجتمع الدولي دون انتهاك معتقداتها الدينية. ومعارضة إسرائيل لأي مؤتمر دولي حول القضية, ورفضها لكافة قرارات الأممالمتحدة الموجهة لإرغام هذه الدولة على قبول قواعد اللعبة في نظام العلاقات السياسية الدولية والتي تتعارض مع أهدافها الخاصة, تدخل في إطار هذا المنطق الرامي إلى رفض استمرار المحاولات التي ترمي إلى مواصلة النهج الحالي لتدويل المشكلة الفلسطينية وجعلها هكذا مشكلة أمنية داخيلية خاصة بإسرائيل التي تتحكم هذه الدولة العنصرية بها كقضية تخضع للقاوانين والأنظمة والسياسات الأمنية لصالح يهود إسرائيل, أي قضية خاصة بإسرائيل دون سواها. منطق المنهج السياسي الداخلي والخارجي لإسرائيل واضح ومتناسق ومتواصل بدون هوادة, لأنه مستلهم من مذهب ديني لا يقبل أي تغير أو أي تفاوض مع أية جهة خارجة عن المجتمع اليهودي الإسرائيلي إلا إذا كانت هذه الجهة تساند الصهيونية بدون تحفظ. * الإسلاموفوبيا (أو الكراهية ضد الإسلام) هي واحدة فقط من الأدوات التي يستخدمها الصهاينة وحلفاؤهم من جميع المشارب, لإخفاء وتبرير, في آن واحد, الطابع الإبادي (أو طابع الإبادة الجماعية) لهذه الإيديولوجية الدينية. فالكراهية ضد الإسلام, التي بلغت حاليا أبعادا خطيرة في جميع البلدان المفترض أنها "علمانية", ترمي إلى محاولة إقناع الناس بأن المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني تدخل في إطار فكرة "صراع الحضارات" الشهيرة الذي صاغها صموئيل هانتنغتون, الباحث الذي لم يخف قناعاته الصهيونية العميقة, وأيضا إلى تبرير سياسة التصفية الجسدية التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين. * * تذكرون في كتابكم أن الإيديولوجية الصهيونية ترفض القيم العالمية ولا تطبق حقوق الإنسان إلا على اليهود. في رأيكم, لماذا يسكت المفكرون والساسة ووسائل الإعلام في الغرب على هذا, وفي ذات الوقت هناك حملة منظمة ضد الدين الإسلامي بحجة أنه لا يتلاءم مع حقوق الإنسان ؟ * إذا كانت هناك نقطة لا تترك حولها السلطات اليهودية لإسرائيل أي مجال للشك فهي أن حقوق اليهود في إسرائيل تعد وحدها حقوقا مشروعة. اليهود وحدهم لهم الحق في حرية التعبير من دون حدود, وفي حرية التنقل والعمل, وحق التملك, والحق في التعليم, وحق العيش في سلام, والحق في عدم التعرض للاعتقال والسجن من دون مبرر, والحق في تشكيل الأحزاب السياسية, والحق في عدالة مستقلة وما إلى ذلك. * فالشعب الفلسطيني, سواء الذي يعيش على الأرض الممنوحة لإسرائيل عام 1948, أو في الأراضي المحتلة, والتي هي خاضعة للسلطات العسكرية اليهودية لإسرائيل, ليس له أي حق بالمعنى المحدد والمعترف به من طرف الدول الأكثر تقدما, وبكل بساطة ليس له أي حق إنساني باستثناء الحق في عدم المطالبة بالحقوق والحق في الخضوع الطوعي إلى تعسف السلطات اليهودية لإسرائيل. * عادة ما تنتقد الدول العربية لسوء معاملتها لرعاياها أو مواطنيها, وبصفة خاصة النساء, ولكن عندما نقارن المعاملات اليومية التي تخصصها السلطات اليهودية لإسرائيل للشعب الفلسطيني, فإن هذه البلدان, وحتى وإن كانت الانتقادات الموجهة إليها مبررة, يمكن اعتبارها جنات في مجال حقوق الإنسان. فلا واحدة منها (من الدول العربية), حتى الأكثر فقرا, تعامل شعبها بنفس القساوة, إن لم تكن الشراسة, التي تعامل بها السلطات اليهودية لإسرائيل الشعب الفلسطيني, بجميع مستوياته وبجنسيه. فالنساء الفلسطينيات ليست لهن أية امتيازات مقارنة بإخوانهن من الجنس الآخر, إنهن يتعرض للسجن والاغتصاب, ويمنعن من التنقل, ويتعرضن للطرد من مساكنهن رفقة أطفالهن, ويتعرضن للتعذيب بنفس الطريقة التي يعذب بها الرجال والأطفال الفلسطينيون. * بالنسبة للفلسطينيين فإن إسرائيل هي عبارة عن محتشد كبير, بحيث أن طرقا وحتى مدنا بكاملها مخصصة حصريا ليهود ويهوديات إسرائيل, إذ أن عدد حواجز الشرطة في الطرقات لمنعهم من حرية الحركة أكبر بكثير من عدد الجواجز التي كانت تنصبها السلطات الاستعمارية (الفرنسية) الحرب خلال التحريرية الوطنية في الجزائر. كل دقيقة من حياة الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين هي دقيقة للعنف والإذلال والإحباط الذي يجعل أفغانستان, تحت سيطرة طالبان, جنة على الأرض! هذه السياسة ليست سرا بالنسبة للسلطات اليهودية لإسرائيل التي صنفها الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر بأنها "أبارتايد" أي سياسة فصل عنصري. وهذه السلطات لم تخف أبدا حقيقة أن الهدف من هذه الإجراءات, التي تتعارض مع أبسط مفهوم لحقوق الإنسان, هو إرغام الفلسطينيين على مغادرة الأرض التي يعيشون عليها; فوزيرة الخارجية السابقة (تسيبي ليفني (المتابعة قضائيا من طرف محكمة إنجليزية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية, عبرت بصورة جيدة عن هذه السياسة, ليس فقط باقتراحها رسميا طرد مليون وخمسة آلاف فلسطيني "من عرب 1948", ولكن أيضا بإضافة التعليق التالي: "يجب على الفلسطينيين أن يفهموا بأنه ليست لديهم حياة هنا ومن مصلحتهم المغادرة". فالاعتبارات الأمنية التي تقدمها السلطات اليهودية لإسرائيل ما هي إلا ذرائع موجهة لإخفاء السبب الحقيقي, وهو التطهير (العرقي) للأرض, التي منحها الله لليهود, من كل مجموعة تعتبر غير يهودية. * وفي مقابل الرفض المتعمد من قبل السلطات اليهودية لإسرائيل للامتثال للمعايير المعترف بها دوليا لمفهوم حقوق الإنسان, وهو موقف كان من شأنه أن يجعل هذه الدولة منبوذة من قبل المجتمع الدولي منذ فترة طويلة, في مقابل ذلك, فإن مزاعم إعطاء الدروس في مجال حقوق الإنسان تبدو كستار يخفي مخططات السياسة الخارجية التي ليس لها علاقة بالدفاع عن حقوق الإنسان, وهذه الانتقادات موجهة فقط إلى الدول التي ترفض الإنصياع والامتثال للنوايا المعلنة والخفية للدول التي تعطي دروسا في حقوق الإنسان. * * مر عام على الحرب الإسرائيلية على غزة التي لا يزال شعبها رهن حصار مميت. بناء على ما ذكرتمونه في كتابكم عن الإيديولوجية الصهونية, ما هي الأهداف البعيدة لإسرائيل من وراء الزج بغزة في الوضعية التي هي عليها منذ أكثر من سنتين؟ * كما شرحت مطولا في كتابي, فإن الهجوم البربري ضد سكان غزة من قبل الجيش اليهودي لإسرائيل, حيث تم استخدام أسلحة محظورة بما في ذلك الذخيرة المشعة التي استخدمت بكثرة ضد المدنيين العزل, تم تقديمه على أساس أنه نتيجة لسلسلة من الأحداث المختلفة منها أساسا إطلاق صواريخ وقذائف هاون على الاراضي التي طرد منها الفلسطينيون الذين يعيشون في قطاع غزة في إطار سياسة التطهير العرقي تطبيقا للإيديولوجية الصهيونية التي تتلخص كما يلي: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". كثيرون هم المعلقون الذين ذهبوا في هذا الاتجاه, بما في ذلك الذين لا يجهلون شيئا عن الإيديولوجية الصهيونية, في حين أن التصريحات المنسجمة التي أدلت بها السلطات اليهودية لإسرائيل, قبل وبعد العدوان, لم تخف سرا طابع الإبادة الجماعية لعملها في انسجام كامل مع الإيديولوجية الصهيونية: اقتلوا الفلسطينيين أو اجعلوا حياتهم مستحيلة, في جميع المواقع, حتى يتركوا بمحض إرادتهم, الأراضي التي تعتبر إنجيليا حصرا على اليهود. فالجنرال الحاخام الأكبر لإسرائيل أكد الطابع الديني لعملية التصفية الجسدية هذه, وهو لم يقم سوى بتكرار السياسة المعلنة من قبل السلطات اليهودية الأخرى لإسرائيل. * لقد شاهدنا تضامنا دوليا, مثلا, إثر الكارثة الطبيعية التي ضربت هايتي, ولا يسعنا إلا أن نرحب به. ومهما يكن عنف هذه الكارثة, فإن عدد الأشخاص من دون مأوى الذي خلفته, سواء نسبيا أو مطلقا, هو أقل بكثير مما خلفه هجوم القوات المسلحة اليهودية لإسرائيل ضد سكان غزة, حيث فقد 90 في المائة منهم منازلهم. لقد دمرت إسرائيل عمدا, ليس فقط المناطق السكنية, ولكن أيضا المساجد والمستشفيات والمدارس, والمحاجر, ووحدات خلط الإسمنت والجسور والطرق وما إلى ذلك, وبطريقة منهجية بهدف جعل عملية إعادة بنائها مستحيلا. إنها (إسرائيل) تضرب على مدى أربع سنوات حصارا محكما ضد الفلسطينيين, وذهبت إلى حد تصنيف الاسمنت المستورد كمورد عسكري! فهذه هي المرة الأولى في التاريخ الجمركي الدولي التي يتم فيها تصنيف مادة حيوية في البناء كمعدات عسكرية! * من الأجدر أن نذكر مرة أخرى هنا بسلبية المجموعة الدولية إزاء معاناة الشعب الفلسطيني, الذي يعاني من الظلم بعد طرده من أرضه بالعنف; فإذا ما سارعت لنجدة المتضررين من كارثة طبيعية, فهي تتصرف ببعض السلبية, إن لم تكن متواطئة, إزاء سياسة الإبادة الجماعية المنفذة عمدا ضد غزة. إن هدف إسرائيل واضح لا لبس فيه. * ليس هذا ما يمكن قوله عن موقف الدول, بجميع معتقداتها الدينية وإثنياتها, وأنظمتها السياسية, إزاء إرادة الإبادة الإسرائيلية التي تنفذ ضد شعب فلسطين, بشكل واضح لا لبس فيه في غزة, بل نجد حتى محللين يبررون هذه المعاناة بضرورة الوصول إلى توحيد سريع للصف الفلسطيني, وهو أمر (وحدة الصف الفلسطيني) يستحق الدعم بالتأكيد, ولكن من الصعب أن نجد علاقة منطقية بين حصار غزة والحظر المفروض على الفلسطينيين للعيش هناك وإعادة بناء منازلهم وحياتهم, وهذا الهدف. لكن ينبغي أن نلاحظ أن السياسة الصهيونية تجاه الشعب الفلسطيني لن تتغير قيد أنملة, سواء كانت القيادة الفلسطينية موحدة أم لا. إن المنطق الصهيوني هو منطق إبادي (الإبادة الجماعية) تواصل تطبيقه السلطات اليهودية لإسرائيل, سواء كان الفلسطينيون تحت قيادة واحدة, أو يواجهون العنف المستخدم ضدهم بصفوف مشتتة. * لا يمكن لأي دولة معنية ومهتمة بتحقيق سلام عادل في المنطقة أن تستند إلى هذه الوضعية المؤسفة لتبرير موقفها السلبي تجاه المرحلة الحالية من الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني. إن ضغط المجتمع الدولي, كل الدول مجتمعة, ينبغي أن يكون ليس على الفلسطينيين ولكن على إسرائيل حتى تتخلى عن حلمها بإقامة دولة مطهرة من أي شعب آخر عدا معتنقي الديانة اليهودية, وتتخلى عن مشروعها بإقامة إسرائيل الكبرى, وأن تتخلى عن طبيعتها الثيوقراطية (الدينية) وتعتمد المعايير الدولية الحديثة للحكم, وباختصار أن تتحول من دولة ربية (نسبة الربي إلى في إلى دولة ديمقراطية بالمعنى المقبول من قبل الدول المتقدمة والذي تدعي انتسابها) اليهودية إليه. * هل هذا الأمر يعد طلبا كبيرا من دولة يقدمها الكثير على أساس أنها النموذج الذي يعكس القيم الحديثة? أم أن القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ما هي إلا أسلحة حرب تستخدم بصفة خاصة ضد أعداء معروفين, أيا كان مصدر من العداء? الوضع يبدو على هذه الحالة. إسرائيل هي حجز الزاوية الذي تختبر من خلاله مصداقية هذه الدعوات لأجل احترام قواعد القانون والأخلاق الدولية, التي تظهر فيها دول هامة كرائدة ومدافعة عنها من دون هوادة, والتي لا يجوز أن يفلت منها أي عضو من المجتمع الدولي, من دون استثناء, لأن استثناء واحدا سيحولها الى مجرد ذرائع لتبرير تدخلات لا علاقة لها بالحاجة لهذا المجتمع (الدولي) لقبول حد أدنى من معايير حسن السلوك الذي يميز دولا عادية عن دول ينبغي طردها من المحفل الأممي, وحرمانها من مزايا (أو محاسن) العلاقات الدولية المبنية على أساس المبادئ المقبولة من الجميع, لأن ذلك من مصلحة الجميع!