كان العربي يتناول اللقمة تلو الأخرى، تنزل إلى بطنه دون أن يعرف مذاقها من كثرة ما تعود على تناول" المرشومة "، و أيضا ً لأن ذهنه كان منشغلا ً ذاك اليوم بالحذر من مصر، و هم أن يسأل والده و عمه، لكن خاف من رد فعلهما، فهما قد حذراه من جماعة" بده عيشوش " ، و حضوره كان سرا ً عنهما مثلما يفعل معظم أطفال لقرية و شبابها، و فجأة توقف عن الأكل مصغيا ً لما يدور من حديث بين والده عمر و عمّه مفتاح، حين قال هذا الأخير: شفت اللي داروه الجماعة اليوم (أعرفت الذي قام به الإنقلابيون اليوم ) كان متوقعا نحن العرب أنذال، الكرسي نقتل من أجله الوالدين، و نضيّع الأوطان, كيفاه نحّوا سي" أحمد بن بله "؟! أنا نشوف " أرى " باللي الشعب ما يقبلش يضحك مفتاح ثم يقول : آه يا عمر، أنسيت باللي الناس مع القوي حتى لو كان داب – حمار- حاشاك ابن بله محبوب غدوه " غدا " ينساوه وأصحاب اللي برّه أصدقاؤه في الخارج مثل "جمال عبد الناصر" يصمت مفتاح لحظة ثم يقول : الجزائريون ما يقدر عليهم إلا اللي خالقهم، فرنسا و دوخوها, راح يقدر عليهم جمال عبد الناصر! تبدو على عمر ملامح الحزن، و يواصل حديثه: يا سيدي رايحين نشوفو ويش يصرى منا لغدوة دعنا نرى ماذا سيحدث غدا و اليوم سمعت أخبار تقول أن المظاهرات انطلقت في الجزائر، وعنّابه، ومدن أخرى. يا رجل خليك عاقل، هذو ما يدير والو ، كن عاقلا , فهؤلاء لن يفعلوا شيئا, و بومدين مهوش ساهل، ما دام في يده الجيش واللي جايين إلى الحكم أصعب من ابن بله، ومصيبة جات للبلاد، و اللي كان كان . و جمال ما يقدر ايدير والو جمال لن يستطيع فعل شيء جمال يلتهى باليهود و اللاّ بالعرب، لمن يصد يا رجل، شاغلين على كل جهة . يصمت الاثنان معاً، و يبدو عليهما الحزن، ثم يقول عمر معلقا ًعلى الكلام السابق: لكن مفتاح ، مصر قوية . مصر قوية ، هذا صحيح ، بصح مهيش رايحة تبعث جيش باش ترجع ابن بله إلى الحكم .. إذا دخلت أدير فتنة في البلاد، و الجزائريين ما يقبلوهاش. و واصل الرجلان حديثهما أثناء الغداء و بعده، و كان " العربي " يجلس بينها, و لكن لم يعد يسمع ما يقولان، لأنه انشغل بالمقارنة بين حديثهما و ما ذكره له "بده عيشوش"، حين حذر من مصر، فلماذا التحذير، و قرّرالعودة إليه في المساء، محاولة منه لفهم المزيد. تمصير الجزائر.. وبنت عبد الناّصر " بدّه عيشوش" صوت الرفض و بقية الثورة و حركة التغيير داخل القرية العتيقة، لم يعرف الأحداث الكبرى في تاريخ الجزائر، و لم يستهويه خطاب السلطة عبر قنواتها الممتدة من المدن إلى القرى في شكل ٍ يتجه من الأعلى إلى الأدنى، و مع هذا تجاوب مع خبر الانقلاب و اهتز له طربا ً، تابع الخبر و تفصيلاته عب الإذاعة الوطنية، و إذاعة " هنا لندن "، و لم يجد ضالته في المعرفة المسبقة لسبب الانقلاب، و مع هذا أصر على أن خيرات الجزائر هي السبب. لم تكن عبارة " الجزائر تكفينا و تكفيكم " التي قالها المصريون، القادمون للتدريس وللتطبيب و للإدارة، نابعة منه مثل كل أفكاره المقتطفة من هنا و هناك ، غير أن تحمسه لها أعطى انطباعا ً عاما ً على أنه صاحبها، و في الواقع تسللت خلسة ً عبره إلى الطفل الصغير" العربي ".. لقد جاءت من بعيد، و ما أبعد العاصمة عن القرية العتيقة، محملة بخلافات جوهرية داخل الدولة الجزائرية المستقلة . دون وعي ٍ من " بده عيشوش " الغارق في محليته، الغارق في وطنيته و الغارق أيضا ً في عروبته، كانت عبارته تعطي مبررا ً لما حدث و تعيد إلى أذهان الجزائريين، المثقفين خاصة,ً ذلك الصراع العربي -البربري الذي بدأ منذ أربعينيات القرن العشرين، ثم امتد بعدها، و جاء ولادة غير شرعية لمعاناة البربر و لظهور الشيوعيين كقوة و لهزيمة العرب في فلسطين . ومن المرحلة السابقة عن الثورة إلى غاية التصحيح الثوري 19 في يونيو 1965 ظلت العروبة تراوح مكانها، و تختفي محاولات القضاء عليها نحت مسميات مختلفة خوفا ً من رد شعبي واسع احتمى بالإسلام دينا، و بها هوية للتميز عن الفرنسيين . لم يتفطن" بده عيشوش " لكل هذا , لأن نوازع الافتخار و حال التميز عن سكان القرية، دفعتاه نحو جرف ٍ هاو , نحو الادعاء بالفهم, فقريبه الذي جاء محملا ً بفيروس المرض القاتل من الجزائر العاصمة، الذي تكيف مع الأوضاع عبر عمر الجزائر الاستعماري الطويل، نقله إليه بسرعة، حين قال له: يردد الآن في العاصمة أن المصريين سيستولون على كل خيرات الجزائر . سأله بده عيشوش: و من أبلغك هذا ؟ عرفت الخبر من جاري .. و هو محل ثقة، يعمل في الإدارة . و بدا على بده عيشوش الاستغراب، فسأله : ألسنا أكثر منهم عددا ً ؟ ردّ قريبه و هو يبدو جاهزا للإجابة عن أي سؤال : المسألة لا تتعلق بالعدد، و إنما بالموقع . لم أفهم، رد بده عيشوش . يعني أن وجودهم في سلك التعليم على مختلف مراحله، سيجعلهم متحكمين في البلاد .. وهكذا يكون ماضينا فرنسيا ، و مستقبلنا مصريا . لكن لماذا هذه التفرقة ، و هم عرب مثلنا ؟ ذاك هو المدخل، فقد قال لي جاري: أن سياسة ابن بله تقوم على تمصير الجزائر وليس تعريبها، فمثلا ً: لماذا لم يأت بمدرسين و أساتذة من الدول العربية الأخرى، ليس هذا فقط بل هناك من يقول أن ابن بله سيتزوج بنت جمال عبد الناصر . الوزير" بوتفليقة" السبب! تجاوب " بده عيشوش " مع ما يقوله قريبه"حشاني"و بدا له الأمر محيرا، فسأله: و هل قادة الثورة الموجودين في الحكم لا يعرفون هذا ؟ أجابه حشاني على اعتبار أنه المطّلع، والخبير ، والقريب من مراكز صنع القرار، مادام في العاصمة، ومادام جاره في الإدارة: القيادة على معرفة بكل ما يحدث، و لكنها عاجزة عن فعل أي شئ ، لأن بومدين مساند له، وكما تعرف فإن " هواري " هو الآمر، الناهي، لكن لا تقلق، فهناك من يقول أن إبعاد ابن بله ، للوزير عبد العزيز بوتفليقة " من الحكم، جعل بومدين ينقلب عليه . بقى " بده عيشوش " يستمع لأحاديث " قريبه " القادم من العاصمة لمدة ثلاثة أيام، واكتفى باستقبال للمعلومات، مع أسئلة عابرة يطرحها بين الحين والآخر, و كان خائفا ً من البوح, لكنه رغب في القول للآخرين : أنا وحدي أملك المعلومات عما يحدث في العاصمة دون أن أبرح القرية العتيقة . بين الخوف من البوح و الرغبة في التأثير قضى"بده عيشوش" أياما ً عصيبة, فهو مستقر في الظاهر، مستنفر في الداخل، غير أنه ما كان يعتقد حدوث ما سيؤكد معلومات صديقه .. فتلك حال أكبر من الحلم و من الخيال، و مما يوعد الناس به في عالم الغيبيات، فزعامة " ابن بله " طاغية، وحضوره داخل القرى والمدن بلا منافس و لا منازع, لهذا كان بده عيشوش يسأل نفسه دون أن يدلي بذلك للآخرين: - من يجرؤ على الإطاحة بابن بله ؟! . سماع خبر الانقلاب، أكد له أن مسألة الزعامة نسبية، و قال محدثا ً نفسه : لو كان ابن بله زعيما ً لكل الجزائريين، ما تجرأ الانقلابيين على الإطاحة به، غير أن الذي كان يهمه أكثر في ذلك اليوم المشهود، أمرين ، الأول : علمه المسبق بخلفية ما حدث بناء ً على رواية قريبه حشاني, و هذا يتعلق بحاضره، و الأمر الثاني: تحضير نفسه للدفاع عن الانقلابيين, لأنهم جاءوا لتحرير الجزائر من الاستعمار الجديد . الجزائر هدية بن بله لعبد الناصر حين حل العصر، خرج سكان القرية بعد القيلولة، مثلما تخرج الزواحف في ليالي الصيف الحارقة بعد أن تبرد الرمال من لهيب الشمس .. توجه العربي إلى " بده عيشوش " لمعرفة المزيد من الأخبار، فهو مصدر المعلومات و منبع الصدق ، و لم يكن العربي وحده، بل سبقه إليه بعض الشباب و الأطفال .. لحظتها، و قد تأكد خبر الانقلاب، ورحل الخوف عن بده عيشوش، و عاد إليه توازنه، فقال : اليوم عيد في الجزائر، لأنه يصحح مسار الثورة، فقد كادت أن تضيع الجزائر بسبب أخطاء بن بله سأله أحمد: و ما أخطاء سي بن بلة ؟ لقد أراد تقديم الجزائر هدية لمصر ، .. توقف لحظة، و لم يسال أحد من الحاضرين عن السبب، و بدا كمن يبحث عن شئ ضاع منه.. ها هو يدخل يده في جيبه ثم يخرجها سوداء من غير سوء كما هي ثم يضع اليد الأخرى في الجيب الثاني, و لكنها هذه المرة تخرج مصحوبة بدينار، بدت على وجهه الأول صورة ليدين متماسكتين ، ثم قال و هو يعلن الدليل عن إدانة ابن بله : أرأيتهم هذه الصورة على وجه الدينار؟.. إنها تمثل التحالف بين جمال عبد الناصر و أحمد بن بله على اقتسام خيرات الجزائر سأله أحد الجالسين، و كان أعرجاً ، متسخ الثياب : - ماذا تعني بخيرات الجزائر ؟ كل الخيرات ، البترول، الحمضيات، التمور، .. لم يقتنع السائل بما يقول، لكنه لم يواصل أسئلته، و أدرك بده عيشوش ذلك، فقال مواصلا ً حديثه : قد عرفت أن ابن بله كان يحضر للزواج من ابنة جمال عبد الناصر، لكن ضاعت منه هذه الفرصة . كان " العربي " يستمع إليه، و هو في حيرة من أمره، و تغيّرت نظرته ل " بده عيشوش" لأول مرة منذ أن عرفه، و تساءل: - من روى هذه الأخبار؟ ما مصادره ؟ و لماذا لا يرويها للكبار؟ تلك الأسئلة وغيرها حرّكت في العربي مشاعر قلقة عن الماضي, فقد مكث سنتين مستمعا ً، وهاهو يدخل الآن مرحلة السؤال، و السؤال همّ، و الهمّ يقضّ المضجع، و يزيد من عمق البحث، و أعاد من جديد طرح السؤال على نفسه, وهو جالس مع الحاضرين في حلقة بده عيشوش غير مبال ٍ بوجود الآخرين: - هل التحذير من مصر يعد وصية من بده لنا جميعا ً، أم لي وحدي حين عوّل على ذكائي ؟ ولماذا الحذر منها و أنا لا أعرفها؟ توقف عن المونولوج الداخلي ثم واصل مخاطبا نفسه: علي أن أعرفها مهما طال الزمن! و كان عليه أن يخرج من ضيق المكان إلى سعة الزمان، و قرّر أن يبحث عنها في كل الأحداث و اللقاءات.. في الأمكنة و العصور، تحت نور الشمس، و في الليالي الحالكات، في صوت العصافير و خرير المياه ، و كان المكان قريبا ً و الإنسان و الزمان أيضا ً .. لقد وجدها في سن ٍ متقدمة من عمره مصحوبة بوصية " بده عيشوش " و معها اكتشف لأول مرة معنى أن ينهزم العرب بقيادة مصر. الحلقة المقبلة العم مفتاح والهزيمة .. ويوم لا يتزوج فيه الرّجال