عندما فرضت عبادة صوم رمضان على الأمة الإسلامية، وضع الله له ضوابط وقوانين، في إطار توجيهات قرآنية ونبوية، ففي وجوب صوم الشهر قال الله تعالى (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم..)، أما في إثبات دخوله فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاكملوا العدة" أي عدة شهر شعبان، ثم للشروع في الصوم، قال الله سبحانه في بداية صوم اليوم، (كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخير الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل)، أي أن صوم اليوم يبدأ من بداية فجر اليوم وينتهي مع بداية الليل، أي بغروب الشمس، وتوجيهات أخرى جاءت لتوضيح كيفية هذا الصوم ومفسداته ومبطلاته وأعذاره..إلخ. وفي كل ذلك كان ولا يزال الاعتبار الأول والأخير هو العبادة، أي أن الصوم عبادة ولا يراعى فيه شيء آخر، إلا إذا كان خادما لها ولغاياتها؛ لأن جوهر الصوم في الأصل عبادة، وإذا ظهر قصد آخر فيكون بالتبع وليس بقصد الأصلي، إضافة كانت أو إلغاء، وقد اجمع المسلمون على ذلك، مع اختلافات بسيطة في تطبيقات مسائله، شأنها شأن غيرها من المسائل الفقهية عموما ومنها التعبدية، ولكن بعض هذه المسائل، كان للعلم ولسلطة فيها دور، فوقع فيها الاضطراب والأخذ والرد، ومنها ما بقي معلقا . وقضية هلال رمضان وشوال، من هذا الصنف الذي بقي محل جدل سنوي، أو استغلال سياسي، وتصفية حسابات إلى اليوم. ما من عام إلا ويثور فيه جدل حول دخول الشهر مع بداية رمضان ونهايته، لا سيما في عز الخلاف العربي – العربي، قبل ثلاثين سنة، اما اليوم فقد ضعفت الحدة عن ذي قبل. وما دام دخول الشهر قد حسم فيه الحديث وهو رؤية الهلال، فإن الفقهاء اختلفوا ابتداء في تجسيد هذه الرؤية حتى تعتبر شرعية، على ثلاثة آراء؛ لأن وجوب العبادة يقتضي اليقين أو الظن الراجح: الرأي الأول: أن الرؤية تثبت برؤية شخص واحد؛ لأن الحديث لم يشترط العدد، ومن ثم رؤية الواحد، تثبته مثلما تقبل رواية الحديث؛ لأن الرائي هنا يشبه الراوي، فهو يروي بأنه رأى الهلال، ورواية الحديث تثبت برواية راو واحد، وفق ضوابط وضعها أهل هذا الفن. الرأي الثاني: يشترط فبمن يرى الهلال أن يكونا إثنين على الأقل، قياسا على الشهادة لأن الذي يرى الهلال ويخبر به، كأنه يشهد على أنه رأى الهلال، وليس مجرد راوي لما شهد فحسب. الرأي الثالث: يشترط فيمن يرى الهلال، أن تكون جماعة مستفيضة، أي جماعة من الناس يفوقون الثلاثة؛ لأن الهلال عندما يظهر، فإن رؤيته متيسرة لكل الناس، أو لأغلبهم على الأقل، لا سيما إذا كانوا يترصدونه، ومن ثم إذا رآه واحد أو اثنين لا تعتبر الرؤية، لاحتمال الوهم أو الكذب عند من يدعي الرؤية. ويضاف إلى هذه الآراء رأي رابع، وهو اعتبار رأي السلطة في الموضوع، عند الخلاف أو اعتماد، وسائل أخرى مساعدة، فحسم الحاكم معتبر شرعا كما قالوا، لقول الله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). واعتبار الفقهاء الرؤية أمرا أساسيا في ثبوت الشهر ووجوب العبادة، لكونها أيسر الطرق لليقين، ولأن الأحكام الشرعية، والتعبدية منها على وجه الخصوص، ينبغي أن تكون مما يدركه جميع المكلفين، وليس مما هو مقصور على بعضهم، ولذلك كانت العبادات كلها تثبت بأشكال وظواهر بسيطة، لا تحتاج إلى مستوى علمي معين، فوقت الصلاة يدرك بحركة الشمس، والصوم بحركة القمر، ومقادير الكفارات بمقاييس شعبية، المُدّ والرطك والكيلو، والأذرع، والأثمان...إلخ. واحتمال الخطأ في مثل هذا الخلاف وارد، لأن رفض رؤية الواحد، احتمال صحتها وارد، وكذلك رفض رؤية الاثنين، ومع ذلك لم يكن الاختلاف مشكلة في حياة الأمة وفي الحكم على صحة عبادتها. ثم مع تطور علم الفلك، رأى أهل الاختصاص من علماء الفلك، أنه يمكن اعتماد الفلك –الحساب- لإثبات الشهور القمرية، باعتبار أن الفلك اليوم تطور، بحيث يمكن أن يصل إلى اليقين في إثبات الشهور القمرية لعشرات السنين، واعتبروا أن الرؤية هي إما رؤية حسية، وهي التي تكون بالعين المجردة، أو رؤية حكمية وهي التي تثبت بعلم الفلك وإن لم ير الهلال بالعين المجردة..، فأخذ البعض بهذا الرأي، بينما تعلق البعض الآخر بظاهر النص، واعتبروا أن الرؤية المقصودة في النص، هي ما كان بالعين المجردة..، وهنا وقع الشرخ، فالرأي الأول تبنته بعض الدول ومنها الدولة السعودية، التي بنيت على تحالف سياسي ديني بين آل سعود وآل الشيخ؛ يقال أنها ترصد جوائز لمن يروا الهلال، تحريضا للناس على ترصد الهلال، وارتضته الجماهير المسلمة بإطلاق، بمن في ذلك شعوبا تمردت على أنظمتها السياسية، وتبنى البعض الآخر الحساب، ومنه الجزائر على عهد مولود قاسم رحمه الله، فوقع الخلاف، ثم تطور ولم يبق مجرد خلاف بين العلماء من أهل التخصص من فقهاء الشريعة والفلكيين، وإنما تطورت إلى تجريم هذا الطرف أو ذاك، فالذي يقف عند استصحاب الحال القديم اتهم بالتخلف والجهل؛ لأنه يرفض مقررات علم الفلك، أما الذي اعتمد الفقه وتجاوز الطرح التقليدي المقتصر على مجرد رؤية العين، اتهم بعدم تعظيم شعائر الله والاستهانة بالدين. ويضاف إلى هذا الخلاف الذي تحول إلى اتهامات متبادلة، أن السلطة لدى الطرفين، لا تملك من الشرعية ما يؤهلها، لأن يكون لها رأي شرعي معتبر، إلا ما كان من النظام السعودي، الذي لم يعلن غير ما تبناه الفقهاء، وهو اعتماد الرؤية، وسارت على خطاها الجماهير المسلمة. أما الجماهير التي تريد أن تعبد الله كما أمر، فهي إما متبعة لدولة أعلنت عن رؤية الهلال –أية دولة كانت-، ومنها المملكة السعودية، وإما متبعة نظمها، محملة المسؤولين الخطأ والخطيئة، وبقيت الأمور على هذه الحال ردحا من الزمن. وبسبب الخلافات والصراعات السياسية، التي كانت بين النظم العربية، خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حيث كان العرب منقسمين إلى معسكرين اثنين، ليبرالي رأسمالي ويساري اشتراكي، انعكس هذا الخلاف والانقسام على كل جزئيات الحياة، ووظفت فيها جميع القضايا المؤثرة في هذا الصراع، ومنه الدين والقضايا الدينية التي هي لاصقة بالحياة اليومية للمواطن.. ومع التركيز على إقحام المسائل الدينية، في تصفية الحسابات بين الدول العربية، كانت مشكلة هلال رمضان هذه، بحيث بلغ الخلاف في سنة من سنوات منتصف الثمانينيات الفرق بين الصائمين ثلاثة أيام.. بلد أعلن عن الصيام في يوم، وبلد آخر بعده بيوم، وآخر بعده بيوم..، وأذكر في هذا العام، وبسبب الشرخ الذي وقع في المجتمع، أن وزارة الشؤون الدينية في الجزائر، وكان الوزير يومها الشيخ عبد الرحمن شيبان رحمه الله، شرعت في اعتماد الجمع بين الرؤية والفلك – الحساب-، واستمر الوضع على ذلك إلى اليوم. وهذا لم يقع في تاريخ المسلمين، حتى في الفترة التي لم يكن فيها اتصال وسهولة وصول المعلومة، وهذا في تقديري لم يكن له مبرر إلا الموقف السياسي..، ففي سنوات الستينيات والسبعينيات كان الصراع بين السعودية ومصر على قيادة العالم الإسلامي، فالسعودية ارتبط نظامها بالدين سواء بسبب البقاع المقدسة او بسبب تحالفها مع آل الشيخ، أما مصر على عهد عبد الناصر فكانت دولة اشتراكية يسارية هي إلى العلمانية أقرب. فالشعب المصري لم يكن ليميل لنظام بلاده، وهو يتبنى العلمانية، بالعكس سوف يرى أن السعودية أقرب إليه فيما يتعلق بدينه، لا سيما عندما كانت السعودية تؤوي الإخوان وتحتضنهم أيام محنتهم مع عبد الناصر. ونحن أيضا في الجزائر كان مثلنا في الإطار الشعبي، من يعلن عن اعتماده الرؤية في رمضان، ومنها الدولة السعودية، فنجد من الجزائريين، من كان يصوم مع المغرب أو مع سوريا أو اليمن أو مع ليبيا، أو يرجح فيعتمد عدد البلدان التي أعلنت عن الرؤية. إن مشكلة هلال رمضان اليوم، لم تبق بالحدة التي كانت عليها أيام المعسكرين، مما يؤكد أن التوظيف السياسي للمسألة، لم يكن بعيدا عنها، وإنما بقي الجدل حولها بين الفقهاء والفلكيين، نتمنى أن يلتقي الطرفان على قواسم مشتركة بينهم، وينطلقون من تعظيم العبادة وإنزالها منزلتها لأن الله، يريد منا الصدق والإخلاص وتقديس العبادة، كما يريد منا تعظيم العلم وإنزاله منزلته أيضا للوصول إلى عبادة كاملة وعلم صحيح.