قضية الخليفة، أو قضية سونطراك أو الطريق السيار أو أي جريمة اقتصادية أخرى لم تكن لتصبح بهذا الحجم لو تمت معالجة إشاراتها الأولى قبل أن تتحول إلى وقائع وفضائح من الحجم الكبير لا يمكن إخفاؤها. بدون شك لم تبدأ قضية الخليفة ولا سوناطراك ولا الطريق السيار هكذا فجأة ومن اليوم الأول بالحجم الذي نراه عليها اليوم: تحويل الملايير أو تبديدها أو نهبها، إنما بدأت بمخالفات أولية للقانون، تم التهاون تجاهها ولم تُردع في حينها من مَنح التراخيص والامتيازات والمسؤوليات لأشخاص ليسوا أهلا لها ولا تتوفر لديهم شروط المستثمرين أو المسيرين الإداريين، إلى التغاضي عن أخطائهم الأولى وعدم إخطار العدالة بذلك في حينه إلا بعد أن تفاقمت وأصبحت أكثر مما يحتمل أي قطاع أو هيئة تسيير أو مؤسسة. لقد دق ناقوس الخطر شرفاء ومسؤولون في أكثر من مستوى ونَبَّهت الصحافة الوطنية إلى ذلك، إلا أن تدخلات مشبوهة هنا وهناك منعت أصوات هؤلاء من أن تتحول إلى فعل ملموس يمنع الانزلاق إلى ما هو أخطر وأجّلت إخطار العدالة إلى حين نُصبح في حال الاستعجال الذي يعني بالضرورة أنه فات الأوان لتصحيح الأوضاع... كان بالإمكان مثلا، منع قضية الخليفة من أن تكبر عند الانطلاقة وتجنيب آلاف المواطنين تلك الخسائر الكبيرة التي تكبّدوها. كما كان بالإمكان منع تضخم مشكلات قطاع المحروقات وكذا الطريق السيار إلى ما هي عليه الآن.. لماذا لم يتم ذلك في حينه؟ لماذا تُركت الأمور إلى اليوم؟ بكل تأكيد لم يتم ذلك لوجود من كان يحمي الخليفة ويغطي على مسؤولي سوناطراك والطريق السيار إلى أن تتحقق جميع أهدافه ويُصبح في وضع لا يُمانِع فيه من أن تتحول أي من هذه القضايا إلى قضايا القرن أو فضائح غير مسبوقة كما تسميها وسائل الإعلام. وهكذا نصل بمشكلاتنا للعدالة وهي في أعقد حال وبعد فوات الأوان ونقضي على دورها الاستباقي في ردع وقوع الجريمة من خلال التطبيق الصارم للقانون عند ظهور أولى علامات تجاوزه، وبهذه الكيفية نُحمّل العدالة حل مشكلات معقدة ومتشابكة لا طائل من حلها حتى وإن تم ذلك ونطقت بأحكامها وفق ما يقتضيه القانون، باعتبار أن الاقتصاد الوطني أو المواطن أو الدولة يكونون جميعا قد خسروا مسبقا ولن يستفيدوا شيئا من تسليط أشد العقوبات على المذنبين. لقد حقق الفساد أغراضه، ولا تأثير للعدالة عليه. والأمر ذاته ينطبق على ما حدث في أكبر شركة وطنية للمحروقات في بلادنا (سوناطراك). بلا شك أن ما تم تبديده من ملايير لم يتم في يوم واحد أو في صفقة واحدة أو في مخالفة واحدة للقانون، بل نتيجة مخالفات منتظمة وعديدة وصريحة تراكمت على مرّ الأيام والأشهر ولم يُعاقب عليها أحد في الوقت المناسب، حتى إذا ما أصبحت غير قابلة للإخفاء بدأت الإجراءات تتحرك بشأنها. ماذا يستفيد الاقتصاد الوطني وما الذي يفيد المواطن بل وماذا تستفيد العدالة وإدارة السجون من مثل هذه العمليات التي تأتي متأخرة بأشهر أو سنوات؟ لا شيء، ذلك أن الأموال تكون قد نُهبت، والمؤسسة أو القطاع يكون قد دفع الثمن، والمواطن قد مُنع من أن يستفيد من خيرات بلاده. لذا يبدو لنا أن الأهم والأكثر أهمية بالنسبة لاقتصادنا الوطني اليوم، وللمواطن، ولبلادنا، أن نلتفت إلى أشكال الفساد الجديدة الحالية التي تحدث هنا وهناك، وأن يتم وضع حد للبدايات الأولى لأي انحراف لأي صفقة حالية أو قادمة، أي أن نستبق وقوع الجريمة قبل حدوثها. ينبغي أن نتصور وجود بدايات أولى لسونطراك ثالثة لا قدر الله، ونمنع وقوع ذلك، ونتصور وجود أكثر من خليفة اليوم في شكل جديد ونَمنع من أن يتحول إلى خليفة آخر نسميه فلان أو فلان.. وقس على ذلك بقية القطاعات. هذه هي الطريقة الوحيدة التي تمنع الفساد من أن يعم وينهك الاقتصاد الوطني. ذلك أننا نعلم جميعا أنه لا المتورطين الحقيقيين في قضية سونطراك 1 أو 2، ولا المتسببين في كارثة مجمع الخليفة، أو الطريق السيار، سيُفيدون شيئا الفرد الجزائري بعد إلقاء القبض عليهم أو إدانتهم.. قد يقضي بعضهم عقوبته ويخرج وينتهي كل شيء، الأموال لا تُردّ والشعب الجزائري لن يحقق أي نتيجة، والفساد سيستمرّ. إن مشكلتنا تكمن في معالجة مشكلات الحاضر والأهم من ذلك المستقبل. منع تكرار ما حدث، لا فتح نقاش وجدال حوله، وربما التضحية بأبرياء لا علاقة لهم تماما بالموضوع.
وسائل الإعلام اليوم تتكلم عن فساد في أكثر من قطاع، والمواطنون ينددون بمسؤولين مازالوا يملكون سلطة القرار اليوم، والشارع يتحدث عن أسماء من الوزن الثقيل بمعلومات تحمل بعض الحقائق إن لم تكن كل الحقائق. وليس على العدالة سوى أن تستبق ذلك قبل فوات الأوان، قبل أن تُصبح قضايا يختلط فيها الاقتصادي مع السياسي، وتنوير الرأي العام مع التلاعب به وتلهيته إلى حين بروز قضايا أخرى. العدالة اليوم بإمكانها الاستباق حقيقة، وإذا استبقت المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ستكون بحق هي مفتاح تقدم البلاد، والمحور الذي يرتكز عليه مشروعها المستقبلي.