أكثر من أي وقت قريب، تتفق اليوم جميع مكونات الطيف السياسي، موالاة ومعارضة، في السرّ أو العلن، على أنّ البلاد مقبلة على تدشين أزمة مالية حادّة، قد تتحوّل إلى معضلة سياسية واجتماعية خانقة، تنسف بنيان الاستقرار الهشّ من الأساس، إذا لم يتدارك العقلاء الوضع الخطير في الحين وبالطريقة المناسبة. أفق الجزائر القريب وحتّى المتوسّط أضحى ملبّدا بسحب الخوف وهواجس المجهول، بالنظر إلى معطيات الواقع القائم على أكثر من صعيد، ومثل هذه التوقعات ليست فقط رسائل تثبيط تبعث بها المعارضة لإرباك الشارع، بل هي تحاليل المراقبين ودوائر الرصد الاستراتيجي، والسلطة تدرك أكثر من غيرها مدى خطورة المنعرج الذي تمرّ به، حتّى وإن اجتهدت في كتم أنينها تحت أهازيج الثرثرة الرسمية! لكن، هل يكفي أن نبثّ الرعب ونزرع الهلع بين المواطنين؟ ننفّرهم بشرر سوف يأتي على الأخضر واليابس، فلا يبقي ولا يذر، لنزيد من متاعبهم النفسية ونسهم في فشلهم المعنوي قبل الأوان، الأكيد ليس هذا هو دور النخب الملتزمة، ولا الساسة المخلصين، ولا حتّى مهمة الإعلام الوطني الغيور على مصالح البلاد. إن الواجب في ظلّ هذه الظروف الحرجة التي بدأت شهبها تحاصرنا من كل جانب، أن نرسم معالم السير الصحيح، ونضع خارطة طريق نحو برّ النجدة والأمان، لأن التحدّي والرهان المفروض على الجميع، يملي على أبناء الوطن الواحد قليلاً من التواضع أمام عظمة الأمّ وفضلها وإحسانها. ما أحوج الساسة اليوم، على اختلاف مواقعهم، لامتثال القول المأثور عن حكيم الإسلاميين الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله، حينما نادى في قومه، وهو يكابد مشقة المحنة الأمنية منتصف التسعينات، "الجزائر فوق الرؤوس والرؤساء". كان الرجل يعني بها تقديم مصلحة الوطن فوق نزعات الحكام وأهواء الأشخاص، لأن مكتسبات الدولة أسمى من رغبات النافذين، وأغلى من طموحات العابثين بمصيرنا المشترك. وكأنّي بالأحداث تعيد نفسها هذه الأيام، مع فارق بسيط في الأشكال والمظاهر، حيث تكرّر النخبة إنتاج الأزمة التي لم نبرحها في الحقيقة منذ مطلع الاستقلال، ما يستوجب التفكير في حاضر ومستقبل البلاد بروح وطنية، وعقل حصيف، ونظر بعيد الأمد. هل يكفي إعلان الحكومة عن تدابير إجرائية، ذات طابع تشريعي وإداري وتنظيمي، لتفعيل حركة الاقتصاد المصاب بالشلل منذ عقود، ومن ثمّ تجاوز تبعات الانهيار النفطي على الخزينة العمومية؟ تجارب الدول تثبت أن مواجهة الأزمات لا تقتصر على القرارات الفوقية مهما كانت مهمّة وصارمة، لأن طريقها للتجسيد الفعلي سيصطدم بعقبات الميدان، بل تجابه الأمم الواعية محنها بالتعبئة الاجتماعية والنفير العام، حينما يستشعر الجميع خطورة الموقف، وتجد كل الشرائح موقعها في معركة البناء. حتى الآن، تبدو برأي مراقبين، مقاربة السلطة للوضع عرجاء، فهي ما تزال متشبثة بقدرتها الانفرادية على الانعتاق من عنق الزجاجة، وتدارك ما فاتها في بحبوحة اليسر بالتحكم في ضنك العسر، تصمّ آذانها وتغمض عيونها عن رؤية الحقيقة عارية، مثلما ترسمها الأرقام والمعطيات والوقائع الثابتة! ما يخيف فعلا هو أن الوضع المالي للبلاد يتدهور في سياق داخلي وإقليمي جدّ حساس، ما يضاعف من تداعيات وأبعاد الأزمة، ويفرض الشمولية، وربّما الجذرية في علاج مسبباتها المباشرة، وليس مجرّد الاكتفاء بتسكين أعراضها الخارجية، هذا يعني شيئا أساسيا، وهو تماسك الجبهة الاجتماعية وتلاحمها شبه الكامل، لكن هل هذا ممكن في ظلّ التوتر السياسي الذي تعيش على وقعه الجزائر في الآونة الأخيرة؟ إنّ تأمين المستقبل لن يتحقق بحسب المتابعين إلّا بالتقاطع في منتصف الطريق بين السلطة ومناوئيها، للاجتماع على كلمة سواء من أجل الجزائر، لأن لعبة ربح الوقت من أهل القرار، أو محاولة ليّ الذراع من قبل منازعيهم على الحكم، لن تجدي نفعا في ظلّ موازين القوى القائمة بين الطرفين. قد يقول قائل، إنّ مثل هذا الكلام معقول، لكن يبقى "الكيْفُ" هو محلّ السؤال العويص؟، غير أنّ العارفين بشؤون الصراعات السياسية يؤكدون أن بداية الطريق هو توفّر الإرادات الخيّرة والصادقة، وبعدها تتكفل الحوارات والتفاهمات بضبط الآليات الملائمة.