ليس المقصود بعروس السواحل لقب لفتاة جميلة نالته وأحرزت عليه في تلك المسابقات الرذيلة التي يقيمها أراذلنا هنا وهناك للضحك على البنات، والعبث بأعراضهن؛ وإنما المقصود بها هي مدينة "آزفون"، التي اجتمع فيها جمالان وجلالان، جلال البحر وجمال زُرقته وجلال الجبل وجمال خضرته. وقد أطلق عليها هذا الوصف الشاعر عبد الرحمن عزوق (1)، وهو وصف حقيقي وليس من خيال الشعراء. وإذا كان لكل عروس وصيفتان عن يمين وشِمال، فإن وصيفتي "آزفّون" هما "تيڤزيرت" و"بجاية". * لقد زرتُ مدينة "آزفّون" عدة مرات، ولكنني لم أحس بجمالها كما أحسست به عندما زرتها يوم السبت الماضي، وقد أرجعتُ ذلك إلى أنني كنت أزورها صيفا، حيث يكثر زوّارها، وتضيق بالسيارات الطرقات، ويعلو الضجيج ليلا ونهارا، وكل أولئك منغّصات عن التمتع بذلك الجمال الساحر. * ما إن أشرفت على مدينة "آزفون" وامتلأت عيناي بآيات الجمال حتى ورد على ذهني قوله تعالى: »هذا خلقُ الله، فأروني ماذا خلق الذين من دونه«، كما تذكرتُ أبياتا للشاعر أحمد شوقي علمها لنا أستاذنا عبد الحفيظ بدري رحمه الله وهي: * تلك الطبيعة قِف بنا يا ساري * حتى أريك صُنع الباري * الأرضُ حولك والسماء اهتزّتا * لروائع الآيات والآثار * من كل ناطقة الجلال كأنها * "أم الكتاب" على لسان القاري * دلت على ملك الملوك فلم تدع * لأدلة الفقهاء والأحبار * من شكّ فيه فنظرة في صُنعه * تمحو أثيم الشك والإنكار * و"آزفون" باللسان الأمازيغي المحلي يحتمل معنيين، فإما أن يكون مشتقا من كلمة أسفون، أي الريح الباردة، وإما أن يكون اسما لصنف من السمك (2). * لقد لطخ الفرنسيون مدينة آزفون ونجّسوها مرتين؛ مرة باحتلالهم لها كسائر مدن الجزائر وقُراها؛ ومرة عندما أطلقوا عليها اسم مجرم من أكابر مجرميهم، هو الأميرال دوڤيدون (de Gueydon)، الوالي العام الفرنسي في الجزائر، الذي تميّز بالنزعة الصليبية حتى سُمي "الأميرال كاردينال"، وكان من أشد أنصار شيطان إنسيّ هو الكاردينال لافيجري، وتعاونا تعاونا كبيرا لتنصير الشعب الجزائري، خاصة إخواننا أبناء زواوة، حتى إن لافيجري الكذّاب الأشِرَ كان يشيع ويذيع فِريتهُ التي تقول: إن "القبائل والفرنسيين ينحدرون من سلالة واحدة، هي سلالة الرومان (3)". * لقد توجهت إلى مدينة آزفّون تلبية لدعوة كريمة من الإخوة أعضاء "الجمعية الثقافية تامُوسْنِي"، وذلك للمشاركة في اليوم الدراسي الذي أقامته لتكريم أحد أبناء تلك المنطقة، الذي شعّ فكره على الجزائر كلها عن طريق دروسه ومحاضراته، ومقالاته، ومؤلفاته، وهو الأستاذ الفاضل محمد الصالح الصديق. * لقد شاهدتُ الفرحة تشعّ من وجه الأستاذ الكريم، وأحسستُ السعادة تغمر قلبه، وتملأ جوانحه؛ لا لما في هذا التكريم من جوانب مادية؛ ولكن لأن كثيرا ممن تناولوا الكلمة هم ثمرة من ثمرات هذا الأستاذ، غرسها فسائل، ومدّ الله عز وجل في عمره حتى رآها خمائل. وليس أسعد للأستاذ الأصيل، ذي الخلق الجليل من أن يرى غرسه قد نما، وأينعَ، وأتى أكله. * رغم أنني تشرفت بالتتلمذ على الأستاذ محمد الصالح في ثانوية رمضان عبان (1964 1965)، وما أزال أتتلمذ عليه حتى الآن لما توثّق بيننا من أواصر، فإن شهادتي له، وإشادتي به لا تبدو شيئا مذكورا أمام شهادة كبارنا له، وإشادتهم به أعمالا وخلالا، ومن هؤلاء الكبار الذين يحقّ للأستاذ أن يفاخر غيره بإشادتهم به، الشاعر الفحل محمد العيد آل خليفة، الذي بعث قصيدا للأستاذ محمد الصالح عندما أهداه كتابه "مقاصد القرآن"، ومما جاء في ذلك القصيد: * واشكر لصاحب الأديب محمد * الصالح الصديق في الشبان * هذا أوفى الأوفياء لدينه * ولشعبه، هذا فتى الفتيان * هذا أذكى الأذكياء بعمقه * في بحثه وشعوره الوجداني * ومسابق العلماء في أشواطهم * وكفاك بالعلماء من فرسان * ومُثقّف الطلاب تثقيف الهدى * بدروسه في "المعهد الرحماني" (❊) * إن الجزائر توّجت بك رأسها * تاجا تتيهُ به على التيجان (4) * كما بعث إليه الشاعر المناضل أبو اليقظان قصيدة عن الكتاب نفسه جاء فيها: * يا أيها "الصديق" بُشرى بالمُنى * إذ نِلتَ حقا أفخر النيشان * صُغْتَ واليواقيت التي * عظمت لدى البنغا بسلك بيان * رصعتها طوقا لصدر شبابنا * لقيادة الفتيان والشبان * فليهنك الذكر الجميل بهذه * الذكرى لدى البلدان والأوطان (5) * هنيئا لمنطقة آزفون، الأم التي أنجبت للجزائر كثيرا من العلماء والمجاهدين، مثل أبي يعلى الزواوي، وباعزيز بن عمر، ومحند تازروت، المفكر المجهول، ومراد ديدوش، الذين رفعوا ذكرها، وأذاعوا صيتها، وهنيئا للأستاذ محمد الصالح الصديق، وشكرا للجمعية الثقافية تامُوسْنِي، ولطمع أن تزيد. * * 1) محمد أرزقي فراد: آزفون. ص 7. * 2) المرجع نفسه. ص 12. * 3) محمد الطاهر وعلي: التعليم التبشيري في الجزائر. ص 58. * 4) المعهد الرحماني، هو معهد الشيخ عبد الرحمن الإيلولي. * 4) اسماعيل ميرة، المجاهد محمد الصالح الصديق.. ص 30. * 5) ديوان أبي اليقظان. ج 2. ص 67.