عندما تعول سياسة الناس في الناس على إدارة أمور الناس بإشراك كيدي للعامة في بعض طقوس الفساد المستشرية عند الخاصة، وإرداف الفتنة التي قطعت الأعناق بفتنة تقطع فيها الأرزاق، نكون بمحل تكييف تهمة ارتكاب جريمة "القتل الاجتماعي الجماعي" التي لا تختلف عن قتل الأنفس، بل أن قطع الأرزاق هو أشد من قطع الأعناق، في دولة ولدت مؤسساتها على عجل، وتحتاج في الأجل العاجل إلى أكثر من إصلاح، يبدأ باعتراف المستكبرين بحق المستضعفين في وراثة بلد المليون ونصف المليون شهيد. على امتداد ساعات الأسبوع، أجتهد بقدر المستطاع في رصد وتعقب الأحداث الوطنية الكبرى، وفي سيرة الحكومة ومؤسسات الدول، في مسعى أردته دائما أن يكون إيجابيا، يدفعني إليه الاعتقاد أن الشعوب تحتاج إلى جرعات يومية من ترياق التفاؤل، شأنها في ذلك شأن الفرد، الذي لا يصمد طويلا أمام تدافع الأحداث السيئة والمصائب داخل فضائه الحيوي، وإلا سقط بلا رجعة في شراك الكآبة التي يولدها اليأس والقنوط. غير أن مؤسسات الدولة، وعلى رأسها الحكومة ورئاسة الدولة، ومعها المؤسسات المنتخبة منشغلة على ما يبدو في إمضاء سياسة غامضة، أعترف أنني أفشل في قراءتها وتحديد هويتها، أو الإحاطة بمضامينها، لأنها تخرج عن المألوف، وما يتوقعه عاقل من الحكومة، أيا كانت، يفترض أنها تكون حريصة على إبقاء جذوة الأمل عند شعبها حية، حتى حين لا تكون مالكة لوسائل تحقيق جانب من الوعود والتعهدات التي قطعتها على نفسها، أو التي هي من صميم واجبات أي نظام حكم حتى لو كان مستبدا مستهترا . دولة العجزة لشعب المعجزات لا أعتقد أن أحوال دولتنا وحكومة بلدنا، قد آلت إلى هذا الحد من قلة الحيلة وضعف الوسيلة، حتى يغتفر لها هذا المستوى من الإفلاس، في إدارة بلد، له ما للجزائر من مقدرات وثروات وفرص للتنمية، وذلك الإخفاق في قيادة شعب، له ما للشعب الجزائري من تقاليد تاريخية عريقة، أثبت من خلالها جدارته في تحمل المسؤولية، والانضباط خلف قيادته حين يتحقق من إخلاصها ووطنيتها، فيصنع معها المعجزات، كما صنع من قبل معجزة التصدي والمقاومة، ثم تحقيق الاستقلال، وإلحاق الهزيمة بواحدة من أعظم الامبراطوريات الاستعمارية، واستطاع منذ عقد من الزمن أن يصمد أمام فتنة دبرها له السحرة من الداخل والخارج، وكان هو من دفع الثمن بلحم ودم أبنائه، وبجملة من التضحيات، والصبر على المكروه، هي التي كانت وراء إفشال مشروع إهدار مقدارات هذا البلد الواعد عبر حرب أهلية مستديمة كانت تدبر له بليل. وكان يفترض من الدولة العائدة من بعيد، أن تضع على رأس أولوياتها، بعد استعادة التوازن لمؤسسات الحكم، وتثبيت الأمن، أن تبادر إلى إعادة النظر في السياسات التي كانت وراء ميلاد الفتنة، وانفجارها بتلك الضراوة المروعة، خاصة أن إخماد الفتنة قد تزامن مع فترة رخاء ويسر منذ بداية العشرية الأولى من هذا القرن، وتضاعفت عوائد النفط التي أنقذت البلاد من الإفلاس المالي، وأخرجتها من دائرة المديونية وما رافقها من تحكم سياسات صندوق النقد الدولي في البرامج الاجتماعية والخدمية الحكومية. من فتنة حمراء إلى فتنة بلا دماء طوال سنوات الفتنة كان بعضنا ينظر إلى الصراع من حيث أنه مواجهة مفتوحة بين الإسلاميين والاستئصاليين، وكان ذلك اختزالا مضللا وقاتلا، صرفنا عن التدبر في أصول الفتنة، التي لم يكن لها صلة، لا بتخوف جانب من أرباب السلطة وقتها من وصول الإسلاميين إلى السلطة، ولا بما شعرت به القوى الإسلامية وقتها من غبن لا ينكره عاقل بعد توقيف المسار الانتخابي. وما زلنا حتى يومنا هذا نجهل الأسباب، والدوافع، والشخوص الفاعلة، التي غذت الفتنة لقرابة عقد من الزمن، وكادت تقوض أركان الدولة، في مجازفة غير محسوبة العواقب، لم تتوقف تداعياتها عن التأثير في حياتنا ومعاشنا إلى يومنا هذا . وربما نكون قد دخلنا أتون فتنة أشد وأعظم من سابقتها، على اعتبار أن قطع الأرزاق يعادل أو يفوق قطع الأعناق، وأن الاستئصال الاقتصادي والاجتماعي هو أشد وأنكأ من الاستئصال السياسي والعقائدي، وأنه بلا ريب، أشد وقعا على المواطن، حين يستقوي الاستئصال الاجتماعي بثقافة الفساد، والرتع الفاضح في المال العام، وباستشراء الفساد كسلوك طبيعي، ليس فقط في الدوائر العليا للحكم، بل في جميع مستويات إدارة الشأن العام، وعلى مستوى سلوك المواطن، حتى أننا، ومن حيث لا ندري، انتقلنا من فتنة إلى فتنة، ومن إرهاب إلى إرهاب، ومن خوف إلى خوف، ومن يأس إلى يأس . قطع الأرزاق بعد قطع الأعناق وإذا كانت الفتنة أشد من القتل بالمفهوم القرآني للفتنة، التي تعني افتتان الناس في دينهم، فإن إدارة البلد بسياسة استئصال أرزاق الناس، والتضييق عليهم في معيشتهم، ونهب ثروات بلدهم، وبإشاعة سلوك الفساد، من غلول ونهب، والتعامل الفاضح بالرشوة والمحسوبية، وتيسير سبل التعاطي بالربا، هي بلا شك مقومات لفتنة " ناعمة " في الدين والدنيا، لا يؤمل فيقرب جلائها بعد حين . وإذا كانت حلقات المراجعة الفقهية قد صرفت طائفة من الذين كانوا يوصفون بالإرهابيين عن العنف والقتل الأعمى، وسلكت بهم دروب التوبة المحمودة، فإني لا أقوى على استشراف كم يلزمنا من الوقت والجهد والوعظ، لحمل الملايين من المواطنين على الدخول في مراجعة مماثلة، وقد ساقتهم الفتنة الناعمة إلى دروب التساهل مع أحكام من عقيدتهم تحرم بصريح النصر، الربا، والرشوة، والغلول، وأكل المال بالباطل، وهي في الجملة في حكم الفساد في الأرض الذي يعدل قتل النفس . من القتل الجماعي إلى القتل الاجتماعي طوال هذه العشرية، التي تراجع فيها القتل الآثم للنفس بغير حق، واستحل فيها القتل الاجتماعي بلا رادع، والفتك بقيم المجتمع بلا خوف من العواقب، لم أصدم بما تكشف من فساد في صفوف العلية، ونهب كبار المسؤولين في مؤسسات الدولة للمال العام، كل حسب ما بين يديه من سلطة، بقدر ما روعني ما رأيت بأم عيني من إقبال المواطنين البسطاء وهم صاغرين على الرشوة مقابل الحصول على خدمات، يفترض أن القانون قد ضمنها لهم، ليس فقط لدى إدارات الدولة، بل حتى داخل مؤسسات خدمية خاصة. وبقدر ما كنا نخشى على الدولة من تعاطيها المفرط مع النظام الربوي العالمي، الذي أدخلنا لعقود في دائرة الاستدانة المستديمة، ينبغي لنا أن نخشى اليوم أكثر على المواطن من دخوله دائرة الاستدانة المستديمة، مع سياسة التشجيع على الاقتراض الربوي، ونخشى أن يلحق به ما لحق بالمواطن الغربي، لأن استشراء الفساد في الدوائر الحكومية قابل للعلاج، ويسهل استدراك تداعياته، حين تتوفر إرادة الإصلاح والتقويم، لكن ليس من السهل استئصال الفساد حين تدين به أغلبية الناس، ويتحول إلى سلوك اجتماعي مقبول لا يخشى ذرة من آمر بالمعروف. ولأنه ما دام المجتمع سليما معافى من آفات الفساد، فإن الأمل يبقى قائما في استئصال الفساد من دوائر الدولة، أو على الأقل لن يمتنع تحجيمه وتضييق الخناق عليه . الوجه الآخر لميتة بلا شرف في أشد أيام الفتنة الأولى ضراوة، كتبت عقب تفجير حافلة ركاب شارع عميروم مقالا بأسبوعية "الوجه الآخر" تحت عنوان "دعونا نموت بشرف" لأن قتل الأبرياء بذلك الأسلوب الهمجي، كان فيه وفي مثله من المجازر التي ارتكبت في سيدي موسى والرمكة وأرياف المدية وغيرها، كان فيه إهانة للجنس البشري، واستهتار بشرف شعب كريم شجاع، باتت أشلاؤه تعرض بلا حياء على الفضائيات، وربما نحتاج اليوم إلى صرخة مماثلة تدعو من بيده الأمر إلى أن يتركنا نعيش بشرف، ولا نساق كبهيمة الأنعام إلى دمى الفساد، ومقابر الموت الاجتماعي، كما سقنا من قبل إلى أديم المقابر الجماعية، ذلك أن القتل هنالك وها هنا واحد، وإن اختلفت آلة القتل، وليس القتل الاجتماعي الذي يذهب بكرامة الإنسان أقل إثما من القتل الذي يذهب بالأنفس، وما نراه من سياسات وسلوك الحكومات المتعاقبة علينا في هذه الفتنة الناعمة، هو بعينه ما يصفه علم الاجتماع بالموت الاجتماعي . وهو حين يطال هذه الأغلبية من المستضعفين، يصير إبادة اجتماعية جماعية موصوفة . أموات أحياء بين أحياء بلا حياء وإلا كيف نصف تلك الألوف المؤلفة من سكان البؤر القصديرية التي تحاصر حواضرنا، أو ما يشابهها من أحياء البؤس والفقر بقلب عاصمة البلاد؟ وهل أن أهلها في حكم تعداد سكان البلاد، أم أنهم قد كتب عليهم الموت الاجتماعي قبل أن تتوفاهم ملائكة الرحمان؟ وهل ما زال يحق لنا إحصاء الملايين من الشباب العاطلين عن العمل بلا أمل مع الأحياء أم أن موتهم، على متن زوارق "الحرڤة" ليس سوى فرارا من قضاء إلى قضاء، ومن موت اجتماعي انقطعت معه أسباب الحياة الكريمة، إلى ميتة مختارة بعد أن انقطعت أسباب الرجاء من الأهل ومن الدولة؟ ثم نقر بعد ذلك بأن قطع الأرزاق هو مثل قطع الأعناق، وأن الذي يقتل بالإقصاء والحرمان يكون حكمه كحكم قتل الأنفس الذي لا يخلو أن يكون قتلا متعمدا مع سبق الإصرار والترصد، أو في الحد الأدنى قتل عن طريق الخطأ والإهمال. وأيا كان التصنيف، فلا بد أن نلتفت إلى هذه الجريمة التي يتحمل تبعاتها ولاة الأمر أولا وأخيرا، سواء كان هذا القتل الاجتماعي عن طريق الخطأ أو الإهمال، أو جاء فعلا متعمدا يراد به الإبادة الاجتماعية لطائفة من الموطنين . القتل الاجتماعي خارج القانون دعونا نتفق أولا حول مفهوم "الموت الاجتماعي" الذي يعني خروج الفرد من بعض دوائر المشاركة الاجتماعية التي بها نتميز عن باقي المخلوقات الحية، حتى وإن كانت بعض الأمم منها تقيم حياة اجتماعية بالفطرة، كما هي أمم النمل والنحل، ومنها يستلهم مفهوم "الموت الاجتماعي" كما هو حاصل في عالم النحل، حيث يسبق الموت البيولوجي عند ذكور النحل موتا اجتماعيا، يبدأ مع طردها من خلية النحل، حتى وإن كان يشفع للنحل أن القضاء بالموت الاجتماعي، يأتي بعد انقضاء وظيفة الذكور وانتفاء الحاجة إليها. هذا بالذات ما نقترفه في حق الألوف من العباد ذكورا وإناثا، بالغين وقصرا، نقصيهم بسياسات وإجراءات متنوعة من دوائر المشاركة الاجتماعية، ونحكم عليهم بالموت الاجتماعي . تأمين الأنفس بتأمين الأمن الاجتماعي وأول هذه الدوائر دائرة العمل ومصدر الرزق، الذي يفترض أن يكون على رأس قائمة الحقوق الأساسية للإنسان، مباشرة بعد الحق في صيانة النفس من الهلاك، وبهذا المعني فإن الملايين من العاطلين الذين تقصيهم السياسات الفاشلة لولاة الأمر من الحق في العمل والاكتساب، يكونون قد ادخلوا دائرة الاحتضار التي تسبق الموت الاجتماعي. حول هذا الركن الأساسي في قيام الحياة الاجتماعية، تنتظم طائفة من الحاجات الوظيفية كالسكن والعلاج والأمن والتعليم، ويكون كل إقصاء للفرد من المشاركة فيها والانتفاع منها، يكون بمثابة إصدار قرار إعدام، وقتل لا يختلف عن سفك الدم والقتل المدان في جميع الشرائع. وبهذا المعنى للموت الاجتماعي تكون أنظمة الحكم متهمة في الحد الأدنى بجريمة القتل الاجتماعي غير المتعمد، إذا نحن أحسنا الظن بها، ولم نحاكمها على النوايا. وكلما اجتمعت لولاة الأمر مقدرات كافية لإنقاذ أكبر عدد من المستضعفين، المهددين بالموت الاجتماعي، وتقاعست عن الوفاء بهذا الواجب الذي يأتي مباشرة بعد واجب توفير الأمن للأنفس، فإنها سوف تكون محل تهمة، ويفترض أن يلاحق فيها المسؤول بما يلاحق به الفرد الذي يمتنع عن إنقاذ نفس مهددة بالموت. في انتظار ميثاق للسلم الاجتماعي قد يتفق الكثير من المواطنين على أن الرئيس بوتفليقة قد اجتهد قدر المستطاع من أجل استعادة السلم والأمن في البلاد، وأنه أعاد قدرا من التماسك والتوازن لدولة كادت تنهار، وساعدته الظروف المالية للبلاد على إبعاد شبح المديونية والإفلاس، ويكون بلا ريب قد نجح، على الأقل بمقاييس المؤسسات المالية الدولية، في تثبيت التوازنات المالية للبلاد، وربما يلتفت المنصفون إلى الكثير من الإنجازات العمرانية التي تحققت في العهدتين السابقتين. غير أن هذه الحصيلة لا يمكن أن تشفع ما آلت إليه حياة الفئات المستضعفة من المواطنين، التي عقدت آمالا واسعة على عهدته الأولى، قبل أن ينقلب الأمل إلى خيبة أمل تلامس حدود اليأس، لأن عامة الناس، أو على الأقل ما يصلنا منها، ترى أنه لم يسبق أن توفرت للأغنياء فرص لمضاعفة ثرائهم الفاحش، بأقصر الطرق وأيسرها، مثلما توفر لهم في العهدتين السابقتين، ولم يسبق للمستضعفين الشعور باليأس الذي لا يخدعه أمل، مثل شعورهم اليوم بضيق الحال، وانقطاع حبل الرجاء من الدولة، بل لم يسبق لرئيس جمهورية أن اعترف علنا بما اعترف به الرئيس بوتفليقة في خطاب له في نهاية العهدة الثانية، أقر فيه بفشل الدولة ومؤسساتها، وليس الإعلان المتأخر عن نية محاربة آفة الفساد المستشري في الدولة، سوى وجها آخر من وجوه الإقرار بفشل الدولة. وكان على الرئيس أن ينتقل من هذا التشخيص الشجاع الذي يحسب له وليس عليه، إلى تشخيص واستجلاء الأسباب التي كانت وما تزال وراء فشل الدولة في الوفاء بالحد الأدنى المطلوب من واجباتها . ولو أنه فعل لكان خلص إلى أنه، لا يمكن الوفاء بالوعود عبر دولة فاسدة، بمؤسسات فاسدة، لو وكل الأمر فيها لطائفة من الملائكة لأفسدتهم، فكيف ببشر تستضعفهم الشهوات. الإصلاح المؤجل لدولة ولدت على عجل لا مراء أن الرئيس بوتفليقة قد ورث دولة فاسدة، وكان سباقا إلى تشخيص موطن الفساد فيها في مؤسسات دستور 88، ويحسب له أنه ما انفك يعد بإصلاحات دستورية منذ العهدة الأولى. غير أن ما يحسب له ها هنا يحسب عليه، لأنه يحتل الموقع الأول والأخطر على رأس الدولة، وليس فوقه جهة يتظلم إليها ضحايا هذا الفشل الجماعي لمؤسسات دولة، ولدت على عجل، وأشرب أربابها في قلوبهم العجل، وسعى فيها كل سامري. وليس فوقه سلطة يرجى منها ما يرجى من ولي أمر لا تخافه الرعية على الأنفس والأعراض، ولا تخشى منه ما يخشى من ولي أمر يكون قد استحب الانتقام من شعبه، لأن هذا هو الشعور السائد عند العامة من الأحياء الأموات من المستضعفين المحرومين من الحق في وراثة أرض المليون ونصف مليون شهيد.