شهدت الأشهر الأخيرة سجالات وتضارب في التصريحات والمواقف بين وزراء الحكومة الحالية، ميزها تراشق وتنصل من المسؤوليات، جعلت الكثير من المراقبين يتابعون ما يجري بشيء من الاستغراب والاندهاش، ويتساءلون عن خلفيات غياب تضامن يفترض أن يكون مجسدا بين أعضاء حكومة واحدة، طالما أن النجاح إذا تحقق يحسب للجميع.. هذه الظاهرة دفعت البعض إلى الاعتقاد بوجود سباق محموم بين بعض الوزراء للهروب من تبعات سقطات وقعت فيها بعض القطاعات، كان لها الأثر المباشر على الحياة اليومية للمواطن، كان للحكومة في بعضها تدخل مباشر، كما حدث في قضية العطلة المدرسية، فيما التزمت الصمت في حالات أخرى كثيرة.. فلماذا يحدث مثل هذا السجال بين وزراء في حكومة واحدة؟ وما أثر ذلك على التضامن الحكومي؟ وإلى أي مدى يمكن السماح بتكرار حدوث مثل هذه الظاهرة؟ ومن يتحمل المسؤولية في كل ذلك؟ هذه الأسئلة وأخرى سيحاول "الملف السياسي" لهذا العدد الإجابة عليها. سجالات تأبى التوقف بين وزراء حكومة سلال غياب التضامن وتنصل من المسؤولية؟ كرّست التصريحات الأخيرة لوزير الداخلية والجماعات المحلية، نور الدين بدوي، حول إلغاء الحكومة قرار بن غبريط المتعلق بتقليص مدة العطلة المدرسية، الانطباع السائد لدى الكثير بشأن غياب الانسجام والتجانس بين أعضاء الحكومة. وكان وزير الداخلية قد أكد أن قرار تمديد العطلة الشتوية اتخذ من طرف الوزير الأول، عبد المالك سلال، الذي ألغى بموجبه قرارا آخر وقعته وزيرة التربية الوطنية، نورية بن غبريط رمعون، يقضي بتقليص مدة العطلة المدرسية إلى النصف. ومعلوم أن قرار بن غبريط، خلف موجة من الاحتجاجات قام بها التلاميذ عبر مختلف المؤسسات التربوية، تحولت مع مرور الأيام إلى "كرة ثلج"، ما دفع بدوي إلى التأكيد على أن إعادة العطلة إلى مدتها المعتادة، يعتبر "موقفا حضاريا"، طالما أن الأمر يتعلق بالاستماع إلى انشغالات التلاميذ، على حد تعبير الوزير. أما بن غبريط التي لطالما أكدت أن قرارها بتقليص مدة العطلة أملته مصلحة التلاميذ، فقد عادت عن هذا التبرير لتؤكد في تصريحات صحفية أن أمن واستقرار البلاد أولى من التشبث بتقليص مدة العطلة. ولا تعد هذه الحالة أمرا جديدا على صعيد العلاقات بين وزراء الحكومة الحالية، فقد سُجّلت حالات عديدة مشابهة خلال الأشهر القليلة الأخيرة، غير أن ملفاتها طويت في هدوء بعد أن اعتبرت جزءا من اجتهاد الوزراء في تسيير شؤون قطاعاتهم. وفي الفترة ذاتها تقريبا، أحدثت البركة المائية التي خلفتها أمطار نهاية الأسبوع المنصرم بالطريق السريع بابن عكنون، تقاذفا للمسؤولية بين وزير الأشغال العمومية، بوجمعة طلعي، ووزير الموارد المائية، عبد القادر والي، حيث حمّل الأول الثاني مسؤولية عرقلة المرور بسبب تلك البركة، فيما رد والي اللوم على الصحافيين بسبب محاولتهم استغلال هذه القضية لإظهار غياب الانسجام بين وزراء حكومة سلال. وقبل ذلك، كان الوزير الأول قد وخز وزيره للسكن والعمران والمدينة، عبد المجيد تبون، في اجتماع الحكومة بالولاة بقصر المؤتمرات في نوفمبر المنصرم، عندما قال "رانا حاصلين في مشاريع السكن".. وإن حاول سلال تخفيف وقع الملاحظة على وزيره الذي كان حاضرا، بنفي أي خلاف مع تبون، حتى لا يتم استغلال هذا التصريح من قبل الصحافيين يومها. غير أن تطمين سلال لوزيره، لم ينطل على كل من سمع هذا التصريح، فقد سارع المتابعون للشأن الحكومي، إلى ربط ذلك بما يشاع عن وجود "حساسية صامتة" بين الرجلين، ساهم في تغذيتها غياب سلال عن توشيح رئاسة الجمهورية للوزير تبون وساما بدرجة عشير من مصف الاستحقاق الوطني، فضلا عما يشاع أيضا عن وجود اسم تبون كمرشح لتولية منصب الوزير الأول في أي تغيير حكومي مرتقب. وزير السكن كان حاضرا أيضا في سجال مع مسؤول قطاع آخر في الحكومة، ممثلا في وزير المالية حاجي بابا عمي، الذي تحدث خلال عرضه لمشروع قانون المالية لسنة 2017، عن وقف الدعم الحكومي لمختلف القطاعات، بسبب الأزمة المالية التي خلفها انهيار أسعار النفط في الأسواق العالمية.. غير أن الرد على بابا عمي، لم يتأخر سوى أيام معدودة، ليخرج بعدها وزير السكن في لقائه بمسؤولي قطاعه بالمدرسة العليا للإدارة، مؤكدا بأن التحويلات الاجتماعية للدولة، تبقى مستمرة في قطاعات كل من السكن والتربية والصحة. كما يتذكر الجميع؛ الجدل الذي خلفه إعلان وزير التجارة بختي بلعايب عن رفع الحظر عن استيراد السيارات المستعملة بعد سنوات من المنع، وهو القرار الذي قوبل بتفنيد سريع من قبل زميله في الحكومة، وزير الصناعة والمناجم، عبد السلام بوشوارب. ويومها لم يتوقف الجدل بخصوص هذه القضية عند تعقيب وزير الصناعة، بل تحول إلى سجال أخذ أبعادا أخرى، بعدما دخل على الخط، مدير الديوان برئاسة الجمهورية، أحمد أويحيى، بحكم هويته المزدوجة، الرسمية والحزبية، اشتم فيها بعض المراقبين رائحة الخلاف الحزبي المستحكم بين الرجلين. وزير العمل والضمان الاجتماعي الأسبق، أبو جرة سلطاني: التراشق بين الوزراء ظاهرة.. وسببه غياب الناطق الرسمي للحكومة وصف الوزير الأسبق والرئيس السابق لحركة مجتمع السلم أبو جرة سلطاني، التصريحات المضادة بين وزراء حكومة سلال، بالظاهرة الجديدة التي عرفتها الساحة السياسية مؤخرا، وأرجع ذلك إلى غياب ناطق رسمي للحكومة، ودعا بالمناسبة الوزير الأول، عبد المالك سلال، إلى التدخل لوقف مثل هذه التراشقات التي تؤثر، كما قال، على العمل الحكومي، قائلا إن "صورة الحكومة تهتز لدى الرأي العام بمثل هذه التصريحات". طغت في الفترة الأخيرة خلافات وسجالات وتقاذف للمسؤوليات بين وزراء في حكومة سلال ما السبب برأيك؟ في الحقيقة؛ يمكن القول إن السبب الرئيسي في التناقض بين تصريحات الوزراء، راجع بالأساس إلى غياب الناطق الرسمي للحكومة، الأمر الذي جعل كل وزير من وزراء حكومة سلال، يرافع لصالح قطاعه الذي تقع عليه مسؤولية القيام بواجبه والارتفاع به إلى المستوى المطلوب، والسبب الثاني برأيي هو أن الأصل في عمل الحكومة هو التضامن والانسجام لإنجاح برنامج الرئيس، وليس برنامج الإتلاف الحكومي، وبالتالي من الغرابة أن نرى مثل هذه الحالات، أما السبب الثالث هو أن الأصل في العمل الحكومي العمل الكثير مقابل تصريحات قليلة، لأنه كلما كثرت تصريحات الوزراء كلما فتحت على الجهاز التنفيذي ثغرات التناقض، وكما جاء في الأثر "من كثر لغطه كثر سقطه". برأيك، إلى ماذا تعود هذه الظاهرة ومن يتحمل المسؤولية فيها؟ كل عضو في الحكومة يتحمل مسؤولية واجب التحفظ في التصريحات، وواجب الدفاع عن التضامن الحكومي والتنسيق، وعدم الانجرار وراء الدفاع عن قطاعه فقط، لأن الحكومة في الأصل تنجح بكاملها أو تفشل بمجملها، ولا يمكن أن يكون في حكومة فاشلة وزير ناجح، كما لا يمكن أن نتصور أن ينجح الوزير الأول ويفشل بقية الوزراء، ولهذا يمكن أن نقول إن استقالة الوزير الأول من الحكومة في أي دولة من الدول، يجب أن تتبع باستقالة الحكومة بكاملها. ما دور الوزير الأول في مثل هذه الحالات؟ الوزير الأول هو منسق الجاهز التنفيذي، لكنه لا يستطيع أن يكمم أفواه بقية الوزراء إذا تعلق الأمر بالدفاع عن قطاعاتهم، لأن التراشق بين أعضاء الحكومة الواحدة أو بين عضوين أمام الرأي العام، هو في الحقيقة ظاهرة جديدة على الساحة السياسية في البلاد، لذلك وجب في هذه الحالة أن يبادر الوزير الأول عبد المالك سلال بإنهائها عاجلا، ويتدخل سريعا لإنهاء هذه الخلافات، وذلك يندرج في صميم صلاحياته، لأن الدور عليه في ظل غياب الناطق الرسمي للحكومة. ألا يؤثر هذا على عمل الحكومة؟ في الحقيقة؛ التأثير هو ضئيل في مثل هذه الحالات، لكن الشيء الذي يؤثر في الموضوع هو التسويق لظاهرة جديدة على الحكومات المتعاقبة، وهي عدم الانسجام وعدم التنسيق بين أعضاء الحكومة الواحدة، وبتالي فإن الصورة هنا تهتز في نظر الرأي العام الذي يستغرب في الكثير من الأحيان مثل هذه التصريحات، لاسيما إذا مست قضايا لها صلة بالسيادة الوطنية والأمن العام والشؤون الخارجية. عندما كنت عضوا بالحكومة، هل حدثت مثل هذه الحالات وكيف تمت معالجتها؟ عندما كنت وزيرا، كان للحكومة ناطق رسمي، وهو الأمر الذي أعفى جميع الوزراء من كثرة التصريحات، وكانت أيضا وسائل الإعلام تستقي المعلومة من مصدرها الأساسي، حيث كنا نرى بعد كل اجتماع لمجلس الحكومة، خروج الناطق الرسمي وتقديمه معلومات رسمية، لكن هذا الأمر تغير بعد أن تم إحداث تغييرات على مستوى عمل الحكومة، بتحويل منصب رئيس الحكومة بمنصب الوزير الأول، وفي الأخير يمكن أن القول إن ما حدث راجع إلى وجود فراغ إعلامي لم تنج منه سوى وزارة الشؤون الخارجية التي لديها ناطق رسمي خاص بها. وزير الفلاحة في التسعينيات نور الدين بحبوح: سجالات الوزراء ظاهرة أثرت على هيبة الدولة يعتقد وزير الفلاحة الأسبق، نور الدين بحبوح، أن التصريحات المتضاربة بين أعضاء الحكومة ناتجة عن غياب التضامن، وهي غير مقبولة، على اعتبار أن آثارها السلبية تنعكس على الحياة اليومية للمواطن، كما أن اتخاذ قرارات ثم التراجع عنها يؤثر على هيبة الدولة.. وبرأي نور الدين بحبوح، فإن بروز هذه الظاهرة يرجع إلى عدم تدخل الجهة التي يوكل إليها الدستور مهمة فرض النظام.. كما تحدث الوزير الأسبق عن ارتباط بعض الوزراء بجهات دعم توفر لهم الحماية في حال عجزهم عن القيام بمهامهم كما يجب. السجالات والتصريحات بين بعض أعضاء الجهاز التنفيذي أصبحت ماثلة للعيان، وغياب الانسجام بات واضحا.. ما تعليقكم؟ أولا، المبدأ الأساسي في تعيين أي طاقم حكومي، هو التضامن والانسجام المطلق بين أعضائها، لكن هذا الشيء لم يعد يميز الحكومات المعينة في السنوات الأخيرة، والدليل على ذلك، تضارب التصريحات التي وصلت إلى حد التناقض في قرارات مهمة بين الوزير الأول ووزراء في الحكومة. وهذا الأمر راجع بالدرجة الأولى إلى كون كل وزير يعتبر نفسه معينا مثله مثل الوزير الأول، وبالتالي ليس له واجب تجاه زملائه في الحكومة، كما لا يوجد شعور بالالتزام مع الوزير الأول. وفي هذه الحال، عندما تتخذ قرارات وتسير الأمور دون العودة إلى المسؤول الأول في الجهاز التنفيذي، نصل إلى النتيجة التي نعيشها حاليا وهذا شيء مؤسف للغاية. في ظل هذا الوضع، من يتحمل المسؤولية في نظركم؟ ما يحصل في الحكومة، أن هناك أقطابا داخل الجهاز التنفيذي، وكل شخص يعتبر نفسه المسؤول المباشر ويتقوى بالعلاقات الوطيدة مع الجهة التي ساهمت في إيصاله إلى الوزارة. وهنا يبدأ التناقض، لكن هذا الأمر غير مقبول في نظر المواطن الجزائري والرأي العام. أما بخصوص من يتحمل المسؤولية، نقول إن لكل حكومة حاكما يوجهها، لكن عندما يغيب المتحكم في زمام الأمور يحدث الانفلات.. ورغم محاولات الحكومة في بعض الأحيان اللجوء إلى سياسة الترقيع، إلا أن ذلك عادة ما يخيب لأن المهمة ليست سهلة إطلاقا. كما أريد أن أضيف شيئا إلى كلامي، عندما نسمع وزيرا يرد على اتهامات وزير آخر بالتقصير في قطاعه ويصفها بأنها "زلة لسان"، فإن هذا الأمر غير مقبول إطلاقا، بل يعتبر إخلالا بالمسؤوليات، يتحسسها المواطن ويعيشها بألم شديد جدا. ما يمكن ملاحظته هنا، أن الحكومة فقدت هيبتها، برأي مراقبين، وحتى خرجاتها الميدانية لم تعد تقنع المواطن أو تستجيب لانشغالاته اليومية؟ كل شيء مرتبط بالدولة الجزائرية، التي يسيرها مسؤولون، لكن المؤسف أنه حتى الزيارات الميدانية باتت "شكلية"، تتم فيها إهانة الإطارات أمام وسائل الإعلام واتهامهم بالتقصير في عملهم، لكن هذا يمكن اعتباره تهريجا سياسيا مبنيا على خطاب ديماغوجي، بالنظر إلى أن لكل وزير مسؤوليات وصلاحيات في اتخاذ قرارات على غرار إقالة المقصرين، لكن بعض الوزراء للأسف يعتقدون أن هذا التهريج يعجب المواطنين، غير أن ذلك مفهوم خاطئ، لأن المواطن يبحث عن الاستجابة لانشغالاته وليس قرارات شعبوية. والأكيد أن كل هذه الأمور تؤثر على العمل الطبيعي للحكومة التي يجب أن يكون لها دور مهم في الميدان. نعود بك إلى الوراء، وبالضبط عندما كنت وزيرا للفلاحة (التسعينيات)، هل عايشتم مثل هذا الأمر؟ وهل حدثت مثل هذه الحالات وكيف كانت المعالجة؟ دون مبالغة، هذا الأمر لم يحدث إطلاقا في الحكومة التي كنت وزيرا بها، بل كانت كل القرارات تتم في إطار مجالس الحكومة التي كانت تنعقد، حيث يفتح نقاش ويتم تبادل الآراء لكن لا تخرج عن طابعها العادي، يعني كل وزير يقوم بإبداء رؤيته مع محاولة الدفاع عنها وعن صلاحياته كوزير لكن في نهاية الاجتماع يأخذ الوزير الأول الكلمة ويقول: هل كل القرارات التي تم اتخاذها متفق عليها؟ لينتهي الاجتماع بمجرد موافقة الجميع.