من أين نبدأ، وإلى أين ننتهي، من ذلك الشيخ وهو يعيش منتصف عقده التاسع، والذي لم تطأ قدماه ارض الحي منذ مدة، أو من تلك العجوز التي زفت زوجها شهيدا من اجل هذا الوطن، لتجد نفسها تسكن مرحاضا في قبو إحدى العمارات، لا تنام خوفا من الجرذان البشرية التي تحيا في الظلام، أو من تلك الصبية، التي تحدت الظروف التي حطمت شموخ جبل كوكو، وصخور المحجر، تحدت ومشت عكس التيار والظروف الاجتماعية القاهرة، فتفوقت في سنتها الأولى وفي سنتها الثانية وفي الثالثة والرابعة والخامسة، والسادسة، تحدت الجميع على أنها ستتفوق في كل السنوات القادمة، وأن تصير مضيفة تحلق في السماء، أو صحفية تكتب عن سكان المحاجر والمقابر والمعابر التي لا يريد أن يراها أحدا. من أين نبدأ قصة السجن العائلي كما يسميه أهله، وأين ننتهي ونحن نقص نبأ أهل ( الكاريار )، أننتهي ببلدية وادي قريش، أم بديوان الوالي الصالح محمد الكبير، تلك قصة أهل الكهف التي أسس لها الجنرال ديغول في مشروع قسنطينة سنة 58، ووقف على رعايتها الولاة الصالحون يحفظهم الله. الكل يحذر من الذهاب إلى المحجرة القديمة، بأعالي باب الوادي، فالمنطقة ساحة لمعارك يومية، تستعمل فيها كل الأسلحة البيضاء، وغير البيضاء، تنطلق بعد صلاة المغرب، بين الأخوة الأعداء والأقربون أولى بالمعروف، كل شيء مباح إلا السبي البابلي، هكذا حدثت معارك وغارات البؤساء من نهج بوبلة بباب الوادي، وفي حي الساعات الثلاثة، وانتقلت إلى حي مجموعة العشرة والسعيد تواتي، وفي الغد الله اعلم، من ستكون سيارته هدفا، أو محله محلا لغارة مسائية ليلية، أو من سيكون القربان هذه الليلية، وقد حدثت جريمة قتل بعد مباراة الجزائر صربيا، هو ذا الانطباع السائد عند سكان الأحياء القريبة من المحجرة، بل حتى عند القاطنين داخل الحي... كانت الساعة العاشرة صباحا، المكان مدخل الحي، ينشب شجار بين مجموعة من الشاب،.. ينقل الساق سيارة المؤسسة إلى مكان اعتقد انه أمن أمام المقهى، بعدها دخل أربعة شباب المقهى، ثم جلسوا في الخارج يحمل احدهم الجريدة، يضع كل واحد منهم خنجره أرضا، يرتشفون قهوة الانتصار على احد الجيران، في إشارة إلى أنهم أمراء وملوك الحي في الليل والنهار، بيوت قصديرية في أسفل الجبل، والعمارات العتيقة، التي تشبة أقسام العنابر في السجون، حجرات مكدسة في طوابق فوق بعضها، لها ممر وحيد في شكل رواق مكشوف على الرياح والأمطار وكل العوامل الطبيعية، الفرق الوحيد بينهما هذه منتشرة عبر انحدارات الجبل، وأخرى تنتشر في طوابق عمارات الحي. أرملة شهيد تستغيث وا معتصماه أنا هنا منذ أكثر من 20 سنة، لا احد معي، كنت مقيمة في حي بوفريزي في سكن مؤجر، طردت بالقوة، فلجأت إلى الكاريار مجبرة، يسمينة هي أرملة الشهيد محمد أمقران، الذي استشهد من اجل الجزائر، لتجد نفسي دون مأوى، "فلو كان حيا لما طلبت الإعانة من احد، ولما كنت اقطن هذه المغارة"، المكان مرحاض جماعي، تم تحويله إلى ما يشبه البيت، تفتح لنا الباب، ندخل معها، تستقبلك رائحة الرطوبة القادمة من منتصف القرن الماضي، مكان مظلم، قبو معتم، لم يرى النور منذ مدة طويلة، ولا يعرف معنى لدفئ الشمس، لا يزيد طوله عن 4 أمتار وعرضه 3 أمتار، هو المطبخ والمرحاض وغرفة النوم، وبعض الأغراض وتلفاز صغير، كل شيء يدل على أن المكان زنزانة انفرادية، البرودة والرطوبة، في الداخل، والحشاشين واللصوص في الخارج، تقول أرملة الشهيد، أنا ( محقورة ) هنا، لا احد يريد أن يراني غير بعض الجيرة، الذين يقفون من اجل حمايتي، لا استطيع النوم خوفا من اللصوص الذين يغزون المكان ليلا، فكم من مرة تم الاعتداء علي من طرف الحشاشين، يحاولن كسر الباب، بسبب العمارة التي رحل سكانها وبقيت خاوية، هي اليوم مركزا للانحرافات والمخدرات، ووكرا للدعارة، لذا نحن نطالب السلطات بإيجاد حل لهذه المشكلة التي نواجهها كل ليلة مع اللصوص. مراد من مواليد 64، سكن والدي سكن هذه الديار سنة 59، وهي ديار، يقول وهو يعتصر ألما، هذا هو بيتي الذي أقيم فيه ورغم ذلك تزوجت هنا وأعيش فيه أنا وعائلتي الصغيرة، طفلان لا يتجاوز عمرهما الثلاث سنوات، لا أريد أن يكبرا هنا، هذه زنزانة انفرادية، لا يزيد عرضها عن المتر والنصف، تطل على أكوام من البيوت القصديرية، منذ أكثر من 7 أعوام يعيش مراد هو عائلته في وضعية كراثية، طفلان صغيران يلعبان وسط المرحاض المطبخ، المكان المتعدد الخدمات، ولا حديث عن الحمام، لا شيئ غير تلفزة قديمة، وما يشبه الثلاجة، وأكوام من الأفرشة، تحت هذا القصدير وعلى حافة هذا الجبل، ينام الأبناء والزوجة،... أخي الأكبر لم يتزوج، توفي مريض بالسرطان وعمره 46 سنة، والآخر مريض، هو في سن 45 سنة، أيضا غير متزوج، والأكبر الأكبر رحل إلى غير رجعة. خمسون سنة سجنا... بركات يقول عمي ( غالاز ) جئت إلى هنا سنة 58 وأنا ابن 36 سنة، اسكن في غرفة في الطابق التاسع، واليوم أنا ابلغ من العمر 94 سنة، تخيل معي سيدي كل تلك السنون، وتخيل أنلك كنت معي طوال هذه المدة، فما عساك تقول، 50 عاما ولا أحد يتذكرك، ابني البكر عمره 61 سنة عاش معي في هذا الحي، المطبخ هو المرحاض، نطبخ أم نرمي فضالتنا، يصيبني القلق عندما أحس أن بطني يؤلمني حتى لا اذهب إلى المرحاض المطبخ... كيف لا تستحي وأنت تدخل المرحاض، أفضل أن لا اذهب إلى الأبد، في فصل الصيف تختلط الرائحة مع الرطوبة ويصبح المكان أشبه بجهنم لانعدام التهوية، الكل هنا مريض إما بالربو، أو بأي مرض صدري أخر، وهناك من توفي بسبب غبار الذي يقذفه المصنع في الهواء، فان نجوت من غبار الكاريار وما يسببة من أمراض تنفسية، ستجد الرطوبة في فراشك وغطائك، وتحت وسادتك، هذا هو حال ناس الكاريار، سواسية في كل هذه الأمراض وكل أنواع الآفات. تضيف زوجة ابنه سمية، وتقول أن لها أربعة أطفال وابن يشارف سن الثلاثين، ولدوا هنا في ديار، وسط مرحاض عمومي حول إلى بيت، كل أولادي دخلوا إلى مستشفى مايو أو القطار بسبب الربو، كلهم يعاني من ضيق في التنفس، عندما استقض صباحا لا يمكن أن إلا الاصطدام بالأولاد وهم نيام لضيق المكان، وفي الشتاء رغم أننا نسكن في العمارة فان الأمطار تسقط عندنا أيضا، بسبب تسرب المياه من السطح، حكاية يعيشها الجميع، يرويها عبد القادر، الذي تزوج منذ 5 أشهر، في منتصف عقده الخامس، يقول أن كل شيء تغير، إلا نحن بقينا هنا، وبقي رشيد، محمد، علي، عثمان، عقبة،.. هذا فيض من غيض لمعاناة 1100 عائلة بالمحجرة. نجاة.. ابتسامة مضيفة طائرة شقراء، بعينان خضروان، بعمر الزهور، قي الثانية عشر من العمر، تلميذة في متوسطة رابح بيصاص، تفوقت في الابتدائي، في سنتها الأولى تحصلت على الرتبة الأولى، وفي السنة الثانية تحصلت الرتبة الثانية، وفي الثالثة كانت الأولى، وفي الرابعة كنت الثانية، وفي الخامسة كنت الثالثة، تراجع دروسها في أي مكان، في البيت، أو عند عمها أوجدتها، البيت ضيق والمكان في الكثير الهرج، تتنقل للمراجعة من مكان إلى آخر، تحدت المحجر، الرطوبة، الضيق، وكل الظروف التي لا تساعد على التألق، وتألقت على خلال خمس سنوات، وتألقت في متوسطتها ونالت معدل 11،34، المعدل الذي لم ترض عنه أبدا، وتتعهد بأنها ستحطمه في المرة القادمة، هكذا تقول، لا تريد إلا المزيد والمزيد. سألتها ماذا تتمنى نجاة؟، سكتت، ثم قالت لا أعلم، سألتها ثانية فقالت لا أعلم وهي تحدق في الأرض وانكأنها نبحث عن مكان لها، ثم ابتسمت ببراءة تنفض غبار المحجر، وقالت مضيفة طائرة، ثم نظرت في وجهي بحياء وقالت ولما لا صحفية، قلت لماذا؟، قالت لأنني أحب الكتابة، لأكتب عن الكاريار، والمعاناة التي نعيشها، وليقرأ الرئيس عن أطفال الكاريار، كيف تحدوا الظروف ونجحوا فيما يفشل أبناء الأحياء الأخرى... وماذا تتمنى نجاة، بيت واسع وكبير، تبتسم وتؤكد على كلمة كبير، ثم تسكت وتؤكد بابتسامة صادقة انه لن يكتب لنا الرحيل من هذه الديار، كم من مرة وعدونا، لكن لا شيء تحقق هم يكذبون علينا فقط، ورغم كل ما قالت تصر على أن تبقى ابتسامة كبيرة!!