أرغمت أزمة السكن الخانقة والعجز الفظيع الذي تشهده البلاد في مجال السكن، منذ مدة ليست بالقصيرة، آلاف العائلات لأن تبحث عن سقف يؤويها ويقيها قر الشتاء وحر الصيف... فاهتدى بعضها إلى دهاليز وأقبية العمارات، وأخرى فضّلت العيش فوق السطوح، برغم المخاطر الصحية التي تحدّق بهم. فالأولى تعاني من الأمراض الناتجة عن الرطوبة العالية، مثل الحساسية والربو، ومختلف الأمراض التنفسية والجلدية، والثانية باتت تهدّد سلامة العمارات والمواطنين، كون البيوت التي يحتلونها فوق السطوح، أنجزت بطريقة عشوائية، خارج كل المعايير والمقاييس المعمول بها في ميدان البناء. وبين هاتين الفئتين، نجد السلطات المحلية تقف موقف المتفرج على مآسي مئات العائلات، رغم الوعود التي تقدمها لهم في كل مناسبة، تفيد بترحيلهم إلى سكنات لائقة. "الأمة العربية" استطلعت الظاهرة وراحت تبحث وتتقصى حقائق عالم العيش في الأقبة وفوق السطوح، وكانت البداية من "باب الزوار"، وتحديدا بحيي 5 جويلية والصومام، حيث تفاقمت ظاهرة احتلال الأقبية، وبعدها إلى الحي العتيق "باب الوادي" و"باب عزون" التي شهدت في السنوات الأخيرة ارتفاع ظاهرة البناء فوق السطوح التي كنا نراها فقط في السينما المصرية. * الأقبية والسطوح لحل مشكل السكن كانت انطلاقتنا من حي 5 جويلية بباب الزوار، وتوجهنا صوب إحدى عمارات الحي بحثا عن سكان الأقبية، وطرقنا أول باب صادفناه، فاستقبلنا طفلان ينبئ مظهرهما عن حالة تعيسة يعيشانها رفقة عائلتهما، والوالدان كانا غائبين عن المنزل، فتركنا الطفلين وراءنا وتوجهنا إلى منزل آخر، وهذه المرة استقبلتنا عائلة انتقلت حديثا إلى سكنها الجديد "القبو". لم يجد رب العائلة أي مشكل في التصريح لنا عن كل تفاصيل وأسباب انتقاله للعيش بالسكن تحت الأرض، حيث يقول الزوج، إنه كان يسكن رفقة والديه وأخوين متزوجين، الأمر الذي تسبب في خلق مشاكل بين أفراد العائلة، فطلب يضيف الزوج من سكان العمارة التي يقطن بها، السماح له باستخدام القبو وتحويله إلى مسكن له ولعائلته الصغيرة المتكونة من زوجته وبنتيه، فقبل السكان وضعه وسمحوا له بذلك. وبعد جهد جهيد وعمل مضن لمدة أشهر، تحوّل القبو إلى مكان شبيه بسكن، سعدت به هذه العائلة رغم كل الأخطار والأمراض التي سيصاب لا محالة بها أفرادها. ولنفس الأسباب، اتخذ مواطن آخر قبوا مسكنا له بعد أن تحوّلت حياته إلى جحيم، نتيجة المشاكل التي أصبحت السمة المميزة ليومياته وعائلته، والتي كادت تنهي حياته الزوجية. فوجوده هو وزوجته وولدان رفقة عدد كبير من الإخوة والأخوات في بيت يتكون من ثلاث غرف، أدى إلى انعدام واستحالة التفاهم على أدنى الأمور. وهربا من هذه الضغوطات، لجأ هذا المواطن إلى إصلاح قبو العمارة التي يقطن بها. وبعد أن أوصله بالتيار الكهربائي والماء، انتقل إليه غير مبال بما قد يتعرّض له وعائلته، كونه الحل الوحيد الذي وجده أمامه ليتخلص من مسلسل الشجارات والمشادات اليومية بين زوجته وإخوته. وبعيدا عن باب الزوار، بحثنا عن نوع آخر من السكنات غير العادية، وهي سكنات فوق السطوح، والتي تنتشر بشكل مخيف في الأحياء العتيقة، على غرار حي "باب الوادي" و"باب عزون". فالحاجة إلى سكن مع انعدام إمكانية توفيره لسبب أو لآخر، سواء أتعلق بمحدودية دخل الأفراد، أو لعدم إقامة الدولة لمشاريع سكنية للتكفل بهم، كل هذا دفع بالبعض إلى تشييد بنايات قصديرية وفوضوية في كل شبر يجدونه شاغرا، سواء أكان بين العمارات، أو بالقرب من الأودية، أو بمناطق فلاحية وبمزارع... أما البعض الآخر، فقد ابتكر طريقة أخرى، كحل لهذه الأزمة، وهي احتلال سطوح البنايات واتخاذها كأرضية لبناء شقق، أو تحويل تلك المقصورات التي تغطي السلالم وتحمي خيوط الكهرباء والماء والغاز بعد إدخال بعض التعديلات عليها إلى سكنات ذات غرفتين أو ثلاث، وتزويدها بالكهرباء والماء والغاز الطبيعي. وإذا بحثت عن هوية هؤلاء السكان، ستجد أن معظمهم من أفراد العائلات القاطنة بهذه العمارات، الذين يئسوا من وعود قدمت لهم مرارا بشأن منحهم سكنات اجتماعية، وآخرين ممن تم إقصاؤهم أو حذفت أسماؤهم من قائمة المستفيدين من السكنات التساهمية، فاهتدوا إلى هذا الحلو، هو البناء فوق السطوح، رغم كل المخاطر التي تهددهم من كل جانب. * أقبية للبيع وأخرى للإيجار! أغرب حكايات الأقبية التي رواها سكان حي "الصومام" بباب الزوار، ورغم أن هذه الأقبية ليست ملكا لأحد، إلا أن البعض امتلكها دون وجه حق ودون ترخيص، واتخذ من بيعها تجارة و"تبزنيس"، مستغلا بذلك حاجة وفاقة البؤساء ومن ضاقت بهم الدنيا، ولم يجدوا حلولا لمشاكلهم السكنية، إلا هذه الأقبية التي كانت بالنسبة لهم الحل الوحيد. وأحسن مثال على مثل هذه الحالات، هو حالة السيدة "ف" التي تقول إنها ومنذ عشر سنوات كانت تسكن مع عائلة زوجها، ولضيق المنزل، أراد زوجها شراء بيت خاص. لكن وبالنظر إلى ارتفاع سعر الشقق لم يتمكن من ذلك، لكنه وفي نفس الوقت وجد نفسه مجبرا على مغادرة بيت الوالد، فاهتدى لحل فوري، وهو البحث عن قبو، ولسوء حظه لم يجد أقبية شاغرة والمتوفرة كانت للبيع فقط، فاضطر إلى شراء قبو بثمن أعلى بكثير من قيمته الحقيقية، ولم يكلف البائع نفسه مشقة تنظيفه من المياه القذرة المتجمعة به والخردوات التي يرمي بها السكان بداخله، بل باعه كما هو. والأغرب ما في الأمر، أن صاحب الأقبية هذا لم يكتف ببيع قبو واحد فقط، بل استولى على مجوعة أقبية، يقوم بتقسيمها وبيع كل جزء منها على أساس أنها قبو كامل، والسكان والسلطات يتفرجون ولا يحركون ساكنا ضد هذا المحتال الذي يتلاعب بالفقراء والمساكين ممن اضطرتهم الحاجة إلى ذلك. وإذا كانت عائلات قد تمكنت من شراء أقبية وأصبحت ملكا لها، فهناك عائلات أخرى تحلم بذلك، لم تمكنها حالتها المادية إلا من استئجارها، كعائلة السيدة "زينب". هذه السيدة في البداية، رفضت التحدث إلينا خوفا من التورط في أمور هي عن غنى عنها مع صاحب القبو، لكن بعدما شرحنا لها الموضوع الذي جئناها من أجله، قبلت بالحديث. تقول السيدة "زينب"، إنه بعد مرور أكثر من 18 سنة عن زواجها، لم يتمكن زوجها من شراء بيت يضمهما وولديهما لضعف دخله، فلجأوا إلى استئجار شقق، لكن حتى ثمن الإيجار لم يعد الزوج قادرا على دفعه، ليقترح عليه صديق له استئجار قبو كون سعر هذا الأخير مقبول مقارنة بالمنازل العادية. فرغم تقول السيدة زينب الأخطار التي تهددهم كل دقيقة، إلا أنه لا يوجد حل أفضل من المتوفر، فقد قامت هذه العائلة بإرسال العديد من الرسائل للسلطات المحلية ولعدة سنوات، قصد منحها سكنات لائقة، إلا أن رد السلطات المحلية كان سلبيا، إذ تعتبرهم سكان غير شرعيين، ليس لديهم حق في السكنات الاجتماعية وأن مسؤولية هؤلاء السكان يتحمّلها ديوان الترقية والتسيير العقاري. ... وأمراض تفتك بالسكان قد يتخيل البعض ما قد يتعرّض له سكان الأقبية من أمراض مزمنة، كالربو والحساسية، والطفح الجلدي، وحتى الكساح والشلل، لقلة التهوية إن لم نقل انعدامها وعدم وصول أشعة الشمس إلى الغرف. ولتوضيح الصورة أكثر، اقتربنا من عائلة السيدة "ف" التي تمثل حالتها أفظع صور البأس والتعاسة، فكل أفراد عائلتها مصابون بالربو. فالزائر لهذا البيت، أول شيء يشد انتباهه، هو الرائحة المنتشرة في جو البيت الناتجة عن الرطوبة العالية وعدم وجود منافذ للتهوية. فبمجرد تنشقنا لذلك الهواء الملوث، أخدنا نعطس من دون توقف، وطلبنا من صاحبة "المنزل" أن تترك الباب مفتوحا لعل يصلنا بعض الهواء النقي من الخارج. سألناها عن الحالة الصحية لها ولأولادها، كون جو البيت لا يطيقه إنسان لمدة ساعة، فما بالك بمن يقيم به منذ عشرين سنة، فلم تجبنا واكتفت بفتح يدها لنجدها تحمل البخاخة الطبية التي لا تفارقها لا ليلا ولا نهارا. أما عن أبنائها، فابنتها الصغرى التي تبلغ من العمر الست سنوات، قد تمكّن منها المرض لدرجة أصبحت فيه البخاخة الطبية لا تجدي نفعا، إنما تعالج عن طريق إبر يفرغ مصلها في الشريان مباشرة. أما عائلة أخرى، فقد أصيب ابنها بالكساح، لعدم تعرّضه لأشعة الشمس بصورة كافية... وعائلات أنهكتها مختلف الأمراض والأوبئة. ما يتعرّض له أطفال "السطوح" من أمراض مزمنة، لا تقل درجة خطورتها عن أطفال "الأقبية"، فكلتا الحالتين شبيهتان ببعضهما، فالسكن في الأعالي له أضراره، خاصة إذا كانت هذه المنازل غير مبنية بطريقة سليمة، أو تتواجد بها ثغرات تسمح بدخول كميات كبيرة من الهواء، الأمر الذي من شأنه أن يهدد صحة السكان. فحسب العائلات التي تحدثنا معهم، فمعظم أبنائهم مصابون بالربو والحساسية بدرجات متفاوتة. * مخاطر تهدّد العمارات وساكنيها لا أحد منا لم يشاهد قبوا في حياته، والكل يدرك أن هذه الأقبية خصصت لامتصاص الصدمات ووقاية العمارة من مختلف الكوارث الطبيعية، كالزلازل والفيضانات.. لكن وباحتلالها من طرف السكان الذين أدخلوا عليها عدة تعديلات، مست بعض الركائز الأساسية وأنابيب الصرف الصحي، وأنابيب الغاز الطبيعي، أضحت العمارات وسكانها مهددين بشتى أنواع المخاطر، فقد يؤدي تغيير أنابيب الغاز إلى حدوث تسربات تنجر عنها اختناقات أو انفجارات. كما أن نزع أحد الركائز، قد يؤدي إلى انهيار العمارة بمجرد تعرّضها لارتدادات ضعيفة، ناهيك عن مخاطر أخرى لا تعد ولا تحصى. نفس الشيء ينطبق على البناء فوق السطوح، فقد يعرّض العمارة إلى انهيارات مفاجئة، فكل عمارة شيدت وفق معايير خاصة ووفق وزن محدد، وأي زيادة قد تسبب اختلالا قد يفقدها توازنها، فتؤدي إلى كوارث لا يحمد عقباها. فمتى يدرك السكان مخاطر الاحتلال العشوائي للأقبية وسطوح العمارات؟ ومتى تلتفت السلطات لوضعية هؤلاء المغلوبين على أمرهم وتنقذهم مما هم فيه؟