في رد على تساؤل حول مصير ملتقى الفكر الإسلامي، الذي كانت تنظمه الدولة الجزائرية بإشراف وزارة الشؤون الدينية والأوقاف خلال سنوات 1968/1990، قال معالي الوزير الأول عبد المالك سلال، في الأيام القليلة الماضية، إن جميع الملتقيات التي تنظمها مؤسسات الدولة الجزائرية اليوم، قد عملت بروح ملتقى الفكر الإسلامي، الذي عطل منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، لأسباب ما!! والمتابع لهذه الملتقيات التي يتحدث عنها، وله علم بتلك المعطلة، يدرك بقليل من النظر والتأمل، أن هذه الملتقيات التي يتحدث عنها سي سلال اليوم، لا تعبر عن حقيقة ملتقيات الفكر الإسلامي، ولا عن مستوى طروحاته الفكرية والعلمية؛ بل لا وجه للمقارنة، لا في المبادئ ولا في الوسائل ولا في الغايات. ذلك أن هذه الملتقيات التي تنظم منذ تعطيل "ملتقى الفكر الإسلامي"، لا ترتقي إلى مستوى ملتقى واحد من تلك الملتقيات الأربعة والعشرين التي عقدت في 12 مدينة من المدن الجزائرية معظمها في الجزائر العاصمة، على امتداد 24 سنة، دون انقطاع. وأول فرق وأهمه بين ملتقى الفكر الإسلامي، والملتقيات التي يتحدث عنها الأخ سلال، أن هذه الأخيرة ملتقيات ظرفية لمعالجة قضايا آنية، وكأنها انفعالات وردود أفعال، واستجابة لاستفزازات محلية أو إقليمية أو عالمية، يتهمنا فيها هذا الطرف أو ذاك بأننا إرهابيون، أو أننا جهلة، لا نعبأ بالإسلام، ونحن نريد أن نقول لهذه الجهة أو تلك لسنا كذلك، فنحن مسلمون ومالكية المذهب، وإسلامنا ليس كما تقولون، فهو دين تسامح ويرفض العنف، ولنا علماء ومدارس وعاهد وجامعات..، وكأننا نعتقد أنهم لا يعرفون ذلك أو يجهلونه!! مثل ملتقى حرية الشعائر الدينية أو ملتقى الإسلام في مواجهة العنف، أو ملتقى المذهب المالكي، أو ملتقيات جزئية خاصة بدراسة بعض فروع المعرفة، التي هي في غالبها خاصة جدا متعلقة بقضايا قد لا تهم الكثير من المسلمين. فهذا النوع من الملتقيات لا يمكن مقارنته بالمستوى الذي كان عليه ملتقى الفكر الإسلامي، لسبب واحد، هو أن هذه الملتقيات صغيرة في مبادئها وغاياتها، متواضعة في وسائلها وطموحاتها، يغلب عليها الظرف والواقع العاجل والإنشغالات السياسية والأمنية، أما ملتقى الفكر الإسلامي، فقد كان ملتقى كبيرا، "يدعى له كبار المفكرين الإسلاميين من جميع أصقاع العالم وكثيرا ما كان يشهد هؤلاء أن الحرية المتوفرة خلال أشغال الملتقيات هذه كانت كفيلة بجعل تلك الملتقيات لقاءات علمية وفكرية تشحذ همم المفكرين". [د. شافية صديق]، تلتقي فيه جميع المشارب وكل التخصصات الإنسانية بصفة خاصة، بحيث يشارك فيه مثقفون ومفكرون وعلماء من جميع المشارب والتوجهات المتنوعة، فيهم علماء الشريعة، تقليديون وإصلاحيون، الحداثيون، الشيعة، السنة، المتصوفة، المستشرقون، ومن التوجهات الأيديولوجية: اليسار، اليمين، الرسميون، الشعبيون، الجماعات والجمعيات، وكل من يهمه معرفة الفكر الإسلامي، سواء كان من الباحثين عن الحقيقة أو ممن يعرفونها ويريدون الاستزادة، أو من الدعاة الذين يريدون التعريف بها؛ بل ربما وجد من جاء بغاية تكييفها ما يريد. كما أن هذا الملتقى كان يثير مواضيع كانت دائما في مستوى قضايا الأمة، وليست قاصرة على أمور جزئية منحصرة في حاجة بيت من بيوت الجزائريين، بحيث "كانت القضايا التي طرحت في الملتقيات بعضها يقتضي معرفة واسعة ببعض الأمور المستجدة...، لقد أثيرت خلال الطبعات الأربع والعشرين لملتقى الفكر الإسلامي قضايا هامة وخطيرة خصوصا في السياق الزمني والسياسي الذي انعقدت فيه. [د. شافية صديق]، مثل قضايا: الفكر والتاريخ، الغزو الثقافي، الشباب، القرآن، السنة، الإجماع، الاجتهاد والتقليد، التصوف، المجتمع الإسلامي المعاصر، الأسرة، الإقتصاد، الصحوة الإسلامية...إلخ. أما من جهة الاهتمام به، فقد كانت تشرف عليه، وزارة الشؤون الدينية كما أسلفنا، وكان يحتفى به رسميا بحضور رئيس الجمهورية شخصيا وبعض المسؤولين في الحكومة، كما كانت أيام، أشغاله لا تقل عن أسبوع كامل؛ بل في الذكرى العاشرة للإستقلال وألفية تأسيس العاصمة دام أسبوعين كاملين، وهذا فضلا عن الكم الهائل من العلماء والأساتذة المدعوين من الضيوف والمحاضرين، فقد هناك حضور لافت للكثير من أعلام الفكر والثقافة والدعوة، أمثال: "مالك بن نبي وأحمد عروة، محمد أبو زهرة، محمد متولي الشعراوي، حميد الله، الشيخ الغزالي وطه جابر العلواني وانشراح الشال وفوقية محمود وعائشة عبد الرحمان بنت الشاطئ والشيخ القرضاوي والشيخ الندوي وفهمي هويدي والشيخ مصطفى الزرقا والشيخ البوطي وغيرهم من القامات الكبيرة...، كما شارك.. بعض المستشرقين والحداثيين كالألمانية زيغريد هونكه، جاك أوستي، محمد أركون رشاد خليفة رجاء غارودي.[د. شافية صديق بتصرف] أما الغاية من تنظيمه فقد كان الأساس فيها هو التعرف على الفكر الإسلامي، ويقال أن الذي كان من وراء المبادرة وتسميتها هو الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، والأستاذ مالك المعروف عنه أنه يرى أن المجتمع الإسلامي مجتمع متخلف، فيما يسميه بمجتمع ما بعد الموحدين، أو مجتمع ما بعد الحضارة، وهذا يعني أن هذا المجتمع في حاجة إلى التعرف على الإسلام من جديد، لأنه تخلف عنه كثيرا، بحيث أصبح متعلقا بأشكاله لا بمضامينه، فكان العنوان المناسب لهذا الملتقى هو "ملتقى التعرف على العالم الإسلامي"، ثم تغير عنوانه بعد ذلك، مع الاحتفاظ على الفئة المستهدفة التي بقيت مقتصرة على دعوة الطلبة، ابتداء من القسم النهائي بالثانوية إلى الجامعيين والباحثين، أما الاستجابة والتفاعل مع هذا النشاط، فقد كانت غالبا من قبل المهتمين بالشأن العام تحديدا، حيث كانت الفئات العريضة من الشباب تستغل هذا الأسبوع في الاحتكاك بالعلماء والدعاة والمفكرين، في لقاءات خاصة بالأحياء الجامعية على هامش الملتقى، وكان لذلك أثر كبير على شباب الصحوة عموما على اختلاف مشاربهم الحركية في الجزائر. ومثلما كان الملتقى فرصة للشباب الجزائري للإلتقاء بعلماء الأمة والعالم، كان فرصة للعلماء أنفسهم الذين كانوا منغلقين على أنفسهم، ولم يعتادوا ذلك في الكثير من البلاد الإسلامية، حتى أن الدكتور عبد المحسن التركي الأمين العام السابق' لرابطة العالم الإسلامي، قال لي في موسم الحج لسنة 2012م "كنا عندما نعود إلى بلادنا –أي السعودية- نفخر على مسؤولينا بمستوى الجزائر بفضل ذلك الملتقى"، رغم أن الجزائر يومها كانت مصنفة من بين البلاد الشيوعية بسبب خيارها الإشتراكي، ذلك أن مستوى الملتقيات في العالم الإسلامي يومها كان مثل الملتقيات التي تكلم عنها معالي الوزير الأول المذكور في صدر هذا الحديث، ملتقيات تحاور نفسها، في شكل ّديالوغ" داخلي لا يشعر به أحد. وكما استفاد الشباب الجزائري والعلماء من تلك الساحات الحوارية الحرة التي عز مثيلها، إذ لم يكن يومها يلتقي الخطاب الإسلامي في العالم مع أي توجه من خارج الأمة، بسبب قوة الخصم الاستعماري والإنطواء على الذات الإسلامية، إلا ما كان من مبادرات حوار الأديان الذي يبدأ وينتهي بفريقين يريد كل منهما المحافظة على ما عنده، فكان ملتقى الفكر الإسلامي بمثابة "ساحة مستقلة لممارسة الفكر الحر"، من غير خوف ولا تردد ومن معالم الحرية في ذلك التقاء المستشرق بالحداثي بالأزهري والطرقي والرسمي الشعبي...، الكل يلتقي ليدلي بدلوه في موضوع البحث بلا لوم ولا عتاب ولا خوف. وهذا الجو بقطع النظر عن الآراء المطروحة المختلفة هو الجو الوحيد المناسب لإنضاج الأفكار والتوجهات، والصيغة المثلى للتعريف بالأفكار والخيارات والتعرف عليها، والذين حرصوا على تعطيله مدركون لهذا وهم في تقديري الخصوم الطبيعيون للتيار الإسلامي، والمتابع للأحداث يدرك أن الملتقى توقف مع سنة 1990، وابتداء من 1991 دخلت البلاد الأزمة السياسية التي تعقدت بإلغاء انتخابات 1991/1992، ولكن ابتداء من سنة 1999 من المفروض أن البلاد تعافت، وعودة الملتقى ميسورة، ولا أدري ما الذي يمنع معالي الوزير الأول، من إعادة الملتقى ما دام يؤمن بروحه، لأنه يرى أن الملتقيات التي تشرف على تنظيمها حكومته تعمل بروح الملتقى؟ ربما كانت في البداية الظروف السياسية والأمنية هي السبب في تعطيل الملتقى كما قال سلال، ولكن الحقيقة لم تقف عند هذا الحد من التبرير، وإنما تجاوزتها إلى أسباب أخرى أيديولوحية، لأن جهات أخرى من خصوم الإسلاميين لا يسرها عودة الملتقى بذلك الحجم والمستوى الذي كان عليه؛ لأنها تعتبره رافدا من روافد التيار الإسلامي، وهم يريدون لأن يظهر الإسلاميون بشيء مميز للإسلاميين بدعم من الدولة، وللأسف فإن تعطيل مثل هذا الملتقى خسر به المجتمع الجزائري الكثير، لا لشيء إلا لأن منطق بعض من السلطة وأصحاب القرار الأيديولوجيا مقدمة على مصلحة المجتمع والأمة ومستقبل الفكر الإسلامي ومساهمة الجزائر في تنميته. ملاحظة: للتعرف على هذا الملتقى أكثر، هناك دراسة قيمة قامت بها الأخت د. شافية صديق حول هذا الملتقى مشورة في مجلة المسلم المعاصر للدكتور جمال الدين عطية رحمه الله، موجودة على "النت".