قبل شهر من موعد تجديد البرلمان، ليس واضحا أن الطبقة السياسية مهتمة بما يشهده البلد من مراجعات عميقة في منظومته الاقتصادية وفي خياراتها التنموية كما في إعادة التموقع فوق رقعة الشطرنج العالمية، وهي جميعها خيارات لها تداعيات مفتوحة غير محسوبة على مستقبل البلد، ولها في المقام الأول تأثير مباشر وعميق على مسار إعادة هيكلة قواعد الارتكاز في نظام الحكم. فمن الواضح للعيان أن النظام يمتلك اليوم خارطة طريق معلنة، لن يكون من السهل حرفها عن السكة، كما لن يكون من اليسر تعطيل مسار انتقال "الريادة الاقتصادية" ومعها لاحقا "الريادة السياسية" لطبقة متنامية من أرباب المال والأعمال، قد وضعهم النظام فوق السرج حتى وإن بقي ممسكا بالزمام إلى حين، ولن يمضي عقد من الزمن حتى تكون حصة القطاع الخاص قد تجاوزت نصيب القطاع العام، باستثناء بعض القطاعات الاستراتجية، مع ما سيترتب عن ذلك من توسيع لأدوات تأثير "المقاولون الجدد" في الحقل السياسي وفي إدارة الرأي العام. لا يحتاج المرء إلى ثقافة سياسية واسعة ليدرك أن النظام قد نجح حتى الآن في تحييد أخطر حقول الضغط والمشاغبة على أي سلطة، باستيعاب مصادر الغضب الشعبي التقليدية: السكن، والمياه، والصحة والتعليم، والقدرة الشرائية، بنسب نجاح متفاوتة لكنها ملموسة، هي التي سمحت للجزائر بترؤس قائمة ترتيب الدول الإفريقية في مجال التنمية البشرية، وهي التي ستعطل ليس فقط فرص تعويل المعارضة على التهييج الاجتماعي كوسيلة لتحقيق التغيير على طريقة ربيع الشعوب، بل سوف تحرم الطبقة السياسية أيضا من فرص التجنيد التقليدي بالأدوات السياسية لتحقيق تداول سلمي بات مستبعدا على السلطة. على المستوى الجيوستراتيجي والعلاقات الخارجية للدولة، نشاهد بوضوح إعادة تموقع مرنة للبلد بعيدا عن الأضواء، أبرز ما فيها: بداية "تحرير" البلد من "الوصاية" الفرنسية الفجة من دون حرق سفن العودة، والابتعاد عن الحقل العربي المشرقي الملغم من دون قطع حبل السرة، ثم بداية التوجه نحو الفضاء الإفريقي الواعد الذي يقتضي حتما إدارة علاقات متوازنة يقظة مع القوى الثلاث المتصارعة على الكعكة الإفريقية: الصين، أوروبا، والولايات المتحدة. على هذا المستوى أيضا نجح النظام في تحييد التأثير الخارجي (الأمريكي والفرنسي تحديدا) على مسار إعادة تجديد وهيكلة مواقع الحكم الحساسة في البلد ومنها الرئاسة ومؤسسة الجيش، بعد أن سوق نفسه ميدانيا كشريك لا غنى عنه في تأمين الحوض الغربي للمتوسط ومنطقة الصحراء الكبرى والساحل، ونشأ نوع من تقاطع المصالح بين الجزائر والولايات المتحدة على الأقل من جهة إضعاف النفوذ الفرنسي في دول الساحل ودول غرب إفريقيا. ليس بأيدينا المعطيات الكافية لتقييم هذه الخيارات سلبا أو إيجابا، لكننا حتما نتوقع من الطبقة السياسية أن تفتح هذه الملفات للنقاش، وأن تستعين بذوي الرأي والمعرفة من الخبراء والأكاديميين حتى لا تفاجأ بعد خمس سنوات من الآن أن الأمر قد قضي، وأن القطار قد أقلع بها أو ربما من دونها في مسار لا مكان فيه لطبقة سياسية لا تحسن قراءة ما يجري من إعادة توزيع للأوراق في اللعبة الداخلية كما في لعبة الأمم.