يواصل رئيس الوزراء الأسبق شهادته التاريخية، التي يرصد فيها إرهاصات الثورة من انبثاق اللجنة الثورية للوحدة والعمل، إلى دور الوفد الخارجي مابين حكم الملك فاروق والضباط الأحرار، وموقف القاهرة من دعم العمل المسلح في الجزائر، وصولا إلى المؤتمرين المتناطحين صيف 1954، مؤتمر "الانقسام" للمصاليين في جويلية ببلجيكا، ومؤتمر"المناكفة والمكايدة" للمركزيين في أوت بالعاصمة، وكيف شق المفجرين الستة طريقهم نحو الفاتح نوفمبر 1954، كل هذه المحطات في الحلقة الثالثة من شهادته التي خص بها الشروق. كيف استمرت العلاقة السياسية بن مصالي من جهة وعباس فرحات والبشير الإبراهيمي من جهة أخرى؟ ظل الصراع قائما بين البشير الإبراهيمي وفرحات عباس ضد مصالي حول قضية النشاط السري، الذي تبناه الحاج مصالي كسلاح للنضال بهدف الاستقلال، في وجه الإدارة الاستعمارية التي ظلت تعتبره حزبا انفصاليا كون الجزائر قطعة من فرنسا حسب قانونهم، وأي محاولة لفصلها تعتبر مساسا بسيادة ووحدة التراب الفرنسي.
انتقل الخلاف مع مصالي من خصومه خارج الحزب فرحات عباس والبشير الإبراهيمي إلى داخل الحزب ما حقيقة نزاعه مع المركزيين؟ نشب خلاف حاد وعنيد بين مصالي ونخبة من القيادة الممثلة في أعضاء المكتب السياسي نحو أحمد بودة ويوسف بن خدة وحسين لحول، الذين ارتكزوا على اللجنة المركزية في خلافهم ضد مصالي ومن هنا شاع مصطلح المركزيين، فصراع كان بين أعضاء المكتب السياسي ومصالي الحاج الذين يرون فيه خارجا عن قانون الحزب، فيما لا يعترف مصالي بأي قانون يحد من مسؤولياته، مختزلا ومختصرا الحزب في شخصه.
"مقاطعا" لكن لم تذكر لنا سبب الخلاف؟ حقيقة الخلاف بينهما كنت حاضرا في نقشاته كعضو لجنة مركزية، في أول اجتماع لها في جويلية 1953 (التحقت بها في أفريل من نفس السنة) فالجماعة التي اختلفت معه تقول إنها أرسلته إلى المشرق العربي عن طريق الحج، لأن الإدارة الفرنسية لا تعترض على تأدية هذه الفريضة، ومن هناك يغتنم الفرصة لاستئناف نشاطه النضالي والسياسي من منفاه الاختياري، لكن عندما وصل إلى الحجاز سمع بوجود اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقد في باريس، طار نحوها ليتمكن من الاتصال بالأعضاء العرب المشاركين في اجتماع الجمعية العامة لطرح القضية الوطنية والدفاع عنها.
لماذا غير مصالي وجهته "فجأة" وما هو موقف المكتب السياسي من تنقله المباغت؟ قرأت في تنقله من المشرق إلى باريس مخالفة لتوجيهات المكتب السياسي، فيما فهم مصالي خلفية تسفيره إلى المشرق تهدف إلى إبعاده عن البلاد وتحييده عن قيادة الحزب، وفي هذه الظروف كانت النار ملتهبة بتونس والمغرب في صراعهم مع الفرنسيين، ولما رجع مصالي من باريس إلى الجزائر رغب في القيام بنشاط تأييد للتوانسة والمغاربة الذين يطالبون بالاستقلال من الوصاية الفرنسية، فبالنسبة لمصالي العمل السياسي هو الفعل الثوري، حتى إنه ذات مرة أرسل إلينا تقريرا يقول فيه: "لازم نسيلوا الدم" ولابد أن يسيل في الشارع حسب رأيه، بينما المختلفون معه يقولون "تسييل الدم" يتطلب منظمة ثورية قادرة على إنجاح هذا الفعل.
كيف تعاملتم مع هذا الواقع الجديد؟ حدث في أواخر جوان 1954 لقاء مع جماعة القاهرة، أعضاء الوفد الخارجي لحزب الشعب أحمد بن بلة و محمد خيضر، ولأول مرة يبلغوننا بأن المصريين مستعدين لطرح القضية الجزائرية على الأممالمتحدة ولكن بشرط الشروع في العمل المسلح، لكنهم عند عودتهم للجزائر وجدوا الحزب منقسم على نفسه بين مصاليين ومركزيين، كل منهم يريد جذب جماعة القاهرة لجهته.
كيف تصرف الوفد الخارجي أمام هذا الانقسام ولمن انحاز؟ اتصلوا بجماعة اللجنة الثورية للوحدة والعمل المنحدرين من المنظمة الخاصة، لكن تجدد خلافها مع أحمد بن بلة الذي يعاني معها مشاكل عشية اكتشافها سنة 1950، خاصة خلافه السياسي مع عبان رمضان منذ أيام سجنهما في البليدة بسبب بوح أحمد بن بلة للشرطة الفرنسية بهرمية التنظيم السري مخالفا بذالك قرار الحزب الذي طبقه حرفيا عبان رمضان، الذي نفي أمام البوليس الفرنسي وجود تنظيم سري للحزب مؤكدا أنها مؤامرة دبرت من طرفهم.
ما موقف كل من المصاليين أو للمركزيين أمام عرض القاهرة؟ سألنا جماعة مصالي أحمد مزغنة ومولاي مرباح، هل نبقى في نقاشات اللجنة المركزية والتركيز على الخلاف الحاصل بيننا؟ أم نأخذ بعين الاعتبار الاقتراح الذي جاء به الوفد الخارجي من القاهرة؟ رفضوا عرض أصحاب الكنانة وبهذا يكون مصالي قد فوت الفرصة التي جاءته ليتزعم الثورة وهنا مكمن غلطته، معتقدا في نفسه أنه الوحيد من يقرر تفجير الثورة، والعمليات التي تجسدها عشية انطلاقها.
ماذا عن رأي اللجنة الثورية للوحدة والعمل أمام صراع الإخوة الأعداء (المصاليين والمركزيين)؟ سمعت قول ينسب لبشبوبة العضو النشيط في اللجنة الثورية الوحدة والعمل، مفاده أن محمد بوضياف طلب منهم أن يكون منسق ويعني بالتنسيق القيادة والظاهر أن بوضياف فهم فكرة جماعة المركزين يوسف بن خدة وحسين لحول بأنهم فشلوا في قيادة تنظيم المؤتمر الاستثنائي وسلموه لمصالي، فبالنسبة إليه قد انتهى أمرهم ولا يمكن أن يشتغل لصالحهم، بل إذا كان هناك عمل يجب القيام به سيكون لفائدة جماعته اللجنة الثورية للوحدة والعمل التي انبثقت عنها جماعة 22 التي عينته كقائد لتحضير انطلاق الثورة.
كيف كان رد لحول وبن خدة أمام طموحات محمد بوضياف الذي أصبح قائدا ميدانيا؟ أعتقد بان جماعة بن خدة ولحول كانوا يعتبرون أنفسهم لا يزالون قياديين أمام بوضياف، الذي يعتبرهم مجرد مهزومين أمام مصالي، وعندما يعارض هذا الأخير فلصالح من؟ وهو يرى الشرخ والانشقاق بين مصالي الحاج ويوسف بن خدة ، فإذا أراد أن يقوم بنشاط لابد أن يكون خارج هاذين الطرفين وهنا مكمن جوهر الخلاف، فبوضياف عندما وجد نفسه وحيدا أمام يوسف بن خدة وحسين لحول اللذان لم يكلفاه بالتنسيق، اضطر أن ينظم الأمور ويقود اللجنة بنفسه.
ثمة من يتحدث عن عملية إقصاء أو تحييد حضور بعض الأطراف لجماعة 22 ما حقيقة وواقعية هكذا طرح؟ سارت "إشاعة" فحواها لماذا لم يكون في مجموعة 22 مناضلين من الغرب والوسط الجزائري؟ مثلا كريم بلقاسم وأوعمران لم يكونا حاضرين في اجتماع 22، لأنهما كانا في اتصال مع مصالي ومحسوبين عليه وكانت قناعتهما من يفجر الثورة هو مصالي الحاج، ولذالك لم يدعون لحضور اجتماع 22.
ماسر الصعود السريع للجماعة 22 وتملصها من قيادة المتنازعين(مصاليين والمركزيين)؟ يومين قبل سفري إلى فرنسا لمواصلة دراستي اتصلت بمسؤولين كبار في الحزب طالب منهم توضيحا، عن ما آلت إليه أمورهم مع جماعة اللجنة الثورية للوحدة والعمل، أخبرني أحدهم كيف التقى بمصطفى بن بولعيد وعندما سأله عن لجنتهم رد عليه قائلا: إني متكلف بالمسائل الداخلية لعائلتي، ففهم من جوابه بأنه لا يرغب في اطلاعه عن الأمر، لكن ذاته بن بولعيد قال لبعض المناضلين في سطيف "رانا معولين نقربعوها ردوا بالكم وديروا حسابكم نهار لي نفجروها الصباح راح يكونوا عندكم باه تخبوا رواحكم" وذالك ما حدث فعلا، فمثلا الوالد تم الاتصال به في أول نوفمبر من طرف الجيش الفرنسي وسألوه عني ليخبرهم بسفري إلى فرنسا للدراسة.
الثورة على الأبواب ما سبب هذا الارتباك في المواقف؟ سمعت شخصيا حسين لحول في مؤتمر أوت 1954 يقول: أنا لا امشي في ثورة موجود فيها بلحاج عبد القادر المعروف بالحاج كوبيس، هذا الأخير تحمله جماعته في لوس مسؤولية فشله أمام البوليس الفرنسي عند كشفه للمنظمة الخاصة، غير أن حسين لحول يقول بأنه لم يفشل لكنه قلب المعطف.
ما الذي يقصده حسين لحول "بقلب المعطف" الخيانة أم العمالة؟ المشاع أن مدير الأمن في الحكومة الفرنسية صرح آنذاك أنه في اتصال مع عضو من جماعة المنظمة الخاصة الحاج كوبيس الذي يلتقيه عند كنيسة السيدة الإفريقية زاعمان الصلاة، حتى يزوده بأخبار لوس هذه الأخيرة طلبت منه ذات يوم توفير وإحضار بعض المتفجرات، فقال له مدير الأمن: نحن من نعطيك إياها.
عرفت سويسرا زخم الاتصالات بين الوفد الخارجي وممثلي الحزب ما الذي تعرفه عن تفاصيل هذه اللقاءات؟ المعلومات المتوفرة عندي حول اللقاءات التي تمت في سويسرا أن قيادة الحزب كلفت الوفد الخارجي الموجود في القاهرة بالبحث عن دعم عربي لطرح القضية الجزائرية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وجمع الإمكانيات من طرف الدول العربية للقيام بعمل ثوري في الجزائر، وخوض كفاح مسلح ضد المستعمر والذي يقتضي الحصول على دعم خارجي.
لكن مهمة الوفد الخارجي لم تكلل بالنجاح في عهد الملك فاروق؟ في جوان 1954 جاء من جماعة القاهرة كلا من محمد خيضر وأحمد بن بلة، لتبليغ قيادة الحزب بالتغيير الذي وقع في النظام المصري، لان الحكام القدماء لمصر مثل نحاس باشا كانوا يقرون بصداقتهم مع الفرنسيين ويتجنبون الخلاف معهم في موضوع الجزائر.
هل يعد موقفهم تواطأ مع الفرنسيين أم خذلان للجزائريين؟ كانوا يقولون اتركوا لنا فقط القضية التونسية والمغربية كونهما تحت الوصاية، لكن لا يمكننا معارضة الأفكار الفرنسية بخصوص الجزائر بل لا نقدر حتى على مجابهتهم، لان فرنسا قررت أن تكون الجزائر قطعة من ترابها، وأي تدخل في شؤونها الداخلية يعد مساسا بسيادتها.
ما الدور الذي لعبه انتصار الضباط الأحرار على الملك فاروق بخصوص العمل المسلح في الجزائر؟ في جويلية 1952 الضباط الأحرار انتزعوا الحكم من الملك فاروق الذي تم نفيه واستلم الرئاسة قائدهم الجنرال نجيب، الذي عاش صراعا قويا مع جمال عبد الناصر مابين سنتي 53 و54 انتصر فيه عبد الناصر على نجيب وأصبح القائد الفعلي، فاتصل جمال بالوفد الخارجي وبلغهم استعدادهم التام لدعم الثورة في الجزائر، وأبدى رغبتهم في طرح قضيتنا على الجمعية العامة للأمم المتحدة، فجاء الوفد الخارجي للجزائر مبشرين قيادة الحزب على نجاح المهمة التي كلفوا بها، لكنهم وجدوا الحزب منقسما على نفسه جماعة تتكلم باسم مصالي وأخرى تتكلم باسم المكتب السياسي(المركزيين).
ما موقف الطرفين المتنازعين من العرض المصري؟ سمعت من حسين لحول بعد لقاء سويسرا أن المصريين قالوا لهم :"اشرعوا في ثورتكم وكل شيء سيأتيكم" من مال وسلاح و رجال وحتى الدعم السياسي، وهنا ينبغي الاعتراف للدور والمجهود الذي بذله المصريين، لما عاد لحول بعد لقاء سويسرا الذي جمعه بالوفد الخارجي بلغ بن خدة والجماعة بالعرض المصري، لكن يوسف بن خدة طلب التأكد من المصرين أنفسهم إن كان عرضهم حقيقيا وجادا، لأنه لا يثق في كلام أحمد بن بلة.
هزيمة فرنسا الثانية في الهند الصينية ما أثرها في الجزائر خاصة المعتنقين لفكرة العنف المسلح ضد فرنسا؟ هزيمة فرنسا الأولى أمام الألمان سنة 1940 كان لها صدى مدوي داخل حزب الشعب ثم الهزيمة الثانية النكراء على يد الهند الصينية سنة 1954، "فمعركة ديان بيان فو" تعد المرة الأولى في تاريخ فرنسا التي تهزم فيها من طرف دولة تحتلها، الهزيمة الأخيرة أعطت دافعا قوي لعناصر اللجنة الثورية للوحدة والعمل، المعولون أصلا على تفجير الثورة، فأصبح النقاش حول إمكانية الهجوم على فرنسا لم يعد أمرا مستحيلا بل وارد وممكن..