يستكمل رئيس الوزراء الأسبق بلعيد عبد السلام في شهادته المتواترة، حول شجون الصراع المزمن بين فكرتي الاحتلال والاستقلال، وعقبة الأقلية الكولونيالية أمام نيل السيادة الوطنية، ومحنة المنظمة الخاصة "لوس" وتلكؤ القيادة السياسية التي فرملة عودتها، ليعرج في حواره عن النزاع المرير بين "الزعيم والحواريين" في معركة خسارة المغلوبين أمام جسارة المفجرين. كما يتطرق في شهادته لمكابرة أب الحركة الوطنية و"هرمون الزعامة الفائض" الذي حال بين نفسه والثورة، التي عرضت عليه ورفض تزعمها من لدن تلاميذه، الذين شكل صعودهم السريع من جماعة 22 إلى مجموعة 6، مرحلة فاصلة في تاريخ الجزائر، عندما طوي تفجيرهم صفحة جيل الحركة الوطنية ودشنوا جيل الثورة التحريرية، كل هذه التفاصيل في الحلقة الثالثة من شهادته التي خصّ بها الشروق.
حضرتم مؤتمر أفريل 1953.. كيف خضتم هذه التجربة الأولى كعضو لجنة مركزية؟ المؤتمر كان في جدوله نقطة واحدة تتمحور حول موضوع حلّ المنظمة الخاصة لأن المناضلين الذين حضروا للمؤتمر جلهم يتساءلون لماذا حلت "لوس"؟ معتبرين أن الحزب ضيّع سلاحه الحقيقي كون المنظمة الخاصة ذراعه العسكري المسلح والمعول عليه من طرف المناضلين باعتباره حامل مستقبل البلاد، فخرج المؤتمر بقرار بعث المنظمة الخاصة من جديد وإعادة هيكلتها وكلف القيادة بتنفيذ القرار.
لكن القرار لم ينفذ والمنظمة الخاصة لم تعد؟ عقدنا أول اجتماع للجنة المركزية بعد المؤتمر في الجزائر العاصمة طرح مصطفى بن بولعيد كونه أحد أعضاء اللجنة المركزية قضية "لوس" متسائلا لماذا تلكأت القيادة في تطبيق قرار المؤتمر القاضي بعودة المنظمة الخاصة بعد حلها؟ فأجابه يوسف بن خدة بأنه لقاء تنظيمي وليس لمعالجة القضايا والمشاكل، رد عليه بن بولعيد بأنها قضية مطروحة في جوهرها وليس مجرد قضايا شكلية، واستنادا لطرحه تشكلت لجنة تحقيق في ملابسات عدم تطبيق قرار المؤتمر القاضي بإعادة تشكيل المنظمة الخاصة.
ما هي الأسماء التي شكّلت لجنة التحقيق؟ شكلت لجنة التحقيق من يوسف بن خدة الأمين العام للحزب وحسين لحول عضو اللجنة المركزية وبشير دخلي المفتش العام مكلف بالاتصال بالفدراليات والقسمات وسيدي علي عبد الحميد مكلف بالتنظيم داخل المكتب السياسي والرئيس مصالي الحاج الذي اعتبر تكوين لجنة تحقيق بمثابة دفن للقضية.
وماذا عن صلاحياتها؟ بتفويض من اللجنة المركزية المسؤولة عن تنفيذ قرارات المؤتمر، تم إعطاء لجنة التحقيق المشكلة من الخمسة المذكورين، الصلاحيات الكاملة لإعادة بعث وتكوين المنظمة الخاصة وفق هيكلة وأهداف جديدة باستدعاء المناضلين للمشاركة فيها مجددا، لكن أجهل ما الذي فعلته جماعة الخمسة أثناء تحقيقها.
لكن عمليا لم تنجح لجنة التحقيق في إعادة بعث المنظمة الخاصة؟ حسين لحول كان هو المنسق بين الحزب والمنظمة الخاصة منذ تأسيسها سنة 1947، يقول هذا الأخير بأنه اتصل بمحمد بوضياف قائد "لوس" في عمالة قسنطينة ونائبه ديدوش مراد لتبليغهما بأمر عودتهما من باريس إلى الجزائر تنفيذا لقرارات اللجنة المركزية، ليكونا على رأس النظام الجديد للمنظمة الخاصة ويتولون مسؤولية الإشراف والتنظيم وهيكلة "لوس" وفق خطة جديدة.
هناك من يرى أن قرار عودتهما كان شخصيا لا حزبيا.. ما صحة هذه الرواية؟ رجوعهما كان بأمر من حسين لحول على حد قوله، الذي يؤكد أن تواجد الاثنين (ديدوش وبوضياف) في فرنسا ليس كأشخاص أحرار وإنما كأعضاء ممثلين عن جهاز الحزب، وهو ما لاحظته شخصيا في تلك اللقاءات المتكررة التي جمعت بين حسين لحول ومحمد بوضياف وديدوش مراد في مقر الحزب لكن لا علم لي عن ما كان يدور بينهم.
لكن مؤتمر أفريل 1953 ناقش عدة قضايا من بينها انتخاب قيادة جديدة، وتفعيل مبدأ القيادة الجماعية بغية تقليص الصلاحيات المطلقة لمصالي الحاج؟ صحيح قد خرج المؤتمر بعدة قرارات أهمها أن تحرير الجزائر لا يتم إلا بإشراك جميع الجزائريين، لكن مبدأ توحيد صفوف الوطنيين لا يتفق معه مصالي معتبرا حزب الشعب الفصيل السياسي الوحيد والأساسي الذي ينادي بالثورة ويطالب بالاستقلال.
هل يوجد سياسي عاقل أو حكيم يرفض توحيد الصفوف ضد محتل استيطاني؟ لما طرحت الفكرة في المؤتمر للنقاش عارضها مصالي ورفضها، خشية منه لو تتوحد الصفوف يصبح حزبه مجرد طرف في تحرير البلاد وليس الحزب الأوحد، وهنا يكمن جوهر الخلاف. وحسب تجربتي كعضو في اللجنة المركزية، مصالي الحاج لم يكن ليقبل أن تحرر البلاد بجميع الأطراف بل فقط من طرفه.
قضية الأقلية الفرنسية أخذت حيزا كبيرا من النقاش داخل المؤتمر، ما سرّ توقيتها؟ من قرارات المؤتمر الهامة كذلك اعترافه بوجود مشكلة الأقلية الفرنسية، فبعضهم كانوا في اتصال مع حزب الشعب وطرحوا علينا سؤالا وجيها: "يا ترى عند الاستقلال كيف يكون مصيرنا في الجزائر المستقلة؟: "نحن مستعدين للتخلص من الجزائر الفرنسية ولكن نرفض أن تكون عربية إسلامية".
هل المؤتمر اكتفى فقط بالاعتراف وكيف كان موقف المناضلين من اقتراح المعمّرين؟ بعض المعمّرين مثل جاك شوفالي يؤكد أنهم معنيون بالأمر وجاهزون لمساعدتنا كمسيرين لشؤون محافظة الجزائر فهل توافقون على طرحنا؟ هنا تقريبا أخذ مفهوم فكرة الدولة والأمة الجزائرية يشق طريقه بين الأقلية الفرنسية، التي ظلت تطرح عدة تساؤلات حول مصيرها بعد الاستقلال، ذات المشكل اعترض الفريق المفاوض باسم جبهة التحرير الوطني عشية اتفاقيات إيفيان حول تقرير المصير.
في أول اجتماع للجنة المركزية بعد المؤتمر طرحت مشكلة تكوين قيادة جديدة، كيف عالجتم هذه المشكلة؟ بعد المؤتمر طرح مشكل تعيين قيادة جديدة بدل القديمة برئاسة مصالي الحاج ومساعده حسين لحول كأمين عام، ومن صلاحية رئيس الحزب اقتراح قيادة جديدة، فاختار لها يوسف بن خدة كأمين عام في جويلية 1953و بعد شهرين (في سبتمبر) سحب منه الثقة وصار يتعفف حتى على ذكر اسمه بل يلقبه بالأمين العام المسحوب منه الثقة.
ماهو ردّ فعلكم كأعضاء للجنة المركزية؟ رفضت اللجنة المركزية قرار مصالي فنشبت الأزمة، وواجهته بسؤالها كيف تسميه ثم تنقلب عليه؟ فردّ عليهم: لماذا الحزب لم يتحرك بعد مجازر باريس؟ التي سقط فيها سبعة جزائريين في مظاهرات اليساريين (14جويلية 1953) متهما يوسف بن خدة بالتقاعس في أداء مهامه كأمين عام، ثم استفسرهم عن غياب ردة فعلهم دفاعا عن إبعاد السلطان محمد الخامس في جويلية 1953، فجاء جواب يوسف بن خدة: كنا نشتغل على ذلك، يقصد الحادثين سقوط السبعة ونفي السلطان.
الصراع دار أصلا حول شخص يوسف بن خدة، كيف تصرّف المناضلين أمام قرار سحب الثقة؟ في سنة 1951 حدثت أزمة في قمة هرم حزب الشعب، فمصالي كرئيس تخوّل له صلاحياته اقتراح الأمين العام مع تزكية الثلثين، فاقترح يوسف بن خدة لكنه لم يحصل هذا الأخير على نصاب ثلثي أعضاء اللجنة المركزية التي رفضت تعيينه كأمين عام مقترح من طرف مصالي.
ما الذي حدث بعد رفض المركزيين تزكية يوسف بن خدة؟ عند انتهاء الانتخاب تحدّث الممثل الشخصي لرئيس الحزب مولاي مرباح قائلا لأعضاء اللجنة المركزية: سيدي الحاج كان يخطر في باله هذا الموقف ومنه وعليه يقترح عليكم حسين لحول كأمين عام، فثارت ثائرة لحول ليكشف الحقيقة أمام الحضور: "راه يوسف بن خدة منذ سنتين وهو أمين عام".
هل أفهم من حديثكم أنكم تجهلون حقيقة ما يدور في دهاليز قيادة الحزب؟ لأول مرة نطلع على هذا السر بأنه ثمة أزمة قديمة صامتة تتمثل في وجود أمينين عامين للحزب، أحدهما معلن وهو حسين لحول والثاني حقيقي هو يوسف بن خدة، هنا فقط أدركنا الحقيقة وخلفية الصراع الصامت، فيما باقي الأعضاء الجدد لم يكونوا مطلعين على دسائس الحزب.
كيف تم احتواء الأزمة؟ عولجت الأزمة بعد مناقشة اللجنة المركزية التي وجدت نفسها أمام مشكل تعيين قيادة جديدة تناسب مصالي، كونه رئيس الحزب فهو يملك صلاحيات أعلى جعلته يطلب في سبتمبر سحب الثقة من الأمين العام يوسف بن خدة الذي عينه بنفسه في شهر أوت، وبهذا يكون مصالي الحاج طالب بحرية التصرف المطلق داخل الحزب.
ما هو موقف اللجنة المركزية من مطلب السلطة المطلقة؟ أجابته اللجنة المركزية بأن وجوده في المنفى وتحت الرقابة اليومية للشرطة الفرنسية، لا يمكنه التصرف في الحزب بهذا الشكل المطلق والأحادي في مثل هذه الوضعية، ربما يصدر منه خطأ سياسي وليس معه أي أحد يرشده أو يوجهه أو يمده بالمعطيات والمعلومات الميدانية، وهكذا يكون رفض اللجنة المركزية لطلبه جعل الخلاف يحتدم بينهما، لأن مصالي يعتقد أن الحزب ملكية شخصية يتصرف فيه كما شاء.
هل طلبه يعود لشرعيته التاريخية أم لدواع ذاتية؟ يوجد زعماء يصل بهم حين من الدهر يعتبرون أنفسهم أصحاب ملكية خاصة فيما يخص المسؤولية التي بين أيديهم وهي بالأساس مسائل شخصية وإنسانية.
لكن قرارات بن خدة عمّقت الشرخ مع مصالي؟ تم انتخاب جديد وتحصّل يوسف بن خدة على أغلبية الثلثين، فشرع وفق القانون الأساسي للحزب الذي يلزمه بتشكيل المكتب السياسي، فاختار له كل من مصطفى فروخي وحسين لحول وعبد الرحمان كيوان وعبد الحميد سيدي علي، بالمقابل فصل كلا من أحمد مزغنة ومولاي مرباح، فيما أحمد بودة يقول على نفسه بأنه انفصل عن القيادة غير أن المناضلين كانوا فرحين بانفصاله حسب قوله.
ألا ترون أن قرار الفصل كان بدافع الانتقام ربما؟ يوسف بن خدة برّر فصلهم لقلة انضباطهم في قيادة الحزب، لكنه يعترف بأنه أخطأ سياسيا في فصل أقرب المقربين لمصالي أحمد مزغنة ومولاي مرباح، كونه تجرأ في المساس بحساسية مصالي، هذا الأخير اعتبرها عملية استفزازية ضده وجعله يشعر بأنها مؤامرة تحاك لإبعاده من الحزب.
إلى أين انتهى هذا الصراع المزمن بين المركزيين والمصاليين؟ دام أمد الصراع بينهما من سبتمبر 1953 إلى مارس 1954، في نفس الفترة أعلن مصالي أمام المناضلين نزوله إلى الشارع لمناداة الجماهير واطلاعها على حقيقة الخلاف بينه وبين قيادة الحزب، حول رغبته في القيام بثورة مسلحة، لكن المكتب السياسي رفض ذلك، فطالب بتنحية الأمين العام للحزب يوسف بن خدة.
ماذا كان ردكم كمركزيين على مطلبه؟ اجتمعت اللجنة المركزية في مارس 1954 لكن في وضعية صعبة جدا، خاصة بعد أن خرج مصالي للشارع وأصبح يهدد "إن لم تسلّموا لي الحزب سأهجم عليكم وأضربكم" هنا يجب ذكر دماثة أخلاق يوسف بن خدة كونه رجل حكيم لا يرغب أن يتصارع الناس من أجله أو المناضلين من حوله، فجرى اتفاق أجهل تفاصيله، حيث جاء بن خدة أمام اللجنة المركزية وأعلن استقالته وانسحب من المسؤولية وأصبح مجرد عضو في اللجنة المركزية أسوة بباقي الأعضاء.
كيف تصرفت القيادة بعد هذه الاستقالة "المباغتة"؟ وجدت القيادة نفسها أمام فراغ سياسي وتنظيمي وواقع جديد من الذي يسير فيه الحزب؟ تم اتخاذ قرار شاركت فيه يقضي بتسليم مسؤولية تنظيم المؤتمر الاستثنائي لمصالي لمعالجة الخلاف المطروح والدائر بينه والجماعة التي تعارض أفكاره، لكن لما خرجنا للشارع للاتصال بالمناضلين كأعضاء لجنة مركزية وجدنا قرارات أخرى لم نعرف مصدرها، وقتها فقط سمعنا بتكوين اللجنة الثورية للوحدة العمل.
كيف وجدت اللجنة الثورية للوحدة والعمل طريقها للوجود؟ سألت عنها شخصيا يوسف بن خدة فأخبرني أنهم اتصلوا بهم كأعضاء في المكتب السياسي، لكن نحن كأعضاء اللجنة المركزية لا علم لنا بهذه الدسائس التي وقعت كنتيجة للخلاف الحاد بين مصالي ويوسف بن خدة الذي قال في حق خصمه "أنت لعبت بينا ونحن نلعب بيك"، فيما مصالي كان يردد "فيه أناس يحملون أفكاري ويحاولون أن يحاربونني بها".
لماذا انتقل التنازع حول الصلاحيات بين المصاليين والمركزيين، من الحزب إلى الشارع؟ في مارس 1954 اجتمعنا كلجنة مركزية تحت ضغط المصاليين، الذين يهدّدون باستعمال العنف ضد المعارضين والرافضين لمطالب مصالي الحاج، حدثني يوسف بن خدة كيف دخل عليه اثنان من المناضلين الموالين لمصالي وهدّداه برميه من النافذة، ليرد عليهما قائلا: "إني تحت أيديكما" فلم يجاريهما في عنفهما وهو المعروف بالهدوء ورجاحة العقل.
هل أفهم من كلامك أن ثمة رضوخ لجموح سلطة مصالي، التي باتت تستعمل العنف لتحقيق مآربها السياسية؟ تعمّق الخلاف بين مصالي واللجنة المركزية التي اقترحت عليه عقد مؤتمر استثنائي للفصل في الخلاف، لكنه اشترط مصالي أن يكون المؤتمر تحت إشرافه، رفضت اللجنة المركزية طلبه، ولكن في اجتماع مارس اتخذت الأخيرة قرارين الأول، بتسليم مصالي حق تنظيم المؤتمر الاستثنائي، والثاني إعطائه مبلغ عشرة ملايين من صندوق الحزب لتسديد مصاريف المؤتمر.
هل حدة الاصطدام بين مصالي ويوسف بن خدة هي التي "فرخت" خيارا ثالثا تمثل في اللجنة الثورية للوحدة والعمل؟ في هذه الأجواء المشحونة انبثقت منظمة جديدة سمعنا بها في الزقاق، تدعى اللجنة الثورية للوحدة والعمل، كأعضاء في اللجنة المركزية لا علم لنا بها (وقتها)، فلما التقيت يوسف بن خدة استفسرته: ما الذي يحدث كيف نتخذ قرارا وأعضاء آخرون يأتون بقرار آخر لا يعترفون فيه بمصالي؟ أجابني: لما أعلنّا الاستقالة أمامكم لم نخبركم حتى تبقى طي الكتمان، لكن في المقابل اتصلنا بقيادة المنظمة الخاصة وقلنا لهم العبوا دوركم، فكوّنوا اللجنة الثورية للوحدة والعمل.