هما طرفا، معادلة حضارية فاعلة، مقدمتها قوة البدن، وقوة العقل، ونتيجتها قوة العلم، وكثرة العمل. لقد غدت هذه المعادلة، في ضوء التجارب العلمية والتاريخية، معادلة إنسانية تعلو عن المحلية، وتتجاوز القوالب الأيديولوجية، ذلك لأن المحلية المتعصبة، والإيديولوجية المتصلبة، هي عوائق تصد، وحواجز تحد. فالطالب هو الطاقة الوثابة المتفجرة، قوة وحيوية، والشجرة المخضرة نماء وأريحية، أصلها ثابت في الماضي التليد، وغصنها ممتد في الحاضر الوليد، وثمرتها طموح نحو المستقبل السعيد. إنه الطالب الذي تتفاعل فيه نخوة الباء، أباء، والإباء، وعزة العلم والعلماء، فتتعمق في شخصيته صولة العلم، في مواقف الدفاع عن الحق. ذلك هو ما يجب أن يكون عليه الطالب، الجامعي على الخصوص، أما ما هو واقع، فقد تحول فيه الطالب الجامعي، وهو رائد علم، إلى "راغب علامة" وهو رائد فن، فضاعت الشهامة، وانخفضت الهامة، وساد الجهل على حساب الفهم و"الفهامة". أما المطلوب وهو الشق الثاني من المعادلة فهو طموح نحو الاستزادة من العلم والتخصص في مختلف فروعه، وسعى حثيث نحو الابتكار العقلي، والإبداع المنهجي، والتجديد الفكري. فماذا تحقق من كل هذه للطالب اليوم؟ وماذا تجسد من المطلوب في جامعتنا اليوم؟ نريد في هذه الفسحة من الفضاء، أن نجيب عن هذه الأسئلة، خصوصا ونحن نعيش أجواء ما عرف ب "يوم الطالب" وإغفال ما كان يجب أن يكون، وهو يوم الأستاذ، ومن هنا تكون بداية الخلل في معادلة الطالب والمطلوب. فالخلل الأول يكمن في تخلي الطالب الخلَف عن الوفاء للطالب السلَف. فقد كان الطالب الخلَف، الذي نستعيد ذكراه بمناسبة يوم التاسع عشر من مايو، ثورة عقلية على الاتباعية، وخطوة عملية في طريق الإبداعية. اتخذ طلاب عام 1956، القرار المصيري الحاسم فأَضربوا، وأطربوا على حد تعبير الإمام محمد البشير الإبراهيمي. هم أَضربوا عن تلقي علم كان ينفث في عقولهم السموم، وعن معلم كان يجسد بمنهجه كل معاني الظلم، والغزو والهموم، ومقاطعة معهد يناصب العداء للهوية والوطنية، وكل صالح من المفهوم "قلله إضراب، كل ما فيه إطراب". قال طلبة الخلَف، للعلم المسموم، والمعلم المحموم، والمعهد الملغوم، قالوا على لسان شاعر الجزائر صالح خرفي، خلد الله، في الصالحين ذكره: دعونا نسكن الغابات إنا وجدنا مسكن الغابات أحلى فذاب طلبة الأمس بين الجماهير، وسط كهوف الجبال، وسفوح التلال، ودهاليز العمارات، وزنازين السجون، للخلاص من القيود والأغلال. وكان الخلل الثاني في المعادلة الجامعية المجسدة اليوم، هو إدارة الظهر لمبادئ الخلَف، في تحرير الهوية من الغزو الاستعماري، وتخليص الوطنية من براثن، عدو الأمس، ونبت عرسه الهجين اليوم، الذي يزرع الجفاف في نبع موردنا الصافي الجاري. وإذا كان منطق الغابات أحلى عند السلف، فإن منطق، ما بعد الأدغال والغابات، في عهد استقلال الخلف، يجب أن يكون أحلى وأجدى. وثالث خلل في المعادلة الجامعية اليوم هو الاحتفال بذكرى الطالب. وإغفال ذكرى الأستاذ، وهو الذي بنى المدارس، فكانت لوعي الطالب مغارس، فأعدته لملإ جامعة، تكون جزائرية الهدف، عربية المنهج، إسلامية الروح... وأعجب لوطن يبرز فيه الطالب، ويغيّب فيه الأستاذ، وبذلك ضعف الطالب والمطلوب. لقد كان أسلافنا، يمنون النفس، ويدغدغون المشاعر، بإن جامعة الجزائر المستقلة، التي ستبنى بأحجار الجزائر الكريمة، ستكون نموذجا في منهجها العلمي، وقدوة في سلوكها التربوي، ومثالا في انضباطها التنظيمي، تخرّج لنا العالم الذي يقود ولا ينقاد، والطبيب الذي يداوي كل أمراض العباد، والإمام المصلح الذي يقضي على كل أنواع الفساد، والفيلسوف الذي لا ينتصر للإعتزال في يوم الحسم والنزال، وبكلمة واحدة المثقف الجزائري الذي يلتزم بقضايا العباد والبلاد.. فما بالنا نصطدم في حياتنا اليومية، بالمثقف الذي لا يبنى، وإنما يبدد، ولا يوجد بل يعدد، ولا يصون بل يهدد، ولا يسدد بل يشدد؟ يحدث كل هذا، في عصر طغى فيه التيسير على التعسير، وساد العلم وفن التكنولوجيا، بدل التأويل والتقصير، والإيمان والبرهان، على التبديع والتكفير. إنه ليعز علينا، أن تبنى الجامعة الجزائرية بغير أحجارها الكريمة، فتحشو عقول طلابها بغير ثقافتهم الأصيلة، ولغتهم النبيلة، وأخلاق سلفهم الجليلة. لقد نقل أسلافنا من العلماء وطلاب المعرفة، نقلوا العلم إلى لغاتهم من لغات غيرهم، ولم ينتقلوا هم إلى لغات غيرهم، فكان ذلك قوة لهم ولثقافتهم، فما بالنا اليوم ننتقل كلنا بعقولنا، ولغاتنا، وأفكارنا إلى لغات غيرنا، لتكريس ضعفنا العام، وتعزيز قوتهم الخاصة؟ لقد انهزمنا علميا وتكنولوجيا، ونفسيا وأخلاقيا، حينما رفعنا راية اليأس، بدل أن نقتدي بأسلافنا، يتبنى مقاومة البأس. إننا نتعامل مع التكنولوجيا الوافدة، بذهنية الذاهل المنبهر، لا بعقلية المتبصر المنتصر... وبدل أن نخضع التكنولوجيا لمنطق ثقافتنا، ووسائل الاتصال لترقية لغتنا، أصبحنا عجلة خامسة في عربة غيرنا، لا يؤبه لنا إلا عندما تصاب العربة بعطب، فيؤتى بنا لإنقاذ العربة، لا لقيادتها، ثم نعود إلى احتلال موقعنا كطابور خامس. إن التكنولوجيا ممثلة في الإعلام الآلي، والهاتف الجوال، وغيرهما، هي سلاح ذو حدين، إما أن نخضعها لثقافتنا، وهويتنا، ولغتنا، فنفتح بها العالم، وإما أن تخضعنا للغتها، وثقافتها، وهويتها كما هو سائد فتفتح عقولنا لغزوها، وذاتنا لسعوها، وذلك هو الاحتلال الآخر للذات، وللعقول، بعد فكاكنا من احتلال الثكنات والحقول. فما جدوى جامعة، تكرس التخلف، وتعمق التبعية، وتقضي في مثقفيها أستاذا وطالبا على كل مقومات الإبداع والإبداعية؟ أما آن لحاملي مسؤولية المنظومة التربوية، على جميع مستوياتها، بدء بالحضانة، وانتهاء بمراكز البحث العلمي، ومرورا، بالإبتدائية والثانوية والجامعية، أما آن لهم أن يخضعوا كل التجربة للبحث والتأمل، والتقويم من أجل التصحيح وإعادة البناء؟ لقد وعى كل ذي عقل، وكل ذي علم، وكل ذي وطنية، ضعف الطالب والمطلوب، في المنظومة التربوية بأكملها، وبقي أن يفيق مسؤولوها من الغفوة والهفوة.. فمتى يتحقق الأمل، ويبدأ العمل؟