تمكن اللاجئون الأفارقة من تأسيس أول مدينة فوضوية لهم على ضفاف واد الحراش، وبالضبط تحت الجسر الرابط بين براقي وبابا علي بالعاصمة، أين تختفي تحته قبيلة كاملة من "الحراقة" القادمين من النيجر، توزعوا على شكل عائلات تحتمي بخيم بالية وأقمشة مرقعة، يمارسون التسول نهارا والتجارة ليلا. وقد بدأت هذه القرية المخفية تنال فضول الجزائريين الذين يركنون سياراتهم كل مساء وينزلون من أعلى الجسر ليقاسموا الأفارقة حياتهم اليومية التي تتنوع بين الطبخ والرقص والغناء والتجارة رغم التشرد والغربة. اقتربت الشروق من المدينة الإفريقية المخفية تحت جسر الطريق السريع، ولم يكن سهلا التسلل بين عشرات، بل مئات الخيم المترامية الأطراف، التي تختفي بين الأحراش وأكوام القش والقمامة، اصطحبنا معنا أكياسا من الخبز لتوزيعها على العائلات مما سهل لنا الدخول، حيث وجدنا ترحيبا غير متوقع من الشباب الذين كانوا يرددون علينا عبارة "السلام عليكم"، فقد تعودوا على الجزائريين وألفوهم وباتوا يتقنون الحديث ببعض العبارات العربية والجزائرية. استقبلنا أحد الشباب الذي يدعى أبو بكر فسألناه هل ترغبون في العمل بإحدى الورشات المتواجدة في مدينة بئر خادم، فرحب بالفكرة وطلب رقم هاتفنا، ولم يكن هذا الاقتراح سوى حيلة لنتبادل أطراف الحديث مع الشباب الذين استقبلونا، مؤكدين لنا أنهم ينحدرون جميعا من النيجر واختاروا أن يتجمعوا في مكان واحد من أجل حماية أنفسم والتعاون في تأمين فرص العمل والعيش.
النساء ينفقن على الرجال وهن سيدات القبيلة وصلنا إلى عين المكان في حدود منتصف النهار، أين شاهدنا جماعات متفرقة من الشباب والرجال الذين كان بعضهم نائما والبعض الآخر يداعب الهاتف ويلعب "الديمينو" ولم نشاهد في البداية أي امرأة أو طفل، وعند استفسارنا عن الأمر أكدوا لنا أن النساء هن السيدات في هذه القبيلة بسبب قدرتهن السريعة على كسب المال عن طريق التسول، فالجزائريون حسبهم يفضلون التصدق على النساء والأطفال ويرفضون في كثير من الأحيان مد أموالهم للذكور من الشباب والرجال وحتى المسنين بحجة أنهم قادرون على العمل، وهذا ما يجعل المرأة في هذا المكان الفوضوي تعامل باحترام وتبجيل من طرف الأبناء والزوج الذي ينتظر زوجته كل مساء ليقاسمها الغنيمة.
طباخ جماعي.. صحن الأرز ب50 دج وبرج دلاع ب40 دج غياب الإمكانيات ووسائل الطبخ الفردية ساهم في ظهور تجارة مربحة وسط الأفارقة، حيث لجأ بعض الشباب إلى امتهان حرفة الطبخ الجماعي وتحويل تجمع الأفارقة إلى مطعم على الهواء الطلق، حيث تباع مختلف الأطباق والوجبات الجاهزة بأسعار متدنية وفي مقدمتها الأرز الذي يبلغ سعر الصحن الواحد منه إلى 50 دج، بينما يسوق الدجاج ب 100 دج للقطعة وبالنسبة للفاكهة خصص بعض الشباب طاولات لتسويق الدلاع والبطيخ، حيث يقطعون البطيخة إلى "أبراج" يباع البرج الواحد ب 40 دج، والغريب أن عمليات الطهي والبيع وحتى الأكل تكون جميعها على ضفاف واد الحراش أين تشكل الرائحة الكريهة والبعوض ديكورا يوميا خاصة خلال الأيام الماضية، حيث شهدت درجات الحرارة أعلى ارتفاع لها منذ أشهر.
محلات للمواد الغذائية والحلاقة على الهواء الطلق أسس العديد من الحراقة الأفارقة تجارة مربحة وسط بني جنسهم، فالمكان الذي تتواجد فيه قرية الأفارقة المخفية تحت الجسر الرابط بين براقي وبابا علي مكان معزول، يبعد عن أقرب مدينة بخمسة كيلومترات، وهذا ما يجعل اقتناء الحاجيات اليومية من مواد تنظيف ومواد غذائية أمرا صعبا سهله هؤلاء التجار الذين أسسوا لسوق فوضوي يباع ويشترى فيه كل شيء، فبداية من المواد الغذائية من حليب وعجائن وبقول إلى مواد التنظيف والمشروبات ولم يكتف التجار بهذا الحد بل أبدعوا فضاءات لتقديم خدمات الحلاقة على الهواء الطلق بسعر 100 دج لحلاقة الشعر و50 دج لحلاقة اللحية والشارب، فأموال التسول والعمل في ورشات البناء تدور بين أفراد القبيلة أين يتم ضمان الحد الأدنى من الخدمات والنظافة والإطعام والأسعار في متناول الجميع.
الماء والظل معياران لاختيار تجمعات الأفارقة وعن سبب اختيار هذا المكان لإقامة تجمع فوضوي تحول مع مرور الوقت إلى قبيلة للقادمين من النيجر، أكد الشباب الذين تحدثنا إليهم أن الماء الصالح للشرب والاحتماء من حرارة الشمس والأمطار هما معياران أساسيان لاختيار مكان الإقامة، وهذا ما يتوفر عليه الجسر الذي يحتمون تحته حيث يصل عرضه إلى 80 مترا وطوله 200 متر، ما يوفر لهم سقفا عملاقا يحميهم من لهيب الصيف وأمطار الشتاء، كما يتميز المكان بوجود منبع لمياه الشرب التي يعتمد عليه الفلاحون في المنطقة في سقي أراضيهم وأشجارهم وهذا ما ساهم في توافد مئات العائلات النازحة من النيجر إلى جسر براقي الذي ساهم في ستر وإخفاء وإيواء عدد كبير من الحراقة الأفارقة.
رغم الفقر والتشرد.. الجزائر جنة رغم المعيشة البدائية التي يكابدها اللاجئون الأفارقة في الجزائر غير أنها حسبهم أفضل من الحروب والمجاعة والنزاعات التي هربوا بسببها من بلدانهم، فما وجدوه في الجزائر من نعمة الأمن والإطعام جعلهم يفضلون البقاء في شبه مخيمات مخفية تشهد توافدا سريا للمزيد من اللاجئين، الذين وجدوا في التسول عملا مربحا، ففي كل مساء ينزل عشرات الشباب الجزائريين إلى أسفل الجسر حاملين معهم المساعدات من الألبسة والأغطية والمواد الغذائية لتسهيل حياة الأفارقة، وفي رمضان تتسابق موائد الرحمة وورشات البناء إلى دعوة هؤلاء الشباب إلى العمل والإفطار ما أمن لهم مصدرا للعيش.
النساء يلدن في الهواء الطلق وأمراض قاتلة من دون دواء بعيدا عن التسول الذي يشتهر به الحراقة الأفارقة في الجزائر، يكابد هؤلاء حياة صعبة أقل ما يقال عنها إنها "حيوانية" فنساؤهم يلدن في الهواء الطلق بعيدا عن المستشفيات وأطفالهم يموتون في صمت ويدفنون في أماكن سرية، بسبب كثرة الأمراض الناجمة عن الأوساخ والتعرض الطويل للبرد والحرارة، فالرائحة والبعوض الناجمان عن واد الحراش يتسببان يوميا في أمراض لا تنتهي الضحية الأولى فيها هم الأطفال وكبار السن، فبمجرد وصولك إلى معسكر الأفارقة تقابلك الروائح الكريهة والقاذورات والملابس المتسخة.
هاجس الترحيل يطاردهم في النوم واليقظة أبدى الأفارقة الذين تحدثنا معهم تخوفا كبيرا من طردهم وترحيلهم القسري، فقد أكد لنا بعضهم أنهم تلقوا تهديدا من طرف السلطات المحلية ورجال الأمن بطردهم هذا الأسبوع، ما جعلهم في حالة تأهب قصوى، فحسبهم الجزائر هي البلد الوحيد الذي وجدوا فيه راحتهم ولن يستطيعوا العيش في أي بلد آخر فقد وجدوا في الجزائريين الكرم والأمن والطمأنينة..