اختفى الرعايا الأفارقة من الشوارع والمدن الجزائرية بعد ما شكلوا جزءا لا يتجزأ من ديكورها لعدة أشهر، وعلى الرغم من عمليات الترحيل التي تحرص السلطات، في الفترة الأخيرة غير أن الكثير من الرعايا النيجريين رفضوا العودة لبلدانهم وقرروا خوض رحلة الهروب بغية الاستقرار في الجزائر ولم لا الوصول للضفة الأخرى من المتوسط. "الشروق" نزلت للشارع وراحت تبحث عنهم، للاقتراب من يومياتهم، واكتشاف أسرارهم وأماكن تواجدهم.. لا أثر للأفارقة في العاصمة نهارا، فالمناطق التي كانوا يأهلونها وطالما شكلوا فيها ديكورا يوما في الشوارع والطرقات للتسول واستمالة المواطنين بالمصاحف و"لمسبحات" على غرار الرويبة، الرغاية، القبة مرورا بعين النعجة وعين البنيان، تكفي للتأكد بأنه لا أثر لهم باستثناء بعض مخلفات خيامهم العشوائية أو قطع من ثيابهم، فقد اختفوا جميعا أو هكذا يهيأ للمتجولين في الشوارع للوهلة الأولى. والغريب في الأمر هو الظهور الفجائي والمبرمج للأفارقة قبيل حلول الظلام، في المناطق التي تكثر فيها زحمة المرور، وهذا بهدف التسول بعيدا عن أعين مصالح الأمن لتجنب الترحيل الإجباري الذي تمارسه الجزائر منذ فترة بطلب من السلطات النيجيرية. عدد كبير من الأفارقة من الأصول النيجيرية بقوا في الجزائر ورفضوا الترحيل، وبالرغم من حملهم قصرا إلى المناطق الحدودية غير أنهم يعاودون النزوح للعاصمة والمدن الكبرى، ويحاولون الفرار من قبضة مصالح الأمن فيما يشبه لعبة القط والفأر، يهربون نهارا ليعودوا مساءً محاولين العثور على عمل ليلي أو فرصة لتحصيل بعض الأموال، غير أن ما يبعث على الحيرة هو أين يختفون وكيف يعيشون..؟ أسئلة طالما حيرتنا فذهبنا نبحث لها عن الإجابة في جنح الظلام.
"لن أغادر الجزائر إلى أن تتحسن الأوضاع في نيجيريا" من خلال تنقلنا بين أحياء العاصمة استطعنا التوصل إلى بعض الرعايا الأفارقة والذين يمارسون مهنة التسول وتمكننا من الحديث إليهم، تقول "سويب"، رعية نيجيرية، تمتهن التسول على الطريق السريع لعين النعجة، قدمت للجزائر رفقة والدتها زوجها وطفليها قبل 5 أشهر عبر ولاية تمنراست ومن هناك تنقلوا للعاصمة، راحت تتحدث إلينا بتلقائية بلغة فرنسية ممزوجة بعربية غير سليمة وهي فرحة ومسرورة بالمعطف الأسود الذي تصدق به عليها أحد المحسنين حيث قالت: أعيش أنا وعائلتي على ما نجنيه من التسول، تجوّلنا في عدة مدن جزائرية قبل أن ينتهي بنا المطاف قبل شهرين في العاصمة، لا نملك شيئا فنحن نعيش في الشارع في الصباح، أترك والدتي رفقة الأطفال في شبه خيمة مبنية بالقماش رفقة الأطفال في الجهة الأخرى من الطريق السريع وسط الأكواخ وأشارت إلى موضعها، بينما أتوجه أنا وزوجي لنتسوّل "الصدقة" ونشتري بما نجنيه طعاما لأبنائنا ونواجه برودة الطقس بالملابس التي يتصدق بها علينا المحسنون، وعن فكرة الترحيل أكدت لنا محدثتنا أنها ترفض العودة إلى وطنها في الوقت الراهن فقد أعجبت بالجزائر وبكرم الجزائريين وهي ترغب في البقاء لفترة إضافية لحين تحسن الأوضاع في بلادها.
"الجزائريون كرماء.. وفي بلادنا يموت الناس جوعا.." "إبراهيم" 27 سنة من أصول نيجيرية، كان يتسول على مستوى شارع بوجمعة مغني بحسين داي، أخبرنا بأنه لا يجيد الحديث باللغة العربية، غير أنه يتقن بعض الإنجليزية الممزوجة بالفرنسية، وأثناء حديثنا معه اكتشفنا بأنه يفهم جيدا لهجتنا المحلية، حيث أبدى رفضه فكرة العودة إلى دياره جملة وتفصيلا، مؤكدا أنه هرب إلى تمنراست عبر سيارة أحد المهربين منذ 7 أشهر بمفرده مخلفا عائلته بمدينة ديفا النيجيرية، وكاد يلقى حتفه على حد قوله بعد أن تركه على الحدود ليضطر للسير على أقدامه آلاف الكيلومترات، وهو يعيش حاليا متنقلا بين الولايات فقد كان في عنابة ثم البليدة وبعدها للعاصمة، وقد أعجبه العيش في الجزائر، وكشف أن أكثر ما أعجبه الخيرات الكبيرة الموجودة في الجزائر، إذ يتميز السكان بكرم كبير، مؤكدا أنه لا يضطر للعمل ويعيش تحت الصدقات، على عكس بلادهم أين يكدون ويجتهدون على مدار السنة ولا يجنون سوى الفتات فهو يعتزم على الاستقرار في الجزائر والزواج هنا أيضا، وكشف بأنه ينام رفقة أحد أصدقائه تعرف إليه في التراموي يعمل في مجال البناء ويقضون الليل في ورشة بالسمار.
"أنام تحت الجسر وأجمع المال للعودة إلى بلدي" التقينا ب "عيسى صالح" كان جالسا بالقرب في الطريق المؤدي لبن عمر ببلدية القبة، يحمل بيده مصحفا شريفا يقرأ القرآن ويضع بجانبه إناءً بلاستيكيا لجمع المال من المحسنين، مرتديا سروالا أسود ومعطفا، حيث أكد لنا أنه قدم للجزائر من النيجر منذ 16 شهرا رفقة قريبه و5 آخرين، غير أن قريبه لفظ أنفاسه بعد أن ضاعوا على الحدود الجزائرية وكاد يهلك هو الآخر قبل أن يبلغ ولاية تمنراست، فقد خافوا أن يعثر عليهم الدرك الوطني أو حرس الحدود وبعد أن وصلوا إلى تمنراست افترقوا فركب حافلة واتجه إلى ولاية غرداية ومنها إلى البليدة ببوفاريك، حيث ينام حاليا تحت الجسر رفقة العشرات من النيجيريين والماليين ويتنقلون يوميا للعاصمة على متن القطار ليمارسوا التسول ويجمعوا بعض الدنانير، وعن العودة إلى بلده أكد لنا عيسى أنه لن يعود إلى بلده إلا بعد أن يجمع المال اللازم لشراء طعام لعائلته.
"أخرج مساءً خوفا من الأمن لأنني مطرود .." أما "إسحاق محمد" والذي كان شاردا لكثرة الهموم التي يحملها جلس على قارعة الطريق رفقة ابنته الصغيرة "عائشة" لا يتجاوز سنها 5 سنوات كانت منهمكة بتناول قطعة البيتزا، حدثنا بلغة عربية ممزوجة بالفرنسية بحزم شديد بأنه لن يعود إلى مالي فلم يعد لهم شيء هناك، فقد جاء للجزائر منذ 9 أشهر هربا من الحرب رفقة زوجتيه وأبنائه 7، واستطرد "إسحاق" أنه كان يقيم بالقرب من مسجد عقبة بن نافع بعين النعجة وحاليا يقطن في حي الرملي، فقد شيد خيمة بالقرب من البيوت الفوضوية، وأردف محدثنا بأنه يقصد كل مساء مختلف أحياء العاصمة كحي البدر، القبة، أو عين النعجة بحثا عن المال ليقتني طعاما لأبنائه متمسكا بموقفه برفض العودة لبلاده مضيفا بأنه يهرب من مصالح الشرطة والدرك بعد أن أوقفوه بمفرده على مستوى باب الزوار، واكتشفوا أنه لا يحوز بطاقة لاجئ فأوقفوه لمدة 10 أيام وطالبوه بمغادرة التراب الوطني خلال 15 يوما..
"الجو بارد وأحلم بالذهاب إلى المدرسة.." اغتنمنا الفرصة للحديث مع ابنته "عائشة" والتي يبدو أنها تجيد الحديث باللغة العربية وهي تمد لنا يدها وتقول "صدقة، صدقة"، منحناها القليل من المال فصارحتنا بأنها تحب الجزائر لكن الجو بارد، وأعجبها طعم البيتزا مواصلة أنها تخاف من أصوات الانفجارات التي يطلقها الأطفال تقصد "المفرقعات"، مستطردة أن الجزائريين لطيفون يشترون لها الطعام باستمرار وهي ترغب في الذهاب للمدرسة مثل بقية الأطفال.
"بعض الشباب يضايقوننا بتصرفاتهم العنصرية" وإن كان أغلبية الرجال مسالمين فبعض النساء رفضن الحديث إلينا باستثناء "اسماوي" والتي كانت برفقة زوجها وأبنائها الثلاثة يهمون بالمغادرة للتوجه إلى محطة القطار للعودة إلى بوفاريك، حيث يقيمون هناك منذ 7 أشهر ويترددون باستمرار على العاصمة للتسوّل وجمع الثياب، الطعام والمال. تقول "اسماوي" جئنا من النيجر هروبا من المجاعة والجفاف وصلنا إلى مدينة تمنراست ثم عين صالح بعدها لولاية ورڤلة ومنها للبليدة، إذ استقروا هناك، وعن يومياتهم تقول "اسماوي" نعيش حياة عادية في الصباح نخرج نركب القطار للعاصمة ونجلس نتسول ونتناول وجبة الغذاء مما يتصدق به علينا المحسنون، ثم نعود لخيمتنا والتي شيدناها تحت الجسر حتى لا تصل إليهم الأمطار، خاصة وأنهم لا يملكون غطاء سوى ما تصدق به عليهم المواطنون على حد قولها، مواصلة أنها تطبخ وجبة العشاء رفقة نساء أخريات يُقمن معهن.
نيجيريات يتحوّلن إلى "كياسات" في الحمام..! سعيا منهن لإيجاد مصدر رزق كشفت لنا عديد السيدات الإفريقيات عن توجههن للعمل في الحمامات النسائية، حيث أصبحت الحمامات وبالأخص المتواجدة غرب العاصمة كدرارية يوظفن "كياسات" و"طيابات" من جنسية نيجيرية ومالية لتحقيق ربح مادي كبير، مفضلات إلى جانب مساعدة النساء في الاستحمام وتكياسهن، امتهان وظائف أخرى لتحسين دخلهن، منها إجراء "الماساج" للزبونات بالأخص المصابات بالروماتيزم والأمراض المفصلية مع الإشراف على غرف "الصونا"، وتفضل صاحبات الحمام توظيف الإفريقيات لقدرتهن الشديدة على احتمال درجة الحرارة المرتفعة في بيت "السخون" وتشابهها مع مناخ بلدانهم ومسالمتهن وحبهن للعمل، بالإضافة إلى عدم دخولهن في جدال حول الأجرة، فهن يرضين بمبالغ بسيطة وقد أبدت عديد الزبونات اللواتي يترددن على هذه الحمامات إعجابهن بطبيعة الخدمات التي تقدمها النساء الإفريقيات وتفانيهن في العمل.
يتظاهرون بالإسلام لكسب تعاطف المحسنين..! ما وقفنا عليه خلال جولتنا واحتكاكنا بالأفارقة أن بعضهم مسيحيون لكنهم يتظاهرون بالإسلام ويحملون المصاحف والمسابح التي اقتنوها من الأسواق الشعبية ليضعوها أمامهم بغية جلب تعاطف الجزائريين، وهو حال النساء أيضا، فمنهن من ترتدين الخمار لإعطاء الصبغة الدينية ويرددون بعض العبارات ك"الصدقة والله يالله" عن ظهر قلب فقط من أجل الوصول إلى جيوب الشعب الجزائري، وهو ما اعترف لنا به "دايفيد" والذي يطلق على نفسه اسم "عبد الله" وقد صرح لنا بأن الكثيرين من الرعايا الماليين المتواجدين على التراب الوطني مسيحيون إلا أنهم يتظاهرون بالإسلام وغيروا تسميتهم فقط من أجل كسب المال وهو واحد منهم، كما أنهم لا يقرون بجنسيتهم المالية بل يتعمدون إخفاءها، معلنين بأنهم قادمون من النيجر لكون هذا الشعب المسالم يحظى بترحيب الشعب الجزائري.
شبكات تستغل القاصرات الإفريقيات في الدعارة وإن كانت بعض النسوة قد وجدن في عملهن في الحمامات أو التسول فرصة لجني المال فإن بعض الفتيات وبالأخص القاصرات فضلن أن يسلكن سبيل الدعارة والبغاء من خلال مراودة المواطنين في محطات الحافلات البرية، وقد استطاعت الضبطية القضائية منذ قدوم الرعايا الأفارقة للجزائر تفكيك عديد شبكات الدعارة تضم فتيات ونساء إفريقيات من مختلف الجنسيات احترفن هذه المهنة لتوفير مقر للإقامة خاصة وأن عائلاتهم فضلت اللجوء لاستئجار البيوت القصديرية وبعض المحلات للإقامة فيها.
رئيسة الهلال الأحمر الجزائري سعيدة بن حبيلس: هكذا يتم ترحيل الأفارقة ولهذه الأسباب يرفضون الترحيل أكدت رئيسة الهلال الأحمر الجزائري سعيدة بن حبيليس، في اتصال ل"الشروق"، أن عمليات الترحيل جاءت استجابة لطلب الحكومة النيجيرية والتي طلبت من نظيرتها الجزائرية مساعدتها في ذلك وتتم العملية والتي يشرف عليها الهلال الأحمر الجزائري عبر 56 مركز استقبال عبر 40 ولاية، مضيفة أن العاصمة وحدها تحتوي على 7 مراكز تجميع هي في الأصل مخيمات صيفية تم إعدادها وتجهيزها خصيصا لاستقبال اللاجئين، أما ولاية تمنراست فتحتوي على 120 "شاليه"، وأوضحت محدثتنا أن 850 رعية إفريقي تم ترحيلهم منذ انطلاق العملية ومن المنتظر أن تتواصل خلال الأيام القادمة الى حين وصول جميع الرعايا إلى بلدهم الأصلي برا أو عبر الطائرة. واستطردت بن حبيليس قائلة بأن عمليات الترحيل تتم في ظروف إنسانية بحضور وفد من السلطات النيجيرية ويتم الترحيل بعد خضوعهم لفحوصات طبية حيث يتم اختيار وسيلة السفر المناسبة لوضعيتهم الصحية، وأكدت أن الرعايا المتواجدين حاليا في الجزائر هم ضحايا شبكات إجرامية نيجيرية استغلت الأوضاع الراهنة، وهو ما جعل الكثير من الأفارقة يتخوفون من العودة إلى بلدانهم، مقابل اعتمادهم على العيش السهل في الجزائر، وذلك على صدقات المحسنين.
أستاذ في القانون ومحام الرعايا الذين رفضوا الترحيل سيتابعون بالهجرة غير الشرعية ذكر أستاذ القانون بكلية الحقوق والمحامي المعتمد لدى المحكمة العليا، الأستاذ بهلولي إبراهيم، أن الرعايا الأفارقة الذين يرفضون العودة إلى بلدانهم خلال عمليات الترحيل وقرروا اللجوء للاختفاء على الرغم من أن تواجدهم في البداية كان بدافع إنساني محض، مهددون بالمتابعات القضائية واتهامهم بالهجرة غير الشرعية، حيث أكد المختص في القانون أنه بعد الاتفاق بين حكومة البلدين على ترحيلهم إلى موطنهم الأصلي، وفي حال تعمد بعضهم الاختباء وعدم الظهور، فهذا يعتبر تمردا وعصيانا ويصبح اللاجئون مقيمين بطريقة غير شرعية خاصة وأن معظمهم لا يحوزون على وثائق مما يحيلهم مباشرة على المحاكمة، وأوضح الأستاذ بهلولي أن العقوبات في مثل هذه القضايا تكون في الغالب غرامة مالية أو حبس موقوف التنفيذ مع الطرد من التراب الوطني، وتتم هذه الأخيرة بإشراف من النيابة.