قال الله تعالى (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) البقرة: 185. ولنا مع هذه الآية الكريمة بعض الوقفات: أولا: يبدو للناظر العجول من أول وهلة أن هذه الآية جيء بها غريبة في السياق إذ لا علاقة لها بالموضوع الذي يتحدث فيه القرآن في هذا الموضع لأن الآية التي قبلها يقول الله تعالى فيها (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه....) والآية التي بعدها يقول الله تعالى فيها (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن...) فالسياق كما نرى في الحديث عن جملة من الأحكام الفقهية المتعلقة بالصيام فما محل الحديث عن الدعاء بينهما؟ الحقيقة التي تبدو للفقيه القارئ لكتاب الله بتبصر أن الدعاء والمؤمن صائم من أعظم القربات التي يتقرب بها إلى ربه الكريم وهذا الذي يشير إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :" ثلاثة لا ترد دعوتهم الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، والمظلوم" (صحيح رواه الترمذي وابن ماجة). يقول الإمام ابن كثير: "في ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة، بل وعند كل فطر لما روى عبدالله بن عمرو _ رضي الله عنهما _ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة فكان عبد الله بن عمرو إذا أفطر دعا أهله وولده ثم دعا". ثانيا: هذه هي الآية الوحيدة في القرآن التي خالفت بقية الآيات التي تبدأ بالسؤال ويأتي الجواب فيها مباشرة دون قوله (قل) كقوله تعالى: ويسألونك عن الروح قل.. يسألونك عن الخمر والميسر قل.. يسألونك ماذا أحل لهم قل.. ويسألونك عن الجبال فقل.. يسألونك ماذا أحل لهم قل.. يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل... ويسألونك عن اليتامى قل.. وهكذا بقية الآيات على هذا المنوال إلا آية الدعاء هذه فقد قال الله تعالى فيها (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) أي أن الله تعالى هو الذي تولى الإجابة بنفسه دون وسيط ليدل على قرب الداعي منه سبحانه وأنه أقرب من كل قريب فلا يحتاج في سماع دعاء الداعين إلى وسيط. يقول صاحب الظلال _رحمه الله_: "إضافة العباد إليه، والرد المباشر عليهم منه، لم يقل: فقل لهم: إني قريب، إنما تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال، قريب، ولم يقل أسمع الدعاء، وإنما عجل بإجابة الدعاء: أجيب دعوة الداع إذا دعان. إنها آية عجيبة، آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤنس، والرضى المطمئن، والثقة واليقين، ويعيش المؤمن منها في جناب رضي، وقربى ندية، وملاذ أمين، وقرار مكين". ثالثا: قوله تعالى (فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون). فالثمرة الأخيرة من الاستجابة والإيمان هي كذلك لهم، وهي الرشد والهدى والصلاح، فالله غني عن العالمين. والرشد الذي ينشئه الإيمان، وتنشئه الاستجابة لله هو الرشد، فالمنهج الإلهي الذي اختاره الله للبشر هو المنهج الوحيد الراشد القاصد، وماعداه جاهلية وسفه لا يرضاه راشد، ولا ينتهي إلى رشاد. رابعا: على المؤمن أن يجتهد في الدعاء ولا يمل من قرع باب الإجابة، فإذا تأخرت عنه أو حرم منها فليعلم أن ذلك إنما هو لعيب فيه، وأسباب الحرمان من الإجابة كثيرة جاء التنصيص عليها في كثير من الأحاديث الصحيحة منها الاستعجال، ومنها أكل الحرام، ومنها التعدي في الدعاء، ومنها أن يسأل الإنسان ما لا يجوز له وغيرها كثير. قال الإمام ابن القيم _رحمه الله_: "وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف أثره عنه، إما لضعفه في نفسه، وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله، وإما لحصول المانع من الإجابة، من أكل الحرام، والظلم، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة، والشهوة واللهو..". خامسا: في ظلال هذه الآية الكريمة، ومن أجواء الدعاء العبقة التي تتضوع في هذه الأيام والليالي المباركة التي بقيت من أنفاس هذا الشهر الكريم أتحف إخوان القراء بهذا الحديث الشريف الذي أدعو الله أن تشملني وإياهم نفحاته، تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: "لما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب النفس، قلت يا رسول الله: ادع الله لي، قال: اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر، وما أسرت وما أعلنت، قالت فضحكت حتى سقط رأسها في حجر رسول الله صلى الله عليه، فقال: أيسرك دعائي، فقلت: ومالي لا يسرني دعاؤك؟ فقال: والله إنها لدعوتي لأمتي في كل صلاة" (رواه البزار وحسنه الألباني).