التفجير الإجرامي هذا الأسبوع لمنارة مسجد نوري بالموصل: مفخرة المدينة منذ القرن الثاني عشر، يجسِّد لوحده الطبيعة الصليبية لمجمل الحروب التي تمزق اليوم العالم الإسلامي، مع إصرار على هدم وجرف أهم المعالم الحضارية الإسلامية أو ما عفت عنه الحقبة الاستعمارية، وما هو قادم أخطر، وقد بدأت التحرشات تقترب من الحرمين الشريفين، فيما يبيِّت الكيان الصهيوني لهدم أولى القبلتين بعد أن نجح في إتلاف المعالم الحضارية الإسلامية بالقدس الشريف. هدم منارة المسجد الذي شهد إعلان "خلافة البغدادي" سُوِّق في الإعلام على أنه بداية نهاية التنظيم، وقد حُمِّل التنظيم مسؤولية هدم المعلم مع أنه سبق للتحالف الدولي بقيادة الولاياتالمتحدة أن هدم عشرات المساجد بالفلوجة والرمادي، كما سبق لقوات الاحتلال الأمريكية أن تعمَّدت هدم معظم المعالم الحضارية بالعراق منذ بداية الاحتلال، ومثله اقترفه الروس وحلفاؤهم عند استعادة السيطرة على حلب. وقد يهوِّن بعضنا من الأمر بالقول: إنها "محض حجارة" لا ينبغي أن نلتفت إليها كثيرا قياسا مع بنيان الله من البشر الذي يُهدَّم يوميا بالمئات بدم بارد، لولا أن عملية الهدم المنهجي متواصلة لكل ما له صلة بالعروبة والإسلام، وقد بدأت منذ قرن مع تفكيك آخر خلافة إسلامية قبل أن يُخصَّص الجزءُ الثاني من القرن العشرين لضرب البُعد العربي كانتماء عابر للأقطار ليتجدد مع بداية الألفية الثالثة مسار الهدم المنهجي بوضع الإسلام وعموم المسلمين هدفاً لحرب يبدو أنها لن تتوقف إلا بضرب المرجعية الإسلامية ومسخها إن أمكن، أو استئصال المسلمين بحروب قد فُعِّلت فيها أدوات التدمير الذاتي بالفتن العرقية والمذهبية. أخطر ما في هذه الحرب الحضارية المضمرة في حروب محلية تنفَّذ تحت راياتٍ كاذبة: عرقية ومذهبية وأخرى تدَّعي محاربة الإرهاب، أنها نجحت في كسب "تفهُّم" كثير من النخب العربية والإسلامية بما في ذلك النخب الدينية التي انخرطت بجهالة ودون رويَّة في المقاولة من الباطن وبأسلمة المفاهيم الغربية لما يُسمَّى بالحرب على "الإرهاب والتطرُّف الإسلامي" وباتت تردِّد كبنت الصدى عن سماع ما تقوله دوائر الاستكبار العالمية، وتحمِّل المسلمين مسؤولية ظواهر العنف. عشر سنوات من الاقتتال المذهبي المزوَّر في العراق كانت كافية لتُنسي العرب والمسلمين جرائم المحتل الأمريكي، وتنسينا خاصة أن ما سُمِّي لاحقا ب"داعش" كان قبل سنة 2011 يُقدَّم في الإعلام العربي كمقاومة مشروعة للاحتلال الأمريكي يدين لها أهل العراق وجيرانُهم من المسلمين بما في ذلك إيران ودول آسيا بتعطيل زحف مشروع القرن الأمريكي الفاشي للمحافظين الجدد. والحال، ماذا بعد أن تسقط "خلافة البغدادي" وتُسحق معاقلُها في الموصل والرقة؟ هل يقوى هذا التحالف العالمي غير المسبوق على منع ظهور نسخ بديلة ل"داعش" حيثما وُجد ظلم الحكام المحليين واستباحة قوى الاستكبار للفضاء الإسلامي، واستهدافه المباشر لمعتقد المسلمين، مع ما نشهده من ضرب لمصداقية النخب السياسية والفكرية والدينية التي نراها تفقد القيادة السياسية والفكرية والروحية لشعوبها بعد أن تورطت محليا وعالميا في "الإفتاء السياسي الفكري والديني" حسب الطلب بما يحلل للجميع اليوم هدر دماء المسلمين وانتهاك حرماتهم دون عقاب، ويحرِّم جميع أشكال المقاومة أو وأدها في المهد بتلفيق تهمة الإرهاب؟