ويستمر الفعل بنا من خلال المأساة الأفغانية التي جعلت العالم العربي والإسلامي وقودا لمعركة الأمريكان والسوفيات في ذرى الهندكوش وجبال سليمان تحت سقف العالم: أفغانستان. ولم يتوقف الأمر على تلك المنطقة، فقد انتشر غازها الجرثومي في كل مكان من العالم العربي الإسلامي. فأنتج التكفير والتدمير ومازال يعيث خنقا وفتكا وحرقا في ليبيا وسوريا والعراق. وحتى لا يكون كلامي مرسلا عن تدنيس المقدس، فإني أدعوك قارئي الكريم إلى تتبع مسارات العالم العربي منذ انطلاق الثورة العربية. فقد أجهضت الثورة العربية لأن قرارها لم يكن منطلقا من الشعوب العربية إنما اتخذ في الدوائر المغلقة وأطرها أشرس رجالات المخابرات البريطانية والفرنسية وأعني: توماس إدوارد لورانس الذي اخترق الجدار العربي ولعب أسوأ الأدوار في تمرد القبائل العربية وقيامها بتفجير خط سكة قطار الحجاز أو جون فيليبي (المدعو عبد الله فيلبي) أو غلوب باشا (المدعو أبا حنيك) أو الآلاف غيرهم الذين أدوا أدوارهم التجسسية دون أن يكشفوا عن حقيقتهم. ورغم شرعية الثورة العربية على ظلم واضطهاد وعنجهية الأتراك إلا أن غفلة القائمين عليها فتحت الباب واسعا لإجهاضها في مهدها ونحرها في مسلخ سايكس بيكو وحالها كحال الربيع العربي، حيث لا يزايد أحد على حق الشعوب العربية في الثورة على الفساد والاستبداد ولكن أي ثورة؟ أهي الثورة التي تفتح الباب واسعا للفوضى؟ أم هي التي تتعرض للاختراق؟ ولا تملك الشعوب العربية التصدي لهذا الاختراق. أم الأفضل من كل ذلك رفع سقف الشعوب حضاريا بالوسائل الحضارية وما أكثرها. لقد حكم الأتراك البلاد العربية باسم المقدس. فهي عند الكثير من المؤرخين الخلافة الإسلامية العثمانية وليس لها من اسم الخلافة إلا الرسم، أما العدل والشورى الملزمة والمحاسبة المالية والعزل إن اقتضى الأمر فلا وجود لها. وقام العرب بثورتهم الكبرى كما تسميها بعض المصادر العربية باسم المقدس أيضا باعتبار العثمانيين ليسوا من قريش والنص المقدس صريح في وجوب أن يكون الخلفاء من قريش لقوله صلى الله عليه وسلم: الأئمة من قريش (وهو حديث صحيح بمجموع طرقه). بل وقد رأينا مؤلفات عديدة مصدرها المدرسة الوهابية تنص على كفر الدولة العثمانية ومنها ما ذكره ياسين علي في كتابه: خروج الوهابية على الخلافة العثمانية قراءة تاريخية ومناقشة شرعية في معرض حديثه عن خروج الوهابية على الدولة العثمانية لما ذكر مهاجمة الوهابيين لأي قبيلة مناوئة، كان قائدهم يحمل القرآن بيد والسيف باليد الأخرى مع رسالة ثابتة Standard فيها (من عبد العزيز إلى قبيلة... سلام واجبكم يدعوكم إلى الإيمان بالكتاب الذي أرسل إليكم. لا تكونوا وثنيين كالأتراك الذين يشركون بالله. إذا آمنتم نجوتم، وإلا فسنقاتلكم حتى الموت...). بل حتى الخلاف الذي نشب بين آل سعود وشريف مكة كان المقدس فيه حاضرا رغم أن ما حدث بينهم صراع سياسي ككل الصراعات السياسية التي حدثت في التاريخ الإسلامي. وقد جاء في كثير من المصادر التاريخية التي أرخت لهذه المرحلة أن عبد الله بن الحسين بن علي بعث برسالة إلى ابن سعود وهو بصدد الاستيلاء على تربة (وهي مدينة سعودية تقع على ضفاف وادي تربة تبعد عن مدينة الطائف ب 130 كلم تعتبر بوابة نجد ومفتاح الحجاز) جاء فيها: (... أخبر الخوارج ومن لف لفهم...) أي خاطب الثائرين بأنهم خوارج. وهو مصطلح ديني. ليرد عليه الإخوان الوهابيون في جيش ابن سعود بنفس الخلفية الدينية، صائحين يريدون الإسراع إلى مصادمة جيش شريف مكة وكان صياحهم: هبت هبوب الجنة وأين أنت يا باغيها إياك نعبد وإياك نستعين... ثم ظهر استعمال المقدس بجلاء في حربي الخليج الأولى والثانية. ففي الأولى نظرت إيران لحربها على صدام على أساس أنها حرب مقدسة ضد نظام بعثي كافر. ونظر صدام لحربه مع إيران على أساس أنها تارة ذي قار باعتبارها حربا قومية وتارة أخرى قادسية باعتبارها نسخة مكررة لمعركة القادسية ضد الفرس وأطنب إعلامه يومها في الحديث عن قادسية صدام. أما في حرب الخليج الثانية وبعد اجتياح العراق للكويت فظهر إلى الوجود معسكران أحدهما يقوده العراق والآخر تقوده السعودية واستعملت أسوأ الأسلحة في استغلال الدين لينعقد مؤتمران لعلماء المسلمين أحدهما في بغداد والثاني في مكة وكل منهما يدعى الشرعية الدينية، فمؤتمر علماء المسمين في بغداد يزكي قرارات صدام حسين ويدعو إلى مواجهة السعودية وحلفائها العرب الذين استعانوا بقوات أجنبية (كافرة) أما مؤتمر علماء مكة فيدعو إلى مواجهة جبروت وكفر صدام حسين ولو بالاستعانة بالقوات الأجنبية لرد العدوان. وامتلأت الساحة الإسلامية بفتاوى: جواز وحرمة الاستعانة بالقوات الأجنبية لرد العدوان. والغريب أن الموروث الفقهي الأندلسي أنقذ سوق الفتوى بما حفل به من اجتهادات فقهية ظهرت في مرحلة ملوك الطوائف التي راج فيها سوق: استعمال الدين لتبرير نزوات الحكام السياسية وكان وضعها قبل تهاويها على يد الثنائي (فرديناند وإيزابيلا ببركات خيمينيس) يشبه إلى حد بعيد وضعنا اليوم في تقاذفنا من طرف القوى السياسية الدولية. ويبلغ تدنيس المقدس ذروته في الحدث الأفغاني رغم أن المروجين للجهاد الأفغاني هم الذين استعملوا الدين وشوهوه وخاضوا به معركة إسقاط الدب الروسي في المستنقع الأفغاني. ويتواصل الاستعمال السياسي للدين في كل المحارق في البلاد العربية بدءا من الجزائر بعد أحداث 5 أكتوبر 1988 المشؤومة، ثم تأتي أحداث الربيع العربي الذي سرعان ما تحول إلى ربيع عبري واستفادت منه إسرائيل ولم تحقق الشعوب العربية أي هدف من أهداف انتفاضاتها على الاستبداد السياسي والفساد المالي. ويدخل استعمال الدين على الخط في هذه المرحلة حتى إني رأيت عجبا في الانتخابات الرئاسية التي جاءت بعد حراك الشعب المصري، حيث توافد المترشحون على كل المواقع التي ترمز للدين: الأزهر، الطرق الصوفية، الموالد، كليات الشريعة، مقام سيدنا الحسين، مقام السيدة زينب، مقام السيد البدوي، مقام السيد الرفاعي، مقام مرسي أبي العباس... إلخ. وذلك من أجل الظهور بمظهر الغيور على الدين بل إني سمعت أحد المرشحين (عسكري سابق) يفخر بنسبه العدوي، مدعيا أنه سليل الفاروق عمر ثم يخوض في سيرة الفاروق مؤكدا أنه لو نجح فسيسير في الناس سيرة عمر رضي الله عنه وأرضاه. ولا يتوقف استعمال الدين حتى تأتي مرحلة ما بعد فشل الموجة الأولى للربيع العربي وتدخل الأمة العصر الداعشي من أوسع أبوابه ليتحول الدين إلى مغناطيس جذاب لكل العقد والنزوات وليبرر الداعشيون لهفتهم إلى سفك الدماء يسوقون مئات الأدلة المسوقة لهذا الطرح وعلى رأسها الحديث الشريف: بعثت بالذبح (حديث صحيح صححه الشيخ أحمد شاكر، وحسنه الشيخ شعيب الأرناؤوط كما صححه الشيخ الألباني)، أما لإرواء نزواتهم الجنسية، فأحكام التسري جاهزة، لبعثها من جديد وأسواق النخاسة لبيع الأسيرات الإيزيديات ما زالت ماثلة للعيان. وحدث ولا حرج عن مهازل حرق مكتبة الموصل وتدمير الآثار وفرض نمط عيش معين وترحيل المسيحيين.. وهو الأمر الذي لم يفعله الفاروق عمر في الفتوحات الإسلامية الكبرى ولم يفعله المسلمون طيلة 14 قرنا، هو عمر الحضارة الإسلامية. والداعشيون وكل التكفيريين لا يعترفون بأن فعل الصحابي من مصادر التشريع الإسلامي. فمصادرهم هي الكتاب والسنة وفهمهم للكتاب والسنة. إزاء كل ما حدث، جاء هذا الكتاب ليشرح أخطر مراحل تدنيس المقدس وأعني مرحلة الجهاد الأفغاني التي حاولت من خلالها إثبات حقيقتين. 1- الحقيقة الأولى: أن قرار إعلان الجهاد لمواجهة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان لم يكن قرارا إسلاميا خالصا بقدر ما كان قرارا أمريكيا واضحا اتخذه مستشار الأمن القومي الأمريكي زبيغنيو بريجنسكي محركا به كورالا في أوركسترا لم تعرف البشرية في تاريخها مثيلا لها ومجندا أخطر أسلحة استعمال الدين وأعني النفير العام للجهاد في أفغانستان. 2- الحقيقة الثانية: أن عملية تدنيس المقدس وتشويه الإسلام بلغت أسوأ الدرجات في هذه المرحلة وكأن الأمة أصيبت بحالة من الغيبوبة الإدراكية والغياب الحضاري إلى درجة أن أمثال بريجنسكي ومعه كل أعضاء الكورال العازف في أوركسترا الجهاد الأفغاني من الساسة والمسؤولين تحولوا إلى مجتهدين مطلقين (مفردها مجتهد مطلق) وهما أعلى مرتبة يبلغها مجتهد عند أهل السنة والجماعة. وتبعهم عبد الله عزام وكل الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي وسارت وراءهم الأمة كلها ولم يكن يوجد صوت معتبر يحتج على ما يحدث. ولم أكن منطلقا في إثبات هاتين الحقيقتين من عقدة المؤامرة- كما يرى بعض الطيبين أنه لا وجود لمؤامرة تستهدفنا إنما أصبنا بعقدة منها، لأنه تضخم لدينا الإحساس بالاضطهاد فلجأنا إلى تبرير فشلنا بأنا مستهدفون بمؤامرات كونية. والحقيقة المثبتة بالأدلة والوثائق في مئات المؤلفات والتسريبات أن المؤامرة موجودة وأنها منطقية باعتبار جغرافيتنا ميدان لها. وأن مواجهتها لا تكون بالوعظ والتحذير منها إنما بامتلاك ناصية العلم والعقل والتنقل إلى مدرج الإقلاع الحضاري. ولإثبات الحقيقتين آنفتي الذكر جمعت ما يزيد عن 40 ألف ورقة من الوثائق والشهادات والحوارات وحتى التسريبات المرتبطة بالحدث الأفغاني، توافقا وتناقضا. بعض هذه الوثائق غارق في العاطفة وبعضها الآخر سابح في العقل. ولقد اعتمدت فيها ومنها على شهادات صناع الحدث من بريجنسكي إلى أبسط متطوع في جبهات القتال. لم أهمل حتى الجزئيات التي قد تساعد في تكوين الصورة الحقيقية، منهجي في قبول أو رفض أي شهادة هو اتفاقها مع روايات أخرى. وبعد غربلة الوثائق أثارني وجود اتفاق في كثير من الروايات على بعض الأحداث والشخصيات وهو الذي يسميه الإخباريون ورواه الأحاديث بالتواتر من هذه القضايا التي أصبحت عندي متواترة. صناعة الولاياتالمتحدةالأمريكية لجهاد إسلامي تصنع به فيتناما خاصا بالاتحاد السوفياتي. - عراب هذا الجهاد هو مستشار الأمن القومي الأمريكي زبيغنيو بريجنسكي. - الدكتور عبد الله عزام هو الرقم الأهم في الدعاية الإعلامية للجهاد الأفغاني بأخطر سند شرعي حرك به مشاعر المسلمين. وأعني حديثه: بأن الجهاد في أفغانستان فرض عين على كل مسلم ومسلمة. - المخابرات العربية والعالمية هي الفاعل الأهم في الحدث ابتداء ومسارا وانتهاء. - الشباب العربي المشارك في الحدث الأفغاني ضحية للعبة دولية أكبر منهم ومن مستوياتهم الإدراكية والمعرفية. وهم الذين بدؤوا مساراتهم باسم المجاهدين العرب في أفغانستان ثم أمسوا العرب الأفغان. ليتلاشى أغلبهم في محارق أشعلت في العالم العربي والإسلامي. - الجهاديون والتكفيريون المصريون هم الذين لعبوا أخطر الأدوار في عولمة الجهاد الأفغاني وبالخصوص أعضاء جماعة الجهاد المصرية وعلى رأسهم أيمن الظواهري. وقد ذكر ذلك كل من رصد تاريخ هذه الجماعة خاصة، السفر الأهم عن الجهاديين: الجماعات الإسلامية والعنف، موسوعة الجهاد والجهاديين للدكتور سعود المولى في أكثر من 1000 صفحة الطبعة الأولى سنة 2012 الناشر دار المسبار. - التكفيريون الذين توزعوا في العالم بعد انتهاء المأساة الأفغانية وقاموا بالهجوم على الولاياتالمتحدةالأمريكية في 11/09/2001 هم صناعة أمريكية باعتراف صريح من وزيرة الخارجية الأمريكية والمرشحة الفاشلة لرئاسة الإدارة الأمريكية هيلاري كلينتون لما صرحت لشبكة سي.إن.إن C.N.N قائلة: دعمنا تجنيد هؤلاء المجاهدين من السعودية وأماكن أخرى... استوردنا العلامة الوهابية للإسلام حتى نستطيع الإجهاز على الاتحاد السوفياتي...). - أن مختار بن محمد بلمختار هو جزء من نسيج الأفغان العرب بكل ما فيهم من بساطة في الفكر وبسطة في العاطفة وتهور في السلوك وقابلية للاختراق ما يجعلهم آلات منفذة لكل أهداف الدوائر المخابراتية. - أن مآسي العشرية السوداء في الجزائر كانت حقل التجارب الأولى التي عممت بعد ذلك انطلاقا منها تجربة "التكفير والتدمير". - أن الفكر التكفيري لم يحظ بعد بما يليق بتداعياته بدءا من إعلان نفير عام فكري حتى لا تتكرر مآسيه متى وجد البيئة الحاضنة لنموه وهذه البيئة هي: الاستبداد السياسي، الفساد المالي، التوزيع غير العادل للثروة، سوء التعامل مع الموروث الفقهي الإسلامي، عدم فهم قواعد اللعبة الدولية. - أن الفكر التكفيري يلقى دعما خفيا من الدوائر الغربية وليس أدل على ذلك من سهولة الوصول إلى مواقعه في الشبكة العنكبوتية في الوقت الذي يصعب الوصول إلى مواقع نشر كتب المعهد العالمي للفكر الإسلامي مثلا.
- أن حصارا مدروسا تمارسه الدوائر الغربية وعملاؤها في البلاد العربية على كل ما يمت للعقل والتصحيح والمراجعة بصلة، نموذج ذلك الإهمال الكامل لكل المراجعات في مسار العمل المسلح.