تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون البقرة .134 يقول أحد الباحثين يعزف المرء أحيانا عن الخوض في بعض المواضيع ذات الطبيعة الحساسة خشية المتاعب التي قد يلاقيها، أو لأن المواضيع ذاتها على درجة من الغموض والإشكالية، بحيث يغدو التعرض لها نوعاً من المغامرة العلمية والأخلاقية ولكن المرء أحياناً يضطر برأي إلى الخوض في مثل هذه المواضيع الحساسة والإشكالية لما لها من أهمية في تحريك الشارع العربي موضوعياً وذاتياً، ولما تتركه من آثار سلبية على جملة الحياة الاجتماعية والفكرية كما نرى من مشاهد اللامعقول اليوم على الساحة العربية بشكل عام وسورية والعراق ولبنان بشكل خاص . إن مسألة أو موضوعة السلفية، أو ما يسمي أيضا بأهل الحديث أو أهل السنة والجماعة، وخلافاتها الفكرية مع تياراتها هي بالذات من جهة كالخلاف الدائر منذ زمن طويل مابين الوهابية التي تعتبر نفسها عبر مؤسستها الدينية ممثلة ب المجمع الفقهي في مكة، الممثل الشرعي للسلفية، وبين الأشاعرة والماتريدية والحنبلية والسرورية والإخوان، أو كصراع السلفية المالكية والشافعية والحنبلية في العصور الوسطى مثلاً مع المعتزلة والجهمية ومن اشتغل في علم الكلام والفلاسفة في العصور الوسطى، أو مع العدو اللدود لهم سياسياً ومذهبياً وهم الشيعة بكل تياراتها أو فرقها ومذاهبها قديماً وحديثاً أيضاً، إضافة إلى كل ما يتعلق بالفكر الوضعي السياسي منه والفكري في عصرنا الحاضر وبخاصة الفكر القومي في صيغتيه اليسارية أو الليبرالية من جهة ثانية . نقول: إن هذه المسألة شكلت في الحقيقة ولم تزل تشكل أحد المواقف الإشكالية السياسية والفكرية (العقدية) في التاريخ العربي والإسلامي منذ السقيفة بعد وفاة الرسول حتى هذا التاريخ، وذلك لاعتبارات كثيرة منها السياسية ومنها العقدية الدينية ومنها الفكرية الفلسفية، ومنها الفقهية، ومنها الأمر الأهم الذي لم يزل قائماً ويمارس تأثيره على مجرى الحياة العربية والإسلامية بشكل واسع في حياتنا المعاصرة، وهو اعتبار دعاتها وأتباعها أنفسهم الفرقة الناجية بعد أن تبلورت دعوتهم السلفية تماًماً مع محنة ابن حنبل في الربع الأول من القرن الثالث للهجرة، بينما غيرهم ممن يختلف معهم في معطيات مذهبهم كفرة وزنادقة من حقهم استباحة دمهم وأموالهم، في الوقت الذي يجدون فيه من يشجعهم من الحكومات العربية ويقدمون لهم كل الدعم المادي والمعنوي من أجل نشر مذهبهم هذا وتسييده في العالمين العربي والإسلامي، وفي مقدمة الداعمين لهم آل السعود وحركتهم الوهابية السلفية ومجمع إفتائها في مكة، الذين راحت فتاوى ودراسات ومقالات مشايخهم تضع المعايير التي تحدد من هو الكافر ومن هو المؤمن، ثم ما هي جزاءات كل فرقة من الفرق الضالة ومن يتبعها. بعد أن قاموا بلي الكثير من أعناق النصوص الدينية المقدسة وبخاصة الآيات القرآنية، وما نسبوه للرسول محمد ص, من أحاديث، بل وحتى بعض مقولات مشايخ الإسلام المعتبرين أمثال ابن تيمية، كما سنرى إثناء عرضنا لمقولات أصحاب هذا التيار التكفيري. معتمدين في ذلك على الكثير من كتب مشايخ وأئمة المذهب السلفي الدينية في العصور الوسطى أمثال الشيخ القاضي أبي بكر بن العربي (468-543 ه). في كتابه الفريد (العواصم من القواصم)، وفكر من حققه وهو الشيخ (محب الدين الخطيب). هذا الكتاب الذي تناول فيه الدفاع عن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، ومواجهة كل من يحاول التشكيك في مصداقية أي واحد منهم، بالكفر والزندقة. وهوالكتاب الذي لقي كل الترحيب من هيئة الأمر بالمعرف في الحجاز. وكذلك اعتمادهم في عصرنا الحالي على الكتاب الهام جداً بالنسبة لمسألة جهاد الكفار للدكتور (عبد الله عزام)، الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان وهو أحد مؤسسي تنظيم القاعدة، حيث ابتدأ هذا الكتاب بقوله تعالى: (إنفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون). واتكأ في مضمون كتابه المتعلق بالجهاد، على معظم مشايخ المذاهب السلفية وأئمتها ورجالاتها في العصور الوسطى، وعلى الكثير من رجالات ومشايخ وأئمة هذا المذهب وتياراته وبعض مؤسساته الدينية المعاصرة وبخاصة الوهابية . حيث جاء في مقدمة كتابه( إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا، .أما بعد: فهذه الفتوى كتبتها وكانت أكبر من هذا الحجم، ثم عرضتها على فضيلة شيخنا الكبير سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وقرأتها عليه واستحسنها، وقال: إنها طيبة، ووافق عليها، إلا أنه اقترح علي أن أختصرها حتى يكتب لها مقدمة ننشرها بها ثم اختصرتها، ولكن وقت الشيخ كان مزدحما أيام الحج، ولم يتسع المجال لعرضها عليه مرة أخرى. ثم أفتى الشيخ حفظه الله ورعاه في مسجد ابن لادن في جدة وفي الجامع الكبير في الرياض، أن الجهاد بالنفس اليوم فرض عين، ثم عرضت هذه الفتوى بحالها - دون الأسئلة الستة الأخيرة- على أصحاب الفضيلة (الشيخ عبد الله علوان وسعيد حوى ومحمد نجيب المطيعي والدكتور حسين حامد حسان وعمر سيف وقرأتها عليهم، ووافقوا عليها ووقع معظمهم عليها، وكذلك الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين قرأتها عليه ووقع عليها. وأفتى بمثلها الشيوخ الكرام عبد الرزاق عفيفي وحسن أيوب والدكتور أحمد العسال، ثم عرضت فحواها في خطبة في منى في مركز التوعية العامة في الحج، حيث يجتمع فيها أكثر من مائة عالم من جميع أنحاء العالم الإسلامي وقلت لهم: (اتفق السلف والخلف وجميع الفقهاء والمحدثين في جميع العصور الإسلامية (أنه إذا اعتدي على شبر من أراضي المسلمين أصبح الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة، بحيث يخرج الولد دون إذن والده، والمرأة دون إذن زوجها)، وأنا أقرر أمام أمير المجاهدين سياف ومن خلال معايشتي للجهاد الأفغاني ثلاث سنوات أن الجهاد في أفغانستان يحتاج إلى رجال، فمن كان منكم أيها العلماء عنده اعتراض فليعترض، فلم يعترض أحد... بل قال الدكتور الشيخ إدريس: يا أخي هذا الأمر لا خلاف فيه. من أجل هذا طبعت هذه الفتوى عسى الله أن ينفعنا بها في الدارين وينفع بها جميع المسلمين). أمام هذا المشهد الفوضوي الذي تعيشه أمتنا العربية والإسلامية، والذي ساهمت فيه كل اتجاهات السلفية إن كان على مستوى التيارات الحركية منها والجهادية من حيث استخدام السلاح والقتل على الهوية الطائفية والدينية والمذهبية وتكفير الدولة المدنية والعمل على تدميرها. أو على المستوى الدعوي من حيث العمل على مسح العقول وتهيئتها نظرياً لقبول او ممارسة ما يقوم به التيار الحركي والجهادي كما يجري اليوم في سورية ومصر والعراق وليبيا من قتل وتفجير وتدمير منهج للدولة، دفعني الواجب العلمي والديني والأخلاقي، أن أبحث وأتابع الكثير من الكتابات التي تناولت موضوعة السلفية، كي أقدم قراءة أولية تتعلق بهذا التيار السلفي من حيث : مفهومه.. اتجاهاته.. أسباب تسميته.. أهدافه.. ومواقفه الفكرية العقدية .. مصادره وغير ذلك، ثم تقديم رؤية نقدية لكشف ظلامية وضبابية هذا الفكر السلفي ودوره في تحطيم العقل، ثم الإساءة للدين الحنيف نفسه ودوره في بناء عقل الإنسان وحريته وعدالته ودعوته للمحبة والتآلف بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى بشكل عام، وبين المسلمين أنفسهم بشكل خاص . ¯ كاتب وباحث من سورية