قد يكون الإعلان الذي أصدره العلماء مؤخرا بخصوص الجهاد في سوريا، مجانبا للصواب ومفتقدا للحكمة، مع أنه تتوافر فيه دواعي الدعوة إلى الجهاد ومسوغاتها، من دفع للعدوان الخارجي (إيران وحلفاؤها)، ورد للظلم الذي يمارسه النظام ضد شعب أعزل، إلا أن تداخل الداخل مع الخارج في هذا الصراع، وحضور البعد الطائفي فيه، جعل مثل هذا الدعوة لا تلقى الترحيب من البعض، وأنا هنا أندهش لتلك الأصوات التي خرجت هنا وهناك، تنتقد الموقف وتوصم أصحابه ببذىء الألفاظ وسَقْطِ الكلام، وتقول كان الأجدى بهؤلاء المشايخ أن يعلنوا الجهاد ضد الكيان الإسرائيلي لتحرير فلسطين، والذود عن القدس، والدفاع عن المسجد الأقصى، إلا أنهم للأسف نسوا أن الطغيان لا يحرر أرضا، وأن العبد لا يدافع عن مقدس. نعم، إن الدعوة إلى الجهاد تتخذ العديد من الأشكال، منها فتح الحدود وتدفق المقاتلين إلى أرض الصراع، ومد الثوار بالسلاح الفتاك والمال، ومساعدة العائلات السورية بالغذاء والدواء، إلا أن أغلب النّاس قد توجه فهمهم لهذه الدعوة إلى الشكل الأول، أي فتح الحدود وتسهيل تدفق المقاتلين إلى سوريا، خاصة بعدما تواترت الأخبار في العديد من البلدان الإسلامية عن حملة ألوف المتطوعين، مما يترتب عليه الكثير من الآثار في مستقبل الأيام، لذلك كان على العلماء أن يدرؤوا هذه الشبهة ويدفعوا كل تأويل بتحديد الشكل المراد، ولا يتركوا الإعلان على عمومه، لأن من شأن ذلك الوقوع في الخطأ وارتكاب الخطيئة، حيث يصبح الجهاد في خدمة النظام لا في خدمة الثورة، ضف إلى ذلك حتى تلقى هذه الدعوة الإجماع في صفوف العلماء دون أن يظهر مخالف، ولا أن يحتج محتج، لأن انقسام العلماء مقدمة لانقسام الأمة أكثر بين مؤيد ومعارض. إن نقل الجهاد من (دعوة) من طرف العلماء إلى (حقيقة) على أرض الواقع، تحتاج إلى قرار سياسي من طرف السلطات الحاكمة في الدول الإسلامية، حيث لا يكفي أن يجتمع العلماء ويدعو إلى القتال حتى تفتح الحدود ويتدفق الجهاديون، ويقومون بتسليح الثوار، فلا بد أن يرافق هذه الدعوة القرار السياسي، وبما أن السياسات في معظم الدول العربية خاضعة للدول الكبرى، وتتخذ من الدين ما يساعد على استمرارها ويقوي شوكتها لا أكثر ولا أقل، فإن مثل هذا القرار قد يكون بعيدا في هذا الوقت، قد يقول قائل بأن الرئيس المصري محمد مرسي، قد أضفى على هذه الدعوة القرار السياسي في خطابه الأخير، فالجواب على مثل هذا الادعاء هو أن الرئيس المصري لم تهمّه الثورة السورية ولا الشعب السوري طيلة ما يقارب العامين ونصف العامين فكيف تهمّه اليوم، والدليل على ذلك هو أنه أبرم اتفاقات وعقد تحالفات مع إيران والعراق، مع أن سبب مآسي السوريين هم الإيرانيون، الذين يعتبرون معركة دمشق هي معركتهم الأولى ضد الغرب، وبالتالي فحضور مرسي في المشهد السوري مؤخرا هو استعراض للقوى أمام مناوئيه ومعارضيه قبل الامتحان الصّعب في ال 30 جوان القادم. قد نلتمس الأعذار للمشايخ في دعوتهم هذه، بعد أن رأوا توافق القرار السياسي مع الفتوى الدينية في إيران وحلفائها في المنطقة العربية، فإيران وحلفاؤها لا يدخرون جهدا في دعم نظام ظالم يقتل شعبه ويدمر وطنه، وما كان لهذا الدعم أن يكون لولا التوافق الطائفي، في مقابل ذلك تجد الدول العربية غير مبالية بما يحدث للشعب السوري، وغير مدركة للخطر القادم من إيران، وهنا أريد فَتْحَ قوس حتى لا يفهم من هذا الكلام بأنّه دعوة إلى الاحتراب بين الجيران، فالضرورات الجغرافية والتاريخية هي التي فرضت على العرب وإيران اقتسام المكان الواحد، والانصهار في دين واحد، إلا أن أطماع إيران في المنطقة ومحاولاتها لاستعادة ذلك المجد الإمبراطوري الفارسي الضائع الذي سرقه العرب في يوم ما، على حد زعمهم، جعلها تُؤسس لأيديولوجيا يمتزج فيها الدين بالقومية، وفي هذه الأيديولوجيا يكون الإيراني في مواجهة الآخر العربي بغية السيطرة عليه والتحكم فيه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا داعي للتذكير في كل مرة بأن أمريكا عدو، وإسرائيل عدو، وفرنسا عدو، وبريطانيا عدو، فتسليمنا لعداوة هؤلاء لا يعني أن نخضع أنفسنا لأولئك الذين يريدون إخضاعنا باسم التقارب الجغرافي والتاريخي، أو الديني، كما أن صراعنا مع إسرائيل لا يستدعي أن نرهن أنفسنا لديكتاتورية طائشة مقيتة انتهكت ماضينا واستولت على حاضرنا ودمرت مستقبلنا. إلا أنّه للأسف غاب عن العلماء الأفاضل دروس التاريخ القريب، وذلك عندما أقحم المتطوعون باسم الجهاد ضد الإلحاد في الحرب السوفياتية الأفغانية، هؤلاء الذين قاتلوا ببسالة وشجاعة العدو، وكانوا سبباً في إخراج السوفيات من أفغانستان، حيث كان حلمهم هو إقامة النموذج الديني على أرض الأفغان بعد الانتصار على العدو، هذا الحلم كان نتاج الخطاب الذي اُستغل في ساحة المعركة، الذي يستحضر الدين في كل مناحي الحياة، ولما عاد هؤلاء المقاتلون إلى أوطانهم بقي ذلك الحلم يراود قلوبهم، ويدغدغ عواطفهم ومشاعرهم، ويستحكم في تفكيرهم وعقولهم، فقاموا باستصحابه معهم إلى أوطانهم، مما أدخل العديد من الأوطان في صراعات واقتتال داخلي. لقد حدد الثوار السوريون في العديد من المناسبات ما يحتاجون إليه من أشقائهم وأصدقائهم حيث أعلنوا بأن معركة إسقاط النظام هي معركة الشعب السوري، وهم لا يحتاجون لا إلى مقاتلين ولا إلى متطوعين، بل كل ما يحتاجون إليه هو السلاح النوعي حتى يتغلبوا على آلة القتل الأسدية من طيران وصواريخ وسلاح كيماوي وغيرها، لذلك كان على العلماء أن تكون دعوتهم محددة وموافقة لطلبات الثوار السوريين، بالإضافة إلى ذلك كان عليهم ألا يسايروا الخطاب الغربي في سياقه الذي يتخذه كحجة في عدم مساعدة الثورة السورية، السياق الغربي الذي يقول بأن الثورة السورية تُسيطر عليها الجماعات المتشدّدة، كجبهة النصرة مثلا، التي يُسيطر عليها المقاتلون الأجانب، وهذا من شأنه على حد قولهم، تقويض مستقبل سوريا حيث تسقط في يد التشدّد والتطرف الديني، والغريب في ذلك أنهم يسكتون عن تدخل حزب الله وإيران، ويعيدون عزف تلك الأسطوانة من إرهاب وقاعدة وجماعات تكفير، وكأنّ إرهاب حزب الله محمودٌ، وإرهاب النصرة مذمومٌ، وكأنّ تدخل إيران التي تعتبر دولة، لها اتفاقات ومعاهدات دولية، ولها جيش كبير وأسلحة متطورة ونوعية لا يشكّل خطراً، أما تدخل القاعدة (عصابات مافياوية خارجة عن القانون) التي تملك بندقية كلانشنكوف هو الخطر بعينه. إن سياسة الكيل بمكيالين التي تعتمدها الدول الغربية مع أطراف الصراع السوري هي التي تقودنا إلى ترديد مثل هذا الكلام، فنحن ضد التطرف بمختلف أشكاله بغض النظر مَنِ الجهة المتطرفة، ونحن ضد ثقافة الكراهية والقتل والصدام، لأننا ندين بدين الحب والحياة، لكن المنطق السليم هو الذي يقرر إذا ما كان الظواهري إرهابيا، فإن نصر الله أكثر من إرهابي لأنّه يمثل جزءا من الدولة اللبنانية، وإذا كانت جبهة النصرة إرهابية، فحزب الله إرهابي أيضا رغم مقاومته إسرائيل. كما أنّهم - أي العلماء - أعطوا النظام مبررا آخر، ومنحوه نفسا جديدا، وأسدوا له خدمة جليلة، كان ينتظرها بفارغ الصبر، حتى يوغل في عملية القتل والإجرام ضد شعب أعزل تهمته الوحيدة أنه قال أعطني حريتي وأطلق يدي وعقلي و...، فالنظام منذ بداية الحراك الثوري، وهو يستحضر في خطاباته مفردات من قبيل المؤامرة الكونية، والجماعات المسلحة والإرهابية والتكفيرية التي تريد السيطرة على سوريا وإعادتها إلى عهود الظلامية وعصور التكفير، مع أن الكل يعترف بأن الثورة السورية بدأت سلمية، وهذا باعتراف رأس النظام نفسه، وما كان لها أن تكون مسلحة لولا إفراط هذا النظام في عمليات القتل والتدمير. - ربما تكون دعوة العلماء إلى الجهاد هو رسالة تهديد للخارج الغربي والداخل العربي والإسلامي، فالغرب للأسف الذي يعزف تلك الأسطوانة المشروخة بكونه صديقا للشعب السوري، وهو معه في طموحاته وتطلعاته إلى الحرية والمساواة والحياة الكريمة، في المقابل تجده يُحاصر الثورة ولا يُساعدها إلا بالكلام الذي لا طائل من ورائه، ويفرض على الدول العربية العديد من المعوقات التي من شأنها تعطيل وصول المساعدات للشعب السوري. - لذلك فالأجدر على العلماء أن يتراجعوا عن هذه الفتوى، لأنها لا تخدم الثورة السورية بقدر ما تسيء لها ولتطلعاتها المشروعة، وتزيد من معاناة الشعب السوري العظيم، فالرجوع عن الخطأ في بدايته خير من الإصرار عليه، لأن في ذلك إنقاذا للشعب السوري، وتقليلا لفاتورة الحرب المدمرة.