لا يتوقّف بريجينسكي عن تأكيد التورط الأمريكي ويتحول في لقائه مع قناة سي أن أن إلى واعظٍ ممتاز فيقول: (... قلت للمجاهدين الأوائل في تنظيم القاعدة عندنا فكرة عن إيمانهم العميق بالله، إنّهم على ثقة بأنّهم سينتصرون، تلك الأرض هناك هي أرضكم، وسوف تعودون إليها في يوم من الأيّام، لأنّ نضالكم سوف يسود وستملكون بيوتكم ومساجدكم مرّةً أخرى لأنّ قضّيتكم حقّ والله معكم...) وكاد هنا أن يدعو الحضور إلى رفع أيديهم والتّأمين على دعائه. في المقابل عندما يتحدّث المجنّدون الإسلاميّون من العقلاء عن تلك المرحلة وما بعدها لا ينفون أبدًا أنّهم كانوا ضحايا. فالمهندس سيّد محمد محمد حسن، وهو من جيل الصّحوة الإسلاميّة يتحدّث عن ذلك في لقاءٍ له مع شبكة "موقع المقالات" سألته الشبكة .
- ما هي قصّة صلتكم بالشّأن الأفغاني؟ فأجاب: سافرت إلى باكستان للمشاركة في جهود الإغاثة عام 1989م وظللت هناك مدّة عام ونصف وكانت تجربة ثريّة رغم ما رأيت فيها من مرارة سواء على الجانب الأفغاني أم الجانب العربي والإسلامي الدّاعم للجهاد...).
-ولكن كيف اتخذتم قرار السّفر إلى باكستان؟ أجاب: قرار السّفر كان قرارًا شخصيّا اتخذته تحت وطأة الحملة الإعلاميّة الرّهيبة التي جرى فيها استخدام الإسلام لحضّ الأمّة الإسلامية على التّضحية بأموالها لتدمير روسيا في أفغانستان لحساب أمريكا دون أن نكون نحن الذين سافرنا على علم بذلك...).
-نرجو توضيح الدّور الأمريكي في صناعة المسألة الأفغانية؟ فأجاب: (عرفت أنّ الرّوس أنفسهم جرى استدراجهم إلى الدّخول في أفغانستان، إلى درجة أنّه وقع تحت يدي ما يثبت أنّ الرّوس استأذنوا الأمريكان قبل دخول أفغانستان فتركوهم يدخلون ليكون المستنقع الأفغاني هو نهاية الإمبراطورية الرّوسية. والأمريكان على طريقتهم وانتهازيتهم أرادوا إنجاز هذا العمل الكبير دون بذل دماءٍ أو أموال أمريكية. لذلك، فتحت المنابر وحشدت الجيوش في كلّ أنحاء العالم الإسلامي لاستخدام الإسلام والمشاعر الإسلاميّة الرّاقية الكامنة في نفوس الأمّة من حبّ الجهاد وإنقاذ الأمّة. كلّ الذين سافروا لم يذهبوا بليل أو عبروا أسلاكا شائكة– أنا شخصيُا رحت وجئت إلى مصر مرّتين أثناء فترة وجودي ولم يسألني أحد أين كنت ولماذا ذهبت؟ في هذه الفترة كان السيناريو الأمريكي هو فتح الأبواب لإنجاز المهمّة بأموال ودماء إسلاميّة وكان المفروض أن تكون الحكومات أوعى لتُنبّه شعوبها.. لو فعلت الحكومات هذا في التّوقيت المناسب لما حدث هذا...). وقد بدأ تنفيذ مقرّرات اجتماع مجلس الأمن القومي الأمريكي المنعقد في البيت الأبيض بتاريخ 27 ديسمبر 1979م وصدر عقبه مباشرة توجيه رئاسي من طرف الرّئيس الأمريكي جيمي كارتر صاحب الابتسامة الآسرة يقضي بما يلي حسب ما نقله عن الكتب الثلاثة المذكورة الأستاذ هيكل في "الزّمن الأمريكي من نيويورك إلى كابول" (... أن يتوجّه مستشار الرّئيس للأمن القومي "زبجنيُو بريجينسكي" إلى منطقة الشرق الأوسط ابتداءً بالقاهرة لمقابلة الرّئيس أنور السّادات والبحث معه في تنظيم جهد إسلامي شامل يساند المقاومة الإسلاميّة الأفغانية في مواجهتها جيش الاحتلال السّوفياتي، ثمّ يتوجّه مستشار الأمن القومي بعد القاهرة إلى الرّياض لمقابلة الملك خالد وولي العهد الأمير فهد ووزير الدّفاع الأمير سلطان ويجري معهم محادثات تضمن حشد موارد السّعوديّة ونفوذها لقيادة جهاد إسلامي ضدّ الشّيوعيّة في أفغانستان. وإذا نجح بريجينسكي في مهمّته مع الرّئيس السّادات، فإنّه يستطيع أن ينقل إلى القادة السّعوديين ما يطمْئنهم إلى أنّهم ليسوا وحدهم في ساحة الجهاد. وأخيرًا، يتوجّه مستشار الأمن القومي إلى باكستان ليُقوّي موقف الحكومة فيها بموارد السّعوديّة ونفوذها وبثقل مصر ووسائلها وحتّى تثِق هذه الحكومة في إسلام أباد أنّها سوف تكون وسط عمل إسلامي يلتفُّ فيه من حولها ويجمع على أرضها قُوى الإسلام وإمكانياتها...). - وفي فجر يوم 03 جانفي 1980 كانت طائرة بريجينسكي تحطّ في مطار القاهرة ليلتقي الرّئيس السّادات ثلاث ساعات ونصف ويُقْنِعُه بالمشروع الجهادي الأمريكي. وفي اليوم التالي 4 جانفي 1980 كان بريجينسكي في جدّة يقابل الأميرين الفاعلين في السّعوديّة الأمير فهد والأمير سلطان ليخبرهما بالدّور المرسوم للسعوديّة في تبنّي مشروع الجهاد الأمريكي. وفي يوم 5 جانفي 1980 كان بريجينسكي في إسلام أباد مقدّما تقريرًا إضافيا عن المهمّة وعن حماس القاهرة والرّياض للمشروع. وكانت الأيام الثلاثة 3-4-5 جانفي 1980 أيّامًا مفصليّة فيما يحدث بعد ذلك لعقود أربعة تالية، وقد تنتهي بالطبعة الثانية للجهاد الأمريكي متمثّلا في الجيل الجهادي الرّابع المراد تسويقه بتبنّي الإدارة الأمريكية لمشروع برنارد لويس الدّاعي إلى خلق أقلّيات عرقيّة ومذهبية في البلاد العربيّة على أنقاض الدّول الوطنيّة. - وكان بريجينسكي أثناء رحلته المشؤومة هذه يلعب في كلّ دولةٍ من الدّول الثلاث التي زارها على وتر الرّغبات الكامنة في أعماق قياداتها.
إغراء "السّادات" والأمير "فهد" و"ضياء الحق" بالجهاد الأفغاني: من المعلوم أنّ السّادات بعد ثورة التّصحيح التي قادها ضدّ مراكز القُوى في مصر وإجهازه على مشروع عبد النّاصر، التفت إلى أمريكا يحاول إرضاءها باعتبارها تملك 99% من أوراق الحلّ في الشرق الأوسط. كان توّاقا إلى إرضائها بأيّ وسيلة، وفي نفس الوقت، بعد إطلاقه سراح القيادات الإخوانية من السّجون– آخر الدّفعات خرجت عام 1973- وبعد كامب ديفيد وهجوم الإخوان المسلمين على الاتفاقية، كان في حاجة ماسّة إلى الظّهور بمظهر الأغير على الدّين من الإخوان المسلمين. وجاءت فرصته في الجهاد الأفغاني– فهو مدعوّ إلى: 01/ بيع السّلاح السّوفياتي إلى المجاهدين الأفغان (تطبيقا لبنود مقترح مجلس الأمن القومي الأمريكي، في ألا يظهر في البداية أيّ سلاح أمريكي). 02/ كما أنّه مدعو إلى إخراج مشاعر الكراهية نحو السّوفيات بالصّورة الحضاريّة المتمثّلة في رفض اجتياح دولةٍ مستضعفة. 03/ ويستطيع بذلك الظّهور بمظهر الزّعيم الإسلامي الكبير في بلد الأزهر العظيم. 04/ كما يستطيع الاستفادة من صندوق دعم الجهاد الأفغاني، حينما يبيع السّلاح السّوفياتي المخزّن في مخازن الجيش المصري باعتبار أنّ زمن الحرب مع إسرائيل انتهى طبقًا لبنود معاهدة كامب ديفيد. - وارتمى الرّئيس السّادات في أحضان الجهاد الأفغاني بتصريحات إعلاميّة مثيرة وبقرارات سياسيّة جريئة. - كما تمّ إغراء المملكة العربيّة السّعوديّة بدعوتها إلى قيادة "الجهاد الإسلامي" باعتبارها بلد الحرمين الشّريفين– وفي نفس الوقت يفتح لها "الجهاد الإسلامي" بابًا واسعًا لقيادة الأمّة الإسلامية في هذا النفير العام ضدّ الإلحاد، خاصّة أنّ- موضوع "جهيمان العتيبي" مازال حديث النّاس، وعندما يجمع الجهيمان تلك الجموع (تجاوزت 400 مريد) ويترك تأثيرًا في النّاس، خاصّة أنّ معظم رسائله كانت تتّهم العائلة السّعوديّة بالتّقصير في الدّفاع عن الإسلام وأنّ حركته ما هي إلاّ دعوة صريحة إلى العودة إلى الجذور الأولى، التي كانت عليها الحركة الوهابيّة المتحالفة مع العائلة السّعوديّة- وبتبنّي السّعوديّة للجهاد الإسلامي ضد الاتّحاد السّوفياتي الملحد تكون قد سحبت البساط ممّن يرونها مقصّرة في الدّفاع عن الإسلام. وما زاد في إغراء المملكة العربيّة السّعوديّة وجودها ضمنيا قائدة للدّول العربيّة بعد تخلّي مصر عن القيادة بعد كامب ديفيد. - كما أنّ انتصار ثورة الخُميني وطرد شاه إيران وخوف السّعوديّة من فكرة تصدير الثّورة يجعل تبنّي الجهاد الإسلامي طوق نجاة للظّهور بمظهر الدّفاع عن الإسلام ممثلاً في عقيدة أهل السّنة والجماعة– المتناقضة مع العقيدة الشيّعية. ولاحظنا أنّ جذور الصّراع السّني الشّيعي الذي استعر فيما بعد بدأت طلائعه بعد انتصار الخميني ولم يكن مطروحًا أبدًا أيّام شاه إيران. وأخيرًا، فإنّ تبنّي الجهاد الإسلامي في أفغانستان يرفع الحرج عن السّعوديّة ويجعلها غير مطالبة بأن تفعل نفس الشيء في فلسطين، خاصّة أنّ الطرّيقة التي تبنّت بها السّعوديّة الجهاد الأفغاني أوحت بأنّ السّعوديّة استفرغت جهدها وأنفذت حالها في قضيّة المسلمين (الأفغانية) التي جعلها عبد الله عزّام فيما بعد "قضيّة المسلمين الأولى"، وتدحرجت القضيّة الفلسطينية إلى المرتبة الثانية، وذلك على غير عادة التّيّار السّياسي الإسلامي بكلّ فصائله الذّي تغنّى طيلة عقود من الزّمن بفلسطين وأنّها القضيّة المركزيّة للأمّة. - ولم يتوقّف الجهاد الأفغاني عند حدّ دحرجة "فلسطين" إلى المرتبة الثانية بل ظهر بعد ذلك، في خضمّ "حصاد هشيم" الجهاد الأفغاني، أن ضاعت قضيّة فلسطين وظهر في أدبيّات الجيل الثالث من الجهاديين (داعش والنّصرة) أن صُرّح علانيّة بأن فلسطين قضيّة شركيّة لبلد يسكنه مُشركون وأهل الكتاب من اليهود أقرب إلينا.
جهود مصر والسّعوديّة وباكستان في تبنّي ودعم الجهاد الأفغاني: أ/ جهود مصر: بدأت حملة حكوميّة مركّزة لدعم الجهاد الأفغاني ارتكزت على الصّحف المصرّية والأزهر الشريف والتّصريحات السّياسيّة. - نشرت جريدة الأهرام الحكوميّة بتاريخ السبت 29/12/1979 مانشيتًا رئيسيًّا يقول: مصر تدين التدخّل السّوفياتي في أفغانستان وسياسة الهيمنة السّوفياتيّة. وفي عدد الأحد 30 ديسمبر 1979 وفي الصّفحة الأولى مانشيتا رئيسيّا جاء فيه: اتصالات مصريّة بدول عدم الانحياز لبحث التدخّل السّوفياتي في أفغانستان. وتتحرّك دار الإفتاء المصريّة على لسان شيخها "جاد الحق على جاد الحق" بنداء إلى المسلمين في سائر الأقطار للمسارعة بنجدة الثّوار الأفغان الذين يدافعون في معركة غير متكافئة عن دينهم وأرضهم وأنفسهم ضدّ التّدخل السّوفياتي. وجاء أيضًا في جريدة الأهرام عدد السبت 05 جانفي 1980 في الصّفحة الأولى ما يلي: ... إنّ الرّئيس السّادات قد أعلن في تصريحات أدلى بها إلى الصّحفييّن عقب صلاة الجمعة في أسوان أن العالم الإسلامي يجب ألا يكتفي بإدانة الغزو السّوفياتي لأفغانستان بالبيانات ولكن يجب أن تكون هناك إجراءات فعليّة وسوف أدعو المكتب السّياسي للحزب الوطني إلى الاجتماع لاتخاذ قرارات محدّدة ترفع إلى الحكومة لتنفيذها وعلى الدّول الإسلامية والزّعماء المسلمين الذين التزموا الصّمت أن يقولوا كلمتهم الآن...). - ونظّم بعدها أسبوع التّضامن مع الشّعب الأفغاني وقد ألقى نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجيّة السّيد كمال حسن علي كلمة الرّئيس السّادات نيابةً عنه جاء فيها: (... إنّ الغزو السّوفياتي لأفغانستان يمثّل محاولة إحدى القوّتين الكبيرتين الارتداد بالبشريّة من عهد تصفية الاستعمار والعنصريّة إلى عهد الغزوات الاستعمارية البائدة وأنّ هذا الغزو الذي يعدّ تهديدًا لأمن منطقة الخليج والشّرق الأوسط كلّه وقد كشف جميع الأقنعة وأسقط جميع الذّرائع وفرض على المسلمين جميعا التّضامن التّام مع المسلمين الأفغان... إنّ مصر في دعهما الجهاد الأفغاني إنّما تستند إلى مبادئ سامية تستمد من الدّين الإسلامي ومن حريّة الشّعوب ومقاومة العدوان...). وبعد انفضاض اجتماع الجمعيّة التّأسيسيّة لجامعة الشّعوب العربيّة الإسلامية تقدّمت بالمقترحات التالية: 01/ اقتراح خصم 2% من المرتّب أو المعاش لجميع موظّفي الدّولة على ألاّ يقلّ المعاش أو المُرتّب عن 50 جنيهًا. 02/ اقتراح فرض ضريبة جهاد لصالح أفغانستان. 03/ دعوة الجمعيّات الخيريّة عن طريق وزارة الشّؤون الاجتماعية إلى جمع التّبرّعات لصالح الشّعب الأفغاني. 04/ فتح المساجد لتلقّي تبرُّعات المواطنين. 05/ مطالبة الدّول العربيّة والإسلاميّة بدعم المُجاهدين ومضاعفة الجهود والعمل على إدانة الغزو السّوفياتي. 06/ تخصيص صندوق في مكتب أفغانستان بالأمانة العامّة لجامعة الشّعوب لجمع التبرّعات الشّعبيّة غير الحكومية. 07/ مطالبة الدّول الإسلاميّة والعربيّة بقطع علاقاتها مع الحكومة الأفغانية العميلة للاتّحاد السّوفياتي. ونفّذت هذه المقترحات حرفيّا. وفتحت مصر ذراعيها للمجاهدين الأفغان وبدؤوا يتوافدون على القاهرة. فقد نشرت الأهرام في عدد يوم الأحد 21/12/1980 خبر وصول قادة الجهاد الأفغاني إلى القاهرة وإشادتهم بمصر ودورها في دعم نضال شعبهم، ضمّ وفد القادة: أحمد الجيلاني والشيخ صبغة الله مُجدّدي والسّيد وكيل خان والسيد طريامي عثمان والدّكتور رسول أمين والقاضي محمد نذير سعيد ورحمة الله موسى غازي. وذلك للمشاركة في المؤتمر الموسّع الذي تعقده جامعة الشّعوب العربيّة والإسلاميّة يوم السبت التالي... - كما نشرت الأهرام في عددها ليوم الأحد 04/01/1981 خبرًا جاء فيه: (... زار أمس قادة الجهاد الأفغاني مصانع الهيئة العربية للتّصنيع حيث شاهدوا على الطبيعة مراحل الإنتاج في مصنع الصّواريخ المضادّة للدّبابات والصواريخ الموجّهة. وقد أهدت مصانع الهيئة مجموعة من الصّواريخ المُضادّة للدّبابات إلى القادة الأفغان، تأكيدًا لخطّ مصر الثّابت الذي أعلنه الرّئيس السّادات في دعم الجهاد الأفغاني...)