توقفنا في الحلقة الماضية عند معاودة الرئيس بومدين الطلب لإشرافكم على الحزب في 1977، كيف واجهتم الموقف هذه المرّة؟ ذكَّرْتُ الرئيس بما كنتُ قلته له قبل عامين، عندما فاتحني في أمر الحزب أول مرة سنة 1975، فقد صارحتُه يومئذ بأن ما اصْطلحنا على تسميته ب "الحزب"، هو اليوم، في الحقيقة، لا يختلف عن بقية هياكل السلطة والحُكم في البلاد، مِثلُه مِثلُ الوزارات، والشركات، وأجهزة الأمن ويختلف عنها في أنه هيكلٌ بلا روح فلا مَلامحَ بَيِّنة له، ولا صلاحيات تحدد شخصيَة متميزة له، خارج الشعارات المعروفة، مثل: يُجَنّد، ويوعي، ويوجّه، ويُرْشد، وما شابهها... تحدثنا مُطوّلا في الموضوع من جوانبه المختلفة، ولم يكن رأيُ بومدين في الحزب بأحسن من رأيي فيه، واتفقنا في الأخير على ضرورة التخلص من فكرة "الجهاز"، والعمل بجدّ لبناء حزب حقيقي، يُعبّر عن التطلعات العميقة للجماهير، على أن يتمّ ذلك من خلال إعداد الشروط الموضوعية، لعقد مؤتمر ديمقراطي للحزب، يصحح المسيرة، ويَرسُم بوضوح مناهج النضال السياسي والإيديولوجي ويَخرج ببرنامج واقعي، يعالج الاختلالات التي بدأت تظهر في كثير من القطاعات، ويُجَنِّب البلاد ويلات الانحرافات التي قد تغزوها. وكان، أيضا من بين أهم المسائل التي طرحتْ في هذا اللقاء، العودة إلى صيغة العمل الجماعي، أي العمل مع مجلس الثورة، ليكون لكل واحد من أعضائه نصيبُه من المسؤولية في كل ما يُتّخذ من قرارات، وما تُسفر عنه من نتائج، إلى أن ينعقد مؤتمر الحزب وتنتهي أشغاله.. وقيمة هذا الأسلوب أنه يمنع انفراد الرئيس بمسؤول الحزب، كما وقع مع المسؤولين السابقين، وقد قبل الرئيس هذا المبدأ بتحفظ. وهكذا أصدر بومدين، باسم مجلس الثورة، قرار تعييني، بتاريخ 30 أكتوبر 1977 بصفتي "مسؤولا تنفيذيا مكلفا بجهاز الحزب". ومما تجدر الإشارة إليه، أنني أنا الذي كنت مُصِرًّا على أن تكون مسؤولياتي ذات طبيعة "تنفيذية"، لإلزام مجلس الثورة بمرافقة عملي في الحزب، وليس مجرد التفرّج على مشاكله، وإصدار الأحكام الجاهزة على من يتحملون المسؤولية فيه.
كيف كانت بدايات عملكم في الحزب؟ وما هي المشاكل التي كان عليكم أن تبادروا بمعالجتها؟ ما إنْ عُدتُ من الاتحاد السوفياتي، حيث كنت على رأس وفد عسكري للتفاوض على شراء بعض الأسلحة المتطورة. وكان قد يَسَّرَ مهمتنا فيها، العلاقاتُ الطيبة التي ربطتني بقائد أركان الجيوش السوفياتية، إذ كان زارني عدة مرات في الكلية العسكرية بشرشال... ما إن عدت حتى التحقتُ بمهامي الجديدة في قصر زيغود يوسف، بعد أن حصلت على موافقة الرئيس بومدين، بأن يجمعنا لقاء ثنائي مرة واحدة في الأسبوع، ومع أعضاء مجلس الثورة مرة في كل شهر. من أوائل ما لفَتَ نظري في الجهاز المركزي للحزب، أن الإطارات العاملة فيه، يبدو عليها التعب، والملل، وانعدام الاقتناع لديهم بأنهم مفيدون للعمل حيثُ هم، مع شعور لدى أكثرهم بالتهميش، والتضرر من أجواء الخمود والخمول المفروضة على الحزب. وحتى الشبان الذين هم في أواخر العقد الثالث، أو بدايات العقد الرابع من أعمارهم، كانوا يعانون الفراغ، وتظهر عليهم سمات الاستكانة إلى حياة رتيبة ليس فيها ما يستوعب الحيوية التي تسمح بها سنّهم، بالإضافة إلى عدم اتّضاح مَآلاتِهم، وانسداد الآفاق أمامهم، في حزب قرر الرئيس، بعد مغادرة قايد أحمد، فيما يبدو، أن يُجمّد نشاطه السياسي والفكري. فلم يبق لهم إلا انتظار مداخلات الرئيس، وخطبه الكثيرة التي يلقيها في شتى المناسبات، لينطلق الحزب، من مسؤولية المركزيين إلى القائمين عليه في الهياكل المحلية، لينطلق الجميع في حملات صاخبة لعقد الاجتماعات التي يتبارى فيها الخطباء في شرح خطب الرئيس، وتفسير مراميها التي لا "تدركها الجماهير". وقد يتطلب الأمر أن تُنظّمَ مسيرات حافلة لدعم مواقف الرئيس، وما يكون قد اتخذه من القرارات فتتنافس الهياكل في إخراج أكبر المسيرات... وفيما عدا ذلك، فقد صار أهم مَعْلم في حياة المسؤولين في الحزب، إنما هو انتظار المناسبات التي يَتِمُّ فيها تعيينهم ضمن الوفود المشاركة في اللقاءات، والمهرجانات الكثيرة التي تنعقد في أنحاء العالم المختلفة، مع ما يرافق ذلك من الصراعات المحتدمة للفوز بالمشاركة فيها. وكان مِمّا يَسْتلفِتُ النظر، أيضا أن قسم الإدارة والتجهيز، في المقرّ المركزي، كان عديم الوسائل والإمكانات، شديد الحاجة إلى العناصر البشرية ذات التكوين الملائم، والكفاءة المهنية للقيام بالمهمات المَنُوطة به فكان أداة بالية، عتيقة عديمة الفعالية، لا تعكس أبدا صورة حزب عصري، يُشاع عنه أنه "الحزب الحاكم في البلاد". والسبب أن تحديث الإدارة الحزبية لم يكن أبدا مَحطَّ الاهتمام.. وإذا كانت هذه حال الهيكل الإداري المركزي، فكيف كانت حاله في المستويات المحلية؟.. لهذه الأسباب وغيرها حرصنا أيضا، منذ البداية الأولى، على أن نُطعِّم مصالح الجهاز المركزي بمجموعة من الإطارات التي انتدبناها من أجهزة الدولة، وكان عدد منهم قد استوعبته الأمانة المركزية، التابعة بصفة مباشرة إلى المسؤول عن الحزب، من مهامها إعداد الملفات والتقارير التي يطلبها المسؤول، ودراسة واستخلاص التقارير والملفات المحوّلة إلى مسؤول الحزب من أجهزة الدولة لإبداء الرأي فيها.. فالأمانة المركزية تشبه ما يُعرف بالدواوين، لدى الوزراء، ورؤساء الحكومات، وغيرهم. وقد استقدمنا للعمل بها، كما أسلفنا، كفاءات شُبانية من الجامعة، وقطاعات الإعلام والثقافة، والتربية والتعليم، والشباب والرياضة، والصناعة والطاقة، والخارجية.. كما اسْتعنّا بعدد من ضُبّاط الجيش الوطني الشعبي. وكل هؤلاء كانوا مُنْتدَبين من إداراتهم الأصلية. ومنها كانوا يتقاضون رواتبهم.. وفي هذا المقام أيضا، أولينا اهتماما خاصا بقسم التنظيم الذي هو واحد من المصالح الرئيسية في هياكل الحزب المركزية، لما يُفترض أن يُقِيمَه من وثيق الصلات بهيئته في كل المستويات. وفي منظور التكفل العاجل بالنقص الفادح في مجال العناية بالقضايا الفكرية، والتنظيمية العضوية، قمنا بتشكيل فوج للتفكير وتقديم الاقتراحات، اختير أعضاؤه من بين الإطارات القديمة المتفرغة في الجهاز المركزي، واختير البعض الآخر من بين المحافظين المخضرمين، ومن المناضلين والإطارات المنتدبين من قطاعات الدولة الملتحقين بالحزب، وقد أثمرت جهودُهم نتائجَ طيبة، سَيَرِدُ تفصيلها في مكانه.
فيما عدا ما ذكرتموه من الإجراءات المهمة لتحسين سير المصالح المركزية وامتداداتها المحلية، ما هي التنظيمات الجوهرية التي تمت في هذه الفترة التي توليتم فيها المسؤولية التنفيذية لجهاز الحزب؟ كان الرئيس في خطبه الملقاة في الفترة الأخيرة من عُمْره، كثيرَ التركيز على موضوع عقد مؤتمر الحزب الذي لم ينعقد منذ 1964. وكان يُلحّ على جعل انعقاده موعدًا حاسما لتصحيح الانحرافات، والفصل في كل القضايا المعلقة التي لا يَسَعُ جهازَ الدولة الإداري الفصلُ فيها. وقد كنتُ أشرت، في الإجابة عن سؤال سابق، إلى أنني اتفقت معه على جعل الهدف الرئيسي لمهمتي، في هذه المرحلة، هي عقد ذلك المؤتمر. ولكنه كان واضحا لِكِليْنا أن عقده لا يكون إلا تتويجا لمسيرة طويلة من التحضيرات الكثيرة والمتنوعة. ومن أهمها استكمال تزويد الحزب بهيئات عمله في ثلاثة حقول استراتيجية، أولها الحقل الجماهيري، وهو الخاص بالمنظمات الجماهيرية، وثانيها الحقل التنظيمي السياسي، وهو يشمل تغيير النظرة إلى دور ووظائف أجهزة الحزب في الولايات والدوائر والبلديات رأسا على عقب، وثالثها الحقل الفكري. وهو يتصل بتوفير فضاءات يتجاوز فيها العمل مسائل التسيير اليومي إلى الاشتغال بالبحث والتفكير المعمق في القضايا الاستراتيجية، وكيف يمكن لحزب أن يحيا ويرتقي بمناضليه إذا خلا من هيئات التفكير والبحث؟
هل لكم أن تفصّلوا لنا القول في هذه الحقول الاستراتيجية الثلاثة، واحدا واحدا، لفهم مراميها البعيدة؟ وهل حققت شيئا من الأهداف التي رُسمت لها؟ الغايات التي كانت وراء هذه القرارات التي اتُّخذتْ، بالتشاور مع الرئيس، وتَبنّي مجلس الثورة لها بعد مناقشتها، ترجع كلها إلى الحرص على تمكين الحزب من القيام بالوظيفة الأساسية التي، إذا استُلِبَتْ منه، يصبح مجرد صوت للدعاية، والتهريج، والترويج لسلوك الحكام، كيفما بلغت من البعد عن رغبات الشعب، واحتياجاته المادية وغير المادية. وهذه الوظيفة هي القدرة على بلورة إرادة المجتمع وحاجاته، لأخذها بالاعتبار الجاد عند تصوُّر الخطط والبرامج، والمشاريع، وفي مجالات التنمية في الميادين كلها ومنها قدرة الحزب ومؤسساته، وهيئاته، على التكوين السياسي، والتأطير التنظيمي، للنخب القادرة على التأثير الإيجابي في مناحي التنمية والتطوير، ومكافحة كل بوادر الانحراف والفساد. وفي هذا الصدد، تبرز الحاجة المؤكدة الجماهيرية، ودورها المرموق في أعماق المجتمع، إذا ما كانت تستحق تسميتها فعلا، وهذا موضوع الحقل الاستراتيجي الأول في جو الخمول المفروض على الحزب، وترَدّد السلطة بين الخوف منه، والخوف عليه من أن تَهُبّ في أرجائه نسائم الانعتاق... لم يكن بوسع تلك المنظمات ألا تكون أجواؤها مصطبغة بكل ما يخيِّم في الحزب من ذلك المناخ المُثقل بألوان من المعوّقات.. فلذلك انعدمت في ساحاتها العوامل الكفيلة بأن تدفع بها إلى الأعلى. والمنظمات الجماهيرية حلقة رئيسية في منظومة الحزب الواحد وركن أساسي في هندسة بنائه، طبقا للنصوص المؤسسة لحزب جبهة التحرير. فقد اشترطت تلك المرجعية أن يكون الحزب "تنظيما طلائعيّا"، أي أن تشكيلته تتكون من عناصر النخبة التي صارت في مستوى من الوعي السياسي، والكفاءة النضالية، والقدرة المتميزة على الانفتاح، والتحاور مع كل فئات المجتمع، والارتباط الدائم بالشعب، تجُسُّ نبضه، وتستشرف السبل المؤدية إلى حل مشاكله، بحيث تستطيع أن تستسلم مناصب القيادة في كل المستويات، بَدْءًا بقيادة المنظمات الجماهيرية نفسها، باعتبارها "مشتلة العناصر البشرية"، وخزانا مُفْعَما بالكفاءات، ولا يُخشى له نُضُوب... في ضوء هذه الرؤية التنظيرية السائدة يومئذ، ضمن مفاهيم العمل الحزبي الرائد، باشرنا السعي لتحقيق أمل الرئيس في الشروع في بناء الحزب، من خلال إرساء قواعده المتينة. وهكذا، بعد نحو شهرين اثنين من تنصيبي في مهامي الحزبية، قمت يوم 08 يناير/ جانفي 1978 بتنصيب اللجنة المكلفة بتحضير مؤتمرات المنظمات الجماهيرية الخمس. وما هي إلا شهور قليلة حتى بدأت تلك المنظمات تعقد مؤتمراتها تباعا، فكان المؤتمر الخامس لاتحاد العمال في 25 مارس1978 ثم المؤتمر الثاني لاتحاد الفلاحين في 28 أفريل 1978 ثم المؤتمر الخامس لمنظمة المجاهدين في شهر ماي 1978- ثم المؤتمر الرابع للنساء في 05 نوفمبر1978، ولم يُمْهل الأجل المَحتوم الرئيس بومدين أياما قليلة أخرى ليشهد انعقاد خاتمة المؤتمرات، فقد كان عَقدُ المؤتمر التأسيسي للاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية في 06 يناير/ جانفي 1979. بينما ودّع الرئيس الدنيا في 27 ديسمبر 1978. وقد حمل المؤتمر اسمه رحمة الله عليه. لعل الذين حضروا تلك المؤتمرات، أو عاصروها وتابعوا وقائعها، مازالوا يذْكُرون ما تميزت به من انفتاح كبير على الاهتمامات المكبوتة لفئات المؤتمرين، وما عرفته من جُرْأة غير مسبوقة في تسمية الأشياء بأسمائها، وما شاع فيها من مداخلات أعادت الأمل إلى نفوس طالما شارفت على اليأس. وقد ظلت القيادات الجديدة مدة طويلة تستمد معنوياتها من نوعية ذلك النقاش الجاد، الثّرِي، العميق.. الذي احتضنته قاعة المؤتمرات بقصر الأمم، وترددت أصداؤه بعيدا خارج نادي الصنوبر... ولئن كان موضوع المنظمات الجماهيرية ومؤتمراتها شاغلا لنا، ولكل رفاقنا وأعواننا في مَقارِّ الحزب، فإننا لم نغفل لحظة واحدة مشكلات جوهرية ما فَتِئَتْ تُؤرّق أغلبية المسؤولين الذين تناوبوا على المسؤوليات الحزبية، وهي التساؤل عن طبيعة الدور المُسْند إلى الهيئات والهياكل الحزبية في كل تقاسيم الهيكل الإداري الوطني، الولاية والدائرة والبلدية. وتقف مُقابلها هياكل الحزب، وهي بالترتيب، المحافظة، والاتحادية والقسمة وهي، إذا استثنينا حياتها الداخلية، وقنوات عملها مع مناضليها، لا يبدو لها دور سياسيّ أو نظاميّ واضح في دواليب الدولة بل هي التي تستوعبها وتستخدمها! وآية ذلك أن المجالس التنفيذية في الولايات، تنعقد برئاسة والي الولاية المعنية، ويحضرها أعضاء المجلس التنفيذي، وهم المسؤولون الممثلون لمجموع القطاعات الوزارية: مدير الصحة، مدير الفلاحة، مدير التربية، مدير النقل إلخ... والمحافظ الوطني للحزب!! وفي هذا من المفارقة ما فيه، في بلد ينص دستوره على أن الحزب هو القائد، والمنشط والموجه... فلذلك كان من اللازم تصحيحُ هذا الخلل، وإضفاءُ أدنى ما يمكن من المنطق على مؤسساتنا الوطنية، أو نغير شعاراتنا ومواد دساتيرنا ومواثيقنا، من هنا كان منطلق البحث والتفكير في إعادة هيكلة الهيئات السياسية المحلية في البلاد كلها، لتمكينها من مباشرة الفعل السياسي المنوط بها بكل حزم وفعالية. يتبع...