د/ محمد العربي الزبيري لاحظ وكيل الزعيم الكبير أن الأمانة التنفيذية فشلت في أداء مهمتها، ولم تتمكن من توفير الشروط الموضوعية اللازمة لعقد المؤتمر الوطني وذلك لأسباب متعددة أهمها : 1 - عدم إيمان معظم صغار الزعماء بضرورة وجود حزب قوي بمناضليه الحائزين على ثقة الجماهير الشعبية الواسعة ، المتشبعين بمنظومة الأفكار التي تضمنها ميثاق الجزائر والمستعدين للعمل بجميع الوسائل على تجسيد مشروع المجتمع الذي بشرت به جبهة التحرير الوطني ليلة أول نوفمبر. والذي هو ، في الحقيقة ، نسخة منقحة لذلك الذي ضبطه نجم شمال إفريقيا منذ مستهل الثلاثينيات من القرن العشرين . ولأنهم لم يكونوا مؤمنين بتلك الضرورة ،ونظرا لمكانتهم لدى رئيس مجلس الثورة ولاعتقادهم الراسخ بأن الإدارة مدعومة بالجيش الوطني الشعبي تستطيع القيام بمسئولية إعادة بناء الدولة الجزائرية وفقا لأدبيات ثورة التحرير التي هي امتداد لأدبيات أطراف الحركة الوطنية الجزائرية ، فإنهم عملوا على محاصرة الأمانة التنفيذية وبذلوا كل ما في وسعهم من إمكانيات للحيلولة دون نجاحها في المهمة المسندة إليها . 2 - عدم تجانس أعضاء الأمانة التنفيذية ،حيث كانت أغلبيتهم من قادة جيش التحرير في الداخل الذين اعتادوا التعامل مع إطارات ومناضلي جبهة التحرير الوطني على أساس الثقة ومن منطلق روح المسئولية التي يتحلى بها الجميع مع احترام السلم التصاعدي . لكن منسق الأمانة كان أقل منهم رتبة عسكرية ولم يسبق له أن تعامل مع هياكل وهيئات الداخل . ولقد كان من المفروض أن تسند مهمة التنسيق إلى أقدم العقداء . وفي هذه الحالة كانت تعود إلى العقيد صالح بوبنيدر ( صوت العرب ) الذي كان ذا تجربة واسعة في العمل السياسي منذ ما قبل اندلاع الثورة إذ كان من المناضلين البارزين في حزب الشعب الجزائري ومن العناصر الفاعلة في صفوف المنظمة الخاصة . إن عدم التجانس بين أعضاء الأمانة التنفيذية ،وعدم إيمان مجلس الثورة بالفكرة الحزبية قد نتج عنهما تكتل جهوي لا علاقة له بالتنظيم الحزبي في مستوى مختلف أقسام الأمانة التنفيذية وهو الأمر الذي حال دون التمكن من تنظيم القواعد الذي هو شرط لا بد منه لعقد المؤتمر الوطني . 3 - ظهور التمرد الصريح ، أحيانا ، لدى بعض المنظمات الوطنية التي فضلت الارتباط مباشرة بأعضاء نافذين في مجلس الثورة متسببة ، بذلك ، في حرمان الحزب من وسائل ضرورية للتعبئة والتوعية والتجنيد . فالاتحاد العام للعمال الجزائريين ، مثلا ، كان ينسق مع رئاسة مجلس الثورة ولا يأخذ في الاعتبار ما يصدر عن الأمانة التنفيذية من أوامر . وكان الاتحاد الوطني للنساء الجزائريات يأتمر بأوامر وزير الداخلية الذي كان يحرض على عرقلة النشاط الحزبي لصالح الأجهزة الإدارية . 4 - وضع قطاعات التنمية بصفة عامة والقطاع الاقتصادي على وجه الخصوص بين أيدي عناصر معادية أو غير قابلة للحزب . ولقد وجدت تلكم العناصر سلاحا فتاكا في تصريحات رئيس مجلس الثورة التي تجعل منهم مناضلين بالقوة رغم عدم انخراطهم في صفوف الحزب ، ورغم عدم إيمانهم بمنظومة الأفكار التي تعمل جبهة التحرير الوطني على تجسيدها على أرض الواقع . كل هذه الأسباب وغيرها قادت ، بالتدريج ، إلى كهربة الأجواء بين أعضاء الأمانة التنفيذية ثم انعكس ذلك على القواعد الحزبية وأصيب الجهاز المركزي بالشلل وهو الأمر الذي جعل رئيس مجلس الثورة ينهي مهامها ويستبدلها بمسئول تنفيذي يكلفه بإعادة تنظيم القواعد المناضلة وتوفير الشروط اللازمة لعقد المؤتمر . كان ذلكم المسئول هو الرائد أحمد قائد المدعو "سي سليمان " عضو مجلس الثورة وعضو قيادة أركان جيش التحرير الوطني سابقا . كان "قائد أحمد " واحدا من المناضلين السياسيين ذوي المستوى الثقافي العالي الذين كانوا ينشطون على الساحة الوطنية قبل اندلاع الثورة . لقد كان عضوا قياديا في صفوف الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري ، وكان ، جراء ذلك ، يدرك جيدا قيمة التشكيلة السياسية في عملية إنجاح الثورة وإعادة بناء الدولة . لأجل ذلك ، وبمجرد تعيينه على رأس الحزب ، شرع في وضع خطة شاملة تهدف إلى إعادة الهيكلة بالكيفية التي تعيد ربط الجهاز المركزي بالقواعد النضالية وتوفر الشروط الموضوعية اللازمة لإعادة تأهيل هذه الأخيرة بحيث ترقى إلى مستوى المسؤولية الملقاة على عاتقها ، نظريا ، بموجب النصوص الأساسية . وعلى الرغم من أن " سي سليمان " كان محسوبا على " مجموعة وجدة " ، إلا أن الفاعلين في هذه الأخيرة لم يكونوا يرتاحون إليه بسبب ما كان يتميز به عليهم من ثقافة سياسية واسعة وتمسك بمرجعية فكرية تشبع بها خلال سنوات النضال في الفترة السابقة لاندلاع الثورة ، ومن روح وطنية مشفوعة برباط متين يشده إلى الجماهير الشعبية الواسعة . ولأنهم لم يكونوا يرتاحون له، فإنهم دفعوا إلى تعيينه على رأس الجهاز المركزي للحزب حتى يبعدوه عن جميع المناصب الحساسة في الدولة . فعلوا ذلك ، لجهلهم بقيمة التشكيلة السياسية في ضمان استمرارية الثورة . ولو كان لديهم مثقال ذرة من الإيمان بالفكرة الحزبية لآزروا رفيقهم الذي كان يملك من المؤهلات ما يسمح له بإعادة قطار الثورة إلى سكته الطبيعية . ولقد كان المسئول الجديد يدرك حقيقة بقية " مجموعة وجدة " ، ويدرك ، كذلك ، أن وكيل الزعيم الكبير منحاز إليهم ومؤيد لهم في تغليب الإدارة على الحزب . وعلى الرغم من ذلك ، فإنه لم يستكن وبدأ ، رغم كل العراقيل ، يتحرك بقوة من أجل إيجاد الآليات اللازمة لإعادة تنظيم الحزب وليس جهاز الحزب ، ومن أجل توفير المادة الغذائية الضرورية لتكوين المناضلين وإعدادهم للقيام بدورهم في مجالات التوعية والتوجيه والرقابة . في هذا الإطار ، أصدر وثيقة مقتضبة لتعميم الأسس التي يجب أن تنبني عليها جبهة التحرير الوطني حتى تبقى مؤهلة لقيادة ثورة نوفمبر . وكانت أهم تلك الأسس هي الالتزام والمركزية الديمقراطية والديمقراطية المباشرة . لكن رئيس مجلس الثورة ، الذي كان شديد التأثر بوزير الداخلية ، تدخل بسرعة لتمييع العملية بواسطة الدعوة إلى أن النضال ليس من خاصيات الحزب " الذي هو فكرة وعقيدة وفلسفة وليس أشخاصا " . ومن ثمة صار يستغل جميع المناسبات الوطنية ليردد أن " الوزير مناضل ومدير المعمل مناضل والضابط في وحدته مناضل والشرطي مناضل والمزارع مناضل والذي يمثلنا في الخارج مناضل " ، وكأنما النضال مرتبط بمنصب ، وكأنما المنصب هو الذي يجعل من المواطن مناضلا . والحقيقة أن مثل هذه التصريحات هي التي حالت دون النجاح في تكوين تشكيلة سياسية قوية ، وساعدت "بقايا الجزائريين الأهالي" على الاحتماء ببرنس جبهة التحرير الوطني لإعادة الربط مع الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط والعمل ، بكل أمان واطمئنان ، على إجهاض الثورة وإعادة البلاد إلى الوضع الذي كانت عليه قبل اندلاع ثورة نوفمبر . وعلينا الاعتراف ، اليوم ، بأنهم نجحوا رغم أننا ما زلنا نقول ويقولون بأفواههم معنا : " المجد والخلود للشهداء" . إن " سي سليمان " لم ينجح في تأدية مهمته ، غير أن ذلك لا يمنعنا من القول إنه استمات في المقاومة وحاول ، بكل ما يملك من طاقة ، كسر الحواجز المانعة من التقدم في طريق بناء حزب قوي بمناضليه ، ولما حوصر من كل جهة ولم يقو على المواجهة فضل الاستقالة واختار المنفى خارج الوطن الذي كان واحدا من المناضلين الأساسيين في سبيل تحريره . وشكل الحدث ، في وقته ، صدمة هزت ما بقي قائما من أركان مجلس الثورة ، وتسببت ، شيئا فشيئا ، في جعل وكيل الزعيم الكبير يعيد النظر في مسألة الحزب وينتبه إلى ضرورة إعطائه أولوية الأولويات لكن الله لا يخلف الميعاد.