تُعدّل "أكيب" من جلسة ابنها الرضيع "محمد شفيع" بيدها اليمنى، وتزحزح كرسيها بيسراها إلى الخلف، بحثا عن مكان به ظل تحت خيمة كبيرة نُصبت على جنب طريق عام بمدينة كلانتن شمال ماليزيا. "أكيب" حضرت مع 52 عائلة روهينغية أخرى لتلقي مساعدات إنسانية أغلبها مواد غذائية من أرز وطحين وعدس وملح وسكر وغيرها.. لم تكن المظلات المنصوبة لتكفي هذا العدد المهول من اللاجئين.. فعمد البعض إلى الاستنجاد بظل أشجار قريبة، أو الجلوس عند عتبة مركز إيواء تبرع به محسن ماليزي للاجئين.. كل الحاضرين هنا من الفارّين من جحيم الإبادة العرقية الحاصلة ببورما ميانمار.. منهم من ساعفه الحظ ووصل إلى ماليزيا مع أسرته، وكثير منهم فقدوا عائلاتهم بعد قتل أو حرق.. "أكيب" ذات ال21 سنة، نجت من محاولة حرق قبل سنة ونصف من الآن بقرية "إسلام خالدة" بإقليم أراكان المضطهد.. تروي ل"الشروق اليومي" كيف دفعها أبوها إلى الهرب بعد قتل أمها واثنين من إخوتها (نورييغم 11 سنة وسيف 10 سنوات). تغالب "أكيب" دمعتها وتقول: جاء أفراد من الجيش البوذي إلى والدي وطالبوه بإعطائهم أغناما ومزروعات ملكنا، وحين رفض ضربوه وأهانوه، وبعد فترة أحرقوا بيتنا، فتوفيت أمي واثنان من إخوتي، ونفقت بعض المواشي.. تضيف: "بقريتنا 150 بيت، لم تبق بها حين فررت إلا 20، ولا أدري ما حل بها الآن". سألت "أكيب" عن سبب عدم مساعدة شباب القرى الأخرى المجاورة لكم، فأوضحت أنهم "ليسوا أحسن منا، ثم إن الجيش وبمرافقة عصابات بوذية تمنع السكان المسلمين من الانتقال من قرية إلى أخرى إلا بعد تحقيق وإهانات"..
قتل وتهجير وغموض ويعيش أغلب سكان "أراكان" المسلمين على الزراعة وتربية المواشي.. وقد انتشرت بمواقع التواصل الاجتماعي وبعض التلفزيونات في السنوات الماضية فيديوهات لما قال ناشروها إنه صور مذابح للمسلمين الروهينغيا. ولم يكن الكثير في العالم ليصدقوا تلك الفيديوهات لبشاعتها من جهة، ولعدم ورودها من مصادر ذات ثقة، فقوبلت العديد منها بالتشكيك.. لكن في الفترة الأخيرة، طغى ملف اللاجئين الروهينغيا على الأحداث في العالم الإسلامي، وتوالت روايات اللاجئين عما تعرضوا له، في ظل عدم سماح السلطات البورمية للإعلام بالوصول إلى تلك الأقاليم، إلا ما ندر. ومنذ سنوات طويلة، بلغ عدد الروهينغيا اللاجئين إلى نحو 1.5 مليون مسلم، من أصل 2,8 مليون نسمة بإقليم أراكان.. وتشير بعض الإحصاءات إلى بقاء أقل من 300 ألف شخص فقط هناك. ويقيم أغلب اللاجئين الروهينغيا ببنغلادش، حيث يعيشون في ظروف أسوأ مما يعيشها البنغال السيئة أصلا. ويصل آخرون إلى تايلند وإندونيسيا وماليزيا، في رحلة موت أخرى عبر البحر من خلال سفن يملكها البوذيون أصلا..
إلى المجهول.. عبر البحر تقول "أكيب": تركت ما تبقى من عائلتي وهم أبي وثلاثة من إخوتي الذكور بقرية "إسلام خالدة" وركبت البحر وحدي في سفينة صغيرة كان بها نحو 200 شخص من مختلف الأعمار.. تضيف: "قضينا في السفينة 3 أشهر حتى وصلنا إلى سواحل ماليزيا.. كان صاحب السفينة ومعاونوه البوذيون يسلموننا رغيفا واحدا كل ثلاثة أيام، فنأكل ما مقدراه كف من الرغيف في اليوم رغم أننا دفعنا عنها 7 آلاف رينغت ماليزي (نحو 35 مليون سنتيم جزائري). وتابعت قبل أن تنفجر بالبكاء: "بعض الشباب ممن احتج على المعاملة كانوا يرمونهم في البحر، وكانوا يذلوننا سواء رجالا أم نساء". طلبت من المترجم الحاج علي أن يسألها إن كانت تعرضت لاغتصاب أو محاولات تحرش".. لكنها رفضت الكلام.. من يرى "أكيب" يعتقد أنه يكلم سيدة على مشارف الأربعين من عمرها، من ثقل نبرة صوتها، ورصانتها في الحديث، وهدوئها في الإنصات.. وقد التقت في معسكر اللاجئين في كلانتن بشاب روهينغي، تزوجا وأنجبا قبل خمسة أشهر "محمد شفيع". سألت "أكيب": كيف تشعرين وأنت هنا بعيدة عن أهلك؟ تنهدت وقالت بعد برهة صمت: "عندي أمنية: أن يُعلن على الجهاد في أراكان فأعود إلى بلدي.. لوهلة ظننت أن المترجم قد تكلم بلسانه ولم يترجم حرفيا ما قالت "أكيب"، فحاولت أن أتأكد بسؤال آخر "ومحمد شفيع لمن تتركينه؟". قالت: "سيجد من يعلمه ويتكفل به، فهو هبة الله، والله لا يضيع خلقه"!! تركت "أكيب" على آخر هذه الكلمات التي وجدتها غريبة من امرأة شابة لا تزال ترضع ابنها.. لكن بالتجول بين العائلات، وجدت أن هذا الشعور منتشر بين الشباب خاصة، ممن ضاقوا ذرعا من حالهم ومن بعدهم عن أهلهم، وسماعهم لأخبارهم المؤلمة بين الحين والآخر.. كل من التقيناهم في كلانتن، إلا لهم قريب إما مقتول أو مصاب أو لاجئ.. وتتوالى الروايات هنا عن إصابات في الظهر أو في الأطراف ممن نجوا من الذبح أو الحرق!!
أعمال إغاثية مؤسسة في ماليزيا، التي تتحمل عبء 120 ألف روهينغي، تمنع الحكومة اللاجئين من الدراسة في مؤسساتها التعليمية.. لذلك تُلحق بعضُ العائلات أبناءَها بمراكز متواضعة شيدها محسنون، لمحو أميتهم فقط.. وبالرغم من أن أكثر المساعدات العالمية تتوجه إلى بنغلاديش، إلا أن هناك مؤسسات أخرى تفضل العمل بماليزيا. في كلانتن، التقينا بالدكتور محمد فؤاد أبي سارة المدير العام لمؤسسة relief4life العالمية، التي وزعت المساعدات على اللاجئين. أبو سارة شاب مصري على مشارف الأربعين من عمره، يعمل بمجال الإغاثة منذ 13 سنة.. سألته عن سبب اختيار ماليزيا بدل بنغلاديش، فقال إن: أغلب المؤسسات والهيئات العالمية العربية منها والغربية، والأفراد، يتوجهون إلى هناك لتوزيع المؤن. لكننا نحن، يضيف، لنا رؤية مختلفة: "فالمؤن والمساعدات الغذائية أمر جيد، لكن الأهم منها هو بناء الإنسان الروهينغي، الذي حُرم من التعليم والكفالة والإيواء". وأضاف: "أحصينا 2000 طفل في عمر الدراسة بولاية كلانتن وحدها، يدرس منهم 50 طفلا فقط و7 بنات". وكشف أبو سارة أنه في المؤسسة، بدؤوا يبنون مراكز ووضعوا مناهج تعليمية للأطفال على ثلاثة أطوار: بين 6 و8 سنوات، ويبن 8 و14 سنة، وبين 14 و16 سنة، عبر تدريسهم لغتهم الأصلية والعربية والإنكليزية والحساب والكمبيوتر والأحياء وغيرها. وتبلغ تكلفة مركز واحد لمدة سنة لإيواء وتعليم وإعاشة 50 طفلا 100 ألف دولار (نحو مليار ونصف مليار سنتيم).
التعليم قبل الأكل ووجه أبو سارة نداء إلى الميسورين في العالم بأن يتضامنوا مع هؤلاء اللاجئين بكفالة هؤلاء الأطفال خاصة، عبر التبرع لحساب المؤسسة أو المشاركة مباشرة بذلك، لاستكمال بناء 20 مركزا بماليزيا وحدها.. وعند توزيع المساعدات، لفت انتباهي خروج أطفال بين 6 و10 سنوات، من مركز الإيواء بلباس عربي. سألت أبا سارة فأوضح أنهم أطفال روهينغيا منهم من ولد هنا بعد فرار والديه من سنوات، ومنهم من هرب مع أحد والديه، ومنهم من قذفه أبوه في السفينة مع جاره أو أحد معارفه ليخرجه من إقليم أراكان فرارا من الموت. ويحفظ العديد من هؤلاء الأطفال أكثر من 30 حزبا من القرآن، رغم أنهم جاؤوا لا يعرفون حروف الهجاء أصلا.. ويعتقد أبو سارة أن مسألة أراكان ستحل عاجلا أم آجلا، لذلك من الضرورة أن نعلم من الآن من يدافع عن قضيته. وصادفنا عند دخولنا المركز معلم هؤلاء الأطفال "الشيخ شمس".. الذي سألناه: أيهما تفضل دفع المال للغذاء أم للتعليم؟ فأجاب دون تفكير بعربية ركيكة "التعليم، فالرزق مكفول من رب العالمين".
بترول أم مسلم؟ وبحكم خبرته في الملف، سألنا الدكتور محمد فؤاد عن رأيه فيما يروّج من أن قضية التهجير سببها اكتشاف البترول مؤخرا في إقليم أراكان. ويرفض الدكتور هذا الطرح إطلاقا، "ذلك أن قضية الروهينغيا بدأت قبل اكتشاف النفط أصلا". وأضاف ل"الشروق اليومي": يعاني هذا الشعب من اضطهادات ليست وليدة اليوم، بل منذ 1942 حيث وقعت أولى المذابح هناك، وراح ضحيتها عشرات الآلاف من عرق الروهينغيا المسلمين. وأوضح أبو سارة أنه بين 1962 و1991 تعرض عرق الروهينغيا بخلاف الأعراق الأخرى التي تسكن أراكان غير المسلمة، لحملات تهجير متتالية.. وبلغت أوجها منذ 2012 إلى اليوم. وتتطابق هذه الرواية مع رواية صديق أوروبي التقيته عند الرجوع إلى كوالالامبور، عاد لتوه من بنغلاديش، وتحفظ عن ذكر اسمه. الصديق وهو دبلماسي أوروبي يعمل بمؤسسة أوربية رسمية اشتغل في العديد من ملفات اللاجئين بأفغانستان والبوسنة وغيرها من مناطق الصراع. المصدر يؤكد إحصاءه عشرات الحالات للروهينغيا "المضروبين في الظهر بالسواطير".. ويتحدث عن "صدمته" مما رآه وسمعه ووثقه، رغم خبرته في ملف اللاجئين. وقد أراني فيديوهات تحصل عليها، لحالات قتل وذبح نساء روهينغيات، اعتذر عن تسليمها إلي لالتزامه مع هيئته، فيها من البشاعة الشيء الكثير، باستخدام سيوف وسواطير في قطع الأطراف المكبلة قبل الذبح، أو رمي "الأسيد" على المناطق الحساسة بالجسم وغيرها.. يعتقد المصدر أن قضية الروهينغيا هي "مؤامرة صينية بورمية تايلندية".. ذلك أن هذه الدول بها أقليات مسلمة.. ويعاني عرق الإيغور بالصين من اضطهادات متتالية من الحكومة المركزية.. كما هي حال المسلمين بجنوب تايلند، حيث كانت مملكة "فطاني" المسلمة، غير مستقرة وعلى خلاف كبير مع الجيش، حيث تندلع بين الفينة والأخرى اضطرابات.. بالنسبة إلى المصدر، فهو يتنبأ بأن تكون هذه البؤرة من العالم منطقة مواجهات دامية، ولا يستبعد أن تنشأ قريبا جماعات مسلحة "تكون بديلا لداعش في الاهتمام العالمي" حسب تعبيره!!