في عمودٍ سابق توقفتُ عند "الانقلاب الجيو استراتيجي" الذي نراه يقلِّب موازين القوة، ويعيد تركيب التحالفات في الشرق الأوسط لغير صالح القوى الغربية وأدواتها في المنطقة، وكان حريًّا بي أن أنقل القارئ إلى تلمُّس الانقلاب العظيم الحاصل في ميزان القوة بين الإسلام وخصومه على رقعة الشطرنج التي يتحرك فيها المسلم بالأصالة عن نفسه في ساحة مواجهةٍ استثنائية لا يمتلك فيها خصوم الإسلام سلطة الردع بما يمتلكونه من تفوُّق تقني علمي اقتصادي وتكنولوجي. حضور العالم الإسلامي سوف يكون في هذه المنازلة اقتصاديا بلا شك، ليس فقط بالنظر إلى ثرواته الطبيعية الهائلة، ولكن بالنظر إلى ما يتحقق بالفعل من نموٍّ للدخل القومي الخام، حيث تفيد تقديرات صندوق النقد الدولي لنمو الدخل القومي الخام لعشرين اقتصادا مرشحا لتصدُّر اقتصاد العالم نهاية العشرية الثالثة، إلى أن رُبع القائمة هو من العالم الإسلامي (اندونيسيا وتركيا والسعودية ونيجيريا والجزائر) مجموع دخلها القومي يضعها في الثلاثي المتصدِّر لقائمة العشرين. الحضور سوف يكون أيضا على مستوى النمو الديموغرافي الذي يُعتمد أساساً لتقدير فرص تجديد الحضارات ونماء نفوذها الثقافي وقوتها الناعمة، حيث تقول الدراسات أنه لا فرصة لتجدد الحضارات لنفسها مع نمو ديموغرافي دون نسبة 1,9 وهي النسبة الممتنِعة اليوم في جميع المجتمعات المنافِسة للإسلام؛ إذ أن معدلات النمو الديموغرافي في الدول الغربية ودول البريكس مجتمعة يتراوح بين 1,1 و1,6 بلا أمل في تصحيح المسار. الحضور قائمٌ أيضا على مستوى نمو الثروة البشرية مع تعاظم فرص التعليم للمسلمين داخل الفضاء الإسلامي أو في الشتات بين أبناء الجالية المسلمة التي تنافس اليوم نظراءها الآسيويين في النماء والحيوية والابتكار، ونراها تنغمس أكثر فأكثر في أكبر وأعرق الجامعات ودور الدراسة والأبحاث، مع توافد دفعات من أبناء البلد من معتنقي الإسلام بعد إحداث 11 سبتمبر 2001. غير أن الحضور الأخطر هو بلا ريب الحضورُ الديني والروحي عبر ما يحققه الإسلام كدين من نمو خارق في القارات الخمس، بأدوات أهلية صرفة، وفي ظروف عدائية غير مسبوقة، هي ما ترونه من شطط وجنون عند رعاة الاسلاموفوبيا، يتعاظم حين تصعقه الإحصائيات بالقول: إن ثلاثة أرباع معتنقي الإسلام في الغرب وفي الفضاء البوذي والهندوسي هو من النساء، هن من بدأن يمنحن للإسلام حضورا مرئيا عبر إصرارهن على ارتداء الحجاب. والحال، كيفما كان تصاعد العداء الغربي للإسلام، ومهما كانت نتائج معارك الهدم والتخريب التي يتعرَّض لها، وأيا كانت حالة تسفُّل النخب الحاكمة فيه وفسادها، وسواء عادت الغلبة لدعاة ما يُسمى بالنظام العالمي الجديد أو مالت الكفة لدعاة عالم متعدد الأقطاب، فلا أحد منهم يستطيع فرض قواعد لعبة جديدة تقصي العالم الإسلامي، أو تتجاهل ثقل وحجم حضوره كما حصل في أعقاب الحربين العالميتين. ويكفي خصوم الإسلام أن يعتبروا بهذه المعادلة الكاشفة الرهيبة: إنه في الوقت الذي كانت الحضارة اليهودية المسيحية التي ينتسب إليها الغرب في الشرق والغرب تحصد مئات الألوف من أرواح الأبرياء في العالم الإسلامي نحتسبهم أحياء عند ربهم يُرزقون كان الإسلام ينقذ أرواح عشرات، بل ومئات الألوف من أبناء الحضارة الغربية الضالة، يُخرجهم من الظلمات إلى النور على يد جيل رائع من الدعاة الشباب من أبناء الغرب من الجالية المسلمة ومن العائدين إلى دين الفطرة من ذوي الأصول الغربية.