عندما يدور الحديث حول السرقات العلمية في الجزائر، تعوّد القوم الاقتناع بالتهمة وتصديقها كلما سمعوا بأن أحد الجامعيين الجزائرية متهم بسرقة علمية لأن الاعتقاد السائد هو أن ذاك هو حالنا وحال جامعاتنا. والواقع المرير أن السرقات العلمية صارت أمرا منتشرا في جامعاتنا بشكل لا يطاق يُلزِم السلطات باتخاذ الإجراءات الصارمة والعاجلة لمحاربتها. كما انتشرت السرقات العلمية أيضا في كثير من الجامعات عبر العالم حتى أن بعضها في الغرب أصبحت تطلب ممن سيناقش أطروحته أن يدوّن في صفحتها الأولى شهادة يتم التعبير فيها عن أن العمل المقدمَ شخصيٌ ولم يسبق نشره في أي مكان باسم آخر. وكنا منذ مدة أشرنا في مقال نشر في هذه الصفحة يبيّن مدى اتساع عمليات السرقات العلمية في دول نعتقد أنها في منأى عنه، كألمانيا. بداية الإساءة غير أن تعميم القول بأن الجامعي الجزائري يميل إلى سرقة أعمال الآخرين أكثر من غيره حكم فيه ظلم لا يحتمل. نودّ هنا الإشارة من دون ذكر الأسماء، كي لا نحرج أحدا، إلى واقعة حديثة يندى لها الجبين. كان باحث فرنسي في الرياضيات من جامعة فرنسية -نرمز إليه بالحرف (ف)- نشر مقالا عام 2005 في مجلة عالمية، ثم نشر زميل جزائري -نرمز إليه ب (ج)- من جامعة جزائرية بالتعاون مع زميل له بالخارج، مقالا في مجلة عالمية أخرى عام 2008. سنعود إلى هذين المقالين أدناه. ثم واصل الجميع نشر أعمال أخرى في مجلات مختلفة. وفي عام 2010 تقدّم (ج) وزميله بمقال للنشر لمجلة عالمية تصدرها مؤسسة ألمانية شهيرة. وبعد التحكيم نُشر المقال في تلك المجلة وعندئذ اشتكى الباحث (ف) بالباحث (ج) لدى المجلة بحجة أن جزءا (على الأقل) من المقال ليس من عمل (ج). وبعد أخذ ورد قررت المجلة سحب المقال المذكور من موقعها، تفاديا للنزاعات، معلنة لقارئ الموقع أن السبب هو "نزاع في حقوق التأليف"! وإذا صدقنا هذه الحجة فهذا يعني أن الأستاذ (ف) نسب لنفسه جزءا هاما من المقال (ج) إن لم يكن المضمون كله. ذلك أن المكانة المرموقة التي يتمتع بها الأستاذ (ف) لا شك أثّرت في طاقم المجلة التي نُشر فيها المقال. وهذه العملية تعتبر ضربة قاسية في حق صاحب المقال (ج)، وهي طريقة تلجأ إليها المجلات حاليا لمعاقبة من سرق عمل غيره. كان ذلك عام 2011. وكنا نعتقد أن الأمر توقف عند هذا الحد غير أن الأيام أظهرت أن الأستاذ (ف) تمادى في الاتهام. أصيب الأستاذ (ج) بنكسة قوية آنذاك (عام 2011) وحاول الدفاع عن أصالة نتائجه بكل ما أوتي من قوة. فمثلا كان راسل فرنسيون وجزائريون وأمريكيون من نفس الاختصاص لتوضيح أن ادعاء الأستاذ (ف) باطل بالحجة الرياضياتية. ورغم ما وقفنا عليه من الردود المتعاطفة لهؤلاء مع الأستاذ (ج) لم تكن لأحدهم الشجاعة الكافية ليقول بصوت عال أن هذا باطل. نشير إلى أن قاعدة البيانات الأمريكية الخاصة بالرياضيات تبيّن أن الأستاذ (ف) نشر لحد الآن 61 مقالا، والأستاذ (ج) الأصغر منه سنا نشر 36 بحثا، أما المتعاون معه فبلغ إنتاجه 48 مقالا، وقد بدءا النشر في نفس السنة، ما يعني أن كل هؤلاء يبذلون جهودا متواصلة في النشر والبحث العلمي. حُكم اللجنة الأوروبية كنا تأسفنا كثيرا عام 2011 لهذه الحادثة ولِما لحق بهذا الزميل من الأذى بسبب الصدمة النفسية المجانية التي واجهها من جراء عدم تفهم الأستاذ (ف) وطاقم المجلة الألمانية. ونسينا الموضوع بمر السنين. لكن المفاجأة عادت هذه الأيام عندما اطلعنا على تقرير مُوقّع يوم 17 أكتوبر 2017 من قبل لجنة الأخلاقيات في اتحاد الرياضيات الأوروبي. والمفاجأة كانت لأن التقرير جاء للبت في شكوى خاصة بالموضوع المشار إليه أعلاه. كنا ظننا لأول وهلة أن الشكوى قدمها الأستاذ (ج) ضد الأستاذ (ف) إثر ما أصيب به من ضرر معنوي. لكن ما تبيّن في التقرير هو العكس: فقد وجّه الأستاذ (ف) شكوى للجنة الأوروبية يوم 13 أكتوبر 2016 ضد (ج) جاء فيها، حسب ما أورده التقرير الأوروبي على لسان الأستاذ (ف): "أواجه منذ عشر سنوات وضعية سرقات متكررة وسلوكات غير أخلاقية..."! يوضح التقرير الأوروبي في عرضه للشكوى أنه حتى لا تتشعب الأمور فقد ركزت لجنة الأخلاقيات فقط على مقالي 2005 للأستاذ (ف) و2008 للأستاذ (ج) وزميله. ويُفهم من ذلك أن المشتكي (ف) أشار إلى مقالات أخرى لم يرغب التقرير الخوض فيها على الرغم من أنه من المؤكد أنه اطلع على فحواها. يقول التقرير إن اللجنة نظرت في ما بلغها من الجانبين من وثائق، وأشار إلى أن المشتكي يؤكد أن (ج) لم يأت بجديد في مقاله (المقال "تعميم فارغ" حسب العبارة المستعملة)، وأن اللجنة قامت بالتحقيق في الجانب الرياضي، وأنها كلفت أيضا خبيرين خارجيين في الاختصاص. وبعد كل ذلك التحقيق الذي دام سنة كاملة قدم التقرير حكم اللجنة النهائي في نقطتين جاء فيهما حرفيا ما يلي: "أولا: لا نحن (أي اللجنة الأوروبية) ولا الخبراء (الخارجيين) وجدنا سرقة بديهية في المقال (ج). "ثانيا: لا نحن (أي اللجنة الأوروبية) ولا الخبراء (الخارجيين) نعتقد أن نتائج المقال 2008 تعميم فارغ لمقال 2005" ثم قدم التقرير الدليل على أن التعميم "ليس فارغا" مع الإشارة (في نقطة ثالثة) إلى وجوب الإشارة في الصفحة الرابعة من المقال (ج) إشارة أكثر صراحة إلى حالة خاصة جاءت في المقال (ف). وتختتم اللجنة تقريرها بعبارة مفادها أنها لن تعود إلى هذا الموضوع مرة أخرى، وكأنها تتوقع أن الجدل سيظل قائما من قبل المشتكي (ف) فأغلقت الباب نهائيا لأي احتجاج أو طعن. عندما ينظر المرء إلى هذه القضية، وإلى تصرف الأستاذ (ف) ذي المكانة المرموقة أوروبيًا وتماديه في الإساءة إلى الأستاذ (ج)، يتساءل لماذا هذا التحامل؟ هل الأستاذ (ف) بحاجة إلى إثارة هذه القضية ويتابعها خلال سنوات -وكأنها قضية حياة أو موت- لإحقاق حق؟ لا نظن ذلك أبدا! هل لَحِق بالأستاذ (ف) ضرر... حتى لو حدثت سرقة فعلا من هذا القبيل؟ لا، أبدا! هل هو احتقار للآخر؟ ربما يكون هذا أحد الأسباب! نحن لا ندري ما هي الأسباب التي دفعت به إلى هذا السلوك، ورغم ذلك نعتقد أن أدنى ما يقال في هذا التحامل إنه ملاحقة نتنة ليس للرياضيات ولا للرياضياتيين المحترمين ناقة فيها ولا جمل!