اختتمت، بداية هذا الأسبوع، فعاليات الملتقى الثالث للكفاءات العلمية الذي تنظمه مرة كل عام جمعية "الأمل والنجاح" في ولاية غرداية، تحت رعاية وزارة الثقافة وبمشاركة المجلس الشعبي الولائي. وكان الملتقى سانحة لمعالجة موضوع الثقافة في علاقتها بالمجتمع من جهة، وبمسارات النمو في أبعاده المختلفة. فهل أصاب المنظمون في ملتقاهم الهدفَ؟ وهل تشكل الثقافة فعلا محورا تنمويا؟ وما حاجة السياسات الوطنية في مجال النمو الى المكوّن الثقافي؟ وهل يشكل هذا المكون حقا شرطا للإقلاع، خاصة في منظور الاقتصاد الوطني؟ موضوع الموارد البشرية قال مدير المعهد القومي الأمريكي للصحة، هارولد فارموست: "هناك ثلاثة محاور رئيسة للعلم في القرن الحالي هي: الذرة، الكمبيوتر والجينات". وبالفعل، فالعالم مقبل على جولة أخرى للمعرفة، تتسم بتدخل الابتكار العلمي في كل شأن من شؤون حياتنا الاقتصادية، من مرحلة الإنتاج إلى التسويق إلى الدفع. وفي العام 2020 يرتقب العالم بروز الجيل الأول من الآلات الجزيئية التي تسمى "الأنظمة الإلكتروميكانيكية الدقيقة"، حيث يمكن لهذه الآلات أن تحدث ثورة في عدة حقول، ومنها الحقل الانتاجي، من خلال خفض تكاليف صنع الآلات إلى مستويات لم تبلغها من قبل. وفي هذا الاتجاه، يأتي التحضير لجيل الموارد البشرية التي بإمكانها استيعاب تحديات القرن الحالي، ليس في جانب التقنية العالية التي تشكل محور الإبداع فقط، بل في جانب الثقافة أيضا، حيث تلعب التحيّزات الثقافية من اللغة والدين وأعراف المجتمع دورَ "الشرط النفسي" لتحقيق "الإمكان". فكثير جدا من المنتجات التقنية تفقد قيمتها في غياب الشروط النفسية التي تسمح بتحويلها إلى منتوج اجتماعي، وكثير جدا من منتجات الثقافة تتحول إلى مخزون من التاريخ، في غياب شروط التحول إلى أدوات للإنتاج والنمو والتقدم، أي إلى شروط الإفادة من العلم الذي نتابع تطوره بإعجاب. زار خبير ياباني محلا لعرض الزرابي اليدوية في مدينة جزائرية، ولفتت نظره تلك الرسومات المنسوجة بطريقة تركيب الألوان، فسأل عن مصمم تلك الرسومات، فقيل له نساء ينسجن الزرابي التقليدية في المنازل، فقال: نفس المرأة التي صممت هذا الرسم يمكنها تصميم قطع "الدوائر المندجة" في الأجهزة الالكترونية. حقا هناك خيط رفيع بين الثقافة والتكنولوجيا العالية في حالة التقدم، وحالة التخلف وحدها هي التي تثير المفارقة بين التحيّزات الثقافية من جهة، والنمو من جهة ثانية. الشروط الثقافية للإقلاع: اللغة عنصرا أثار المشاركون في ملتقى الكفاءات الثالث بولاية غرداية، موضوعا مهما هو "التأصيل الشرعي للثقافة" وكيف يمكن للثقافة أن تتخلص من شوائبها على محك المرجعية الدينية، وتبيّن من خلال طرح وتفكيك الإشكالية، أن الإسلام يبارك المنتجات الثقافية البناءة، والتي لا تعارضها نصوص الشريعة وتكون في مستوى تقدم المجتمع لا تخلُّفِه، وبات واضحا بين يدي المشاركين أن الدين يخدم التقدم والحضارة ويدفع للابتكار، ويشجع الفكر النابض بالإيمان، ويحمي الملكية الفكرية. كما أثار المشاركون إشكالية اللغة في علاقتها بالنمو، وأنها عنصر ثقافي مهم يشكل أحد شروط الإقلاع، فضلا عن دورها التقني في التواصل والتعبير. إلا أن إشكالية التقدم منحت للغة الوطنية الأسبقية الثقافية عن وجهها التقني في تحقيق الإقلاع، لأنها واحدة من المحددات النفسية للمجتمع. فلم يتقدم شعب واحد في العالم بغير لغته، وكل الشعوب التي أهملت لغتها الأم في مسارات الاقتصاد التطبيقي تأخرت عن الركب العالمي وغرقت في الفجوة التكنولوجية. وفي المحتوى الجزائري، من الصعب أن نفهم كيف وصلت فرنسا إلى أن تشكل فيها المعرفة نسبة 20 بالمائة من القيمة المضافة في الاقتصاد، و24 بالمائة من الصادرات، بينما لا تساوي هذه النسبة شيئا يذكر في حالة الاقتصاد الجزائري، مع أن لغة الإدارة والاقتصاد في كلتا الدولتين واحدة، أي اللغة الفرنسية. من الصعب أن نفهم كيف يحدث ذلك في حدود اللغة التقنية، ويصير الأمر سهلا عندما نفهم اللغة كمنتوج نفسي لتحقيق النمو، ويصير الفهم أسهل عندما نتأمل في التجربة اليابانية والصينية والهندية والتركية، حيث لم تنتقل هذه الدول إلى مرحلة النشوء، وبعضها إلى مرحلة التقدم والرفاه، إلا في اللحظة التاريخية التي استوعبت فيها الشروط النفسية للإقلاع، ومنها الشرط اللغوي. ولذا تقدمت فرنسا وسجلنا نحن علامات بارزة في تاريخ التخلف. المجتمع وميزان مدفوعات التكنولوجيا الحديث اليوم، في سياق البحث عن شروط النشوء والإقلاع، تجاوز خانة التكنولوجيا البسيطة إلى التكنولوجيا العالية، ونفس الشيء بالنسبة للمعرفة التي تجاوزت حدود التعليم إلى خواتيم المعرفة. ونعني بخواتيم المعرفة مناطقَ التفوق التي هي الذرة والجينات ونظم المعلومات، وهي نفسها المناطق التي ترشح لنا المنتجات واسعة المحتوى المعرفي، والتي من شأنها تحديد أحجام الأسواق ومستويات تكاليف الإنتاج مستقبلا. ويشكل مفهوم (ميزان مدفوعات التكنولوجيا) أحدث مفهوم في مجال الابتكار التكنولوجي على الإطلاق، ويعني ذلك: تدفق الأموال الناتجة عن الملكية الفكرية بين الدول، وهو مفهوم ملامس لإنتاج التكنولوجيا، ويشرح التوزيع العالمي لمنتجات التقانة، ويعبر عن التنافسية في مجال الابتكار التكنولوجي، ويشمل بيانات: الملكية الفكرية، المساعدات الفنية، خدمات الإدارة والماركات العالمية والإجازات. وتعني التطبيقات الاجتماعية للتكنولوجيا معالجة المشكلات ذات البعد الاجتماعي مثل: الأمية، البطالة، الفقر، انخفاض الدخل، ومن ثمة القدرة الشرائية للسكان وتدني مستوى الإنتاجية. مشكلات ماتزال تشوش على خطط التنمية في المجتمعات المتأخرة، وتدفع إلى البحث عن الحلول خارج حدود الثقافات الوطنية، وهناك يكمن الخلل. اختتم الملتقى الثالث للكفاءات العلمية أشغاله لهذا العام، وفي الأذهان سؤال استفهام كبير: هل يكشف المستقبل القريب للجزائر عن نموذج جديد للتنمية قائم على الثقافة الوطنية وعلى المعرفة؟ أم إن تجربة الاقتصاد القائم على النفط وعلى التبعية ستستمر؟ لا أحد يمكنه الإجابة باليقين اللازم في الوقت الحاضر...