أي منطق تحكم في هذا الخيار الغريب والفريد الذي يلزم اليوم أبناءنا من حملة شهادة البكلوريا تلقي العلوم باللغة الفرنسية في الجامعات، بعد أن أنفقوا ثلاث عشرة سنة من عمرهم في تلقي العلوم باللغة العربية؟ وهل يكفي رفع نسب النجاح بطرق مفضوحة لمنح شهادة النجاح للإصلاح وإبراء الذمة، إذا كان قد فشل في تمكين تلامذتنا وطلابنا من ملكة لسان سليم ولو بإحدى اللغتين؟ مع بداية الأسبوع يبدأ إعلان نتائج امتحانات البكلوريا التي سوف تتوج موسما دراسيا، كادت الاضرابات والاحتجاجات ترهنه، ومع ذلك جاءت نتائج شهادة السنة السادسة، وشهادة التعليم المتوسط بأفضل النتائج، وبنسب نجاح غير مسبوقة فاقت 66٪ في الثانية، وتشير بعض التقديرات إلى أن النتائج في شهادة البكلوريا سوف تكون الأفضل منذ بداية العمل بالإصلاح. صدقة جارية على ذمة إصلاح فاسد بداية تحسن النتائج منذ الموسم الدراسي 2008 2009 قد لا يعكس بالضرورة حصول تحسن في أداء المنظومة التربوية، بقدر ما هو ناتج عن تحسن في إدارة الامتحانات، والابتعاد عن الأسئلة التي كانت تمتحن ذاكرة التلاميذ، بدل قياس مستويات التحصيل والفهم. فقد أجمع التلاميذ وأولياؤهم، وكثير من الإطارات التعليمية، على أن الأسئلة كانت في الجملة، وفي الاختبارات الثلاثة، في متناول التلاميذ، خالية من الأخطاء الفاضحة المعتادة، وغطت بالفعل الدروس التي نفذت من المقرر، ومنح التلاميذ فرصة الاختيار بين الموضوع الذي يعتمد على الحفظ، والموضوع الذي يحتاج إلى الفهم، وكل ذلك ينبغي أن ينوه به ويحسب لصالح الوزارة ولإطاراتها. غير أن التقييم الحقيقي لنجاح الإصلاحات، والذي لم ينجز حتى اليوم على المستوى الرسمي، وبطرق علمية ذات مصداقية، يجريه أولياء التلاميذ كل سنة، عبر ما يلاقيه أبناؤهم من مصاعب عند الانتقال من طور إلى آخر، وتحديدا، عند الانتقال من الطور الثانوي إلى الطور الجامعي، حتى مع الأخذ بعين الاعتبار بالمستوى الجامعي المتدني أصلا. فباستثناء الطور الابتدائي، الذي يفي فيه التعليم بالحد الأدنى المطلوب، مع كل ما يعانيه هذا الطور من مشاكل، لها صلة بحالة الاكتظاظ، وضعف تدريب المعلمين وتأهيلهم بيداغوجيا، فإن المستوى يبقى مقبولا ما دام الأولياء يرون أبناءهم يكتسبون، ابتداء من السنة الثالثة، القدرة على القراءة والكتابة، وإنجاز العمليات الحسابية البسيطة، فباستثناء هذا الطور، فإن بقية الأطوار: المتوسط، والثانوي، والجامعي، قد شهدت مع الإصلاح تدني في المستوى يعرفه الداني والقاصي، قياسا مع المستوى في الأطوار الثلاث قبل بداية العمل بالإصلاح. الإصلاح الذي أفسد لسان أكثر من جيل ومن دون التفصيل في محتويات المقرر، في مختلف الشعب، أو المجادلة بشأن المناهج البيداغوجية، فإن القاسم المشترك الذي يشهد بفشل الإصلاح، وضعف التحصيل، وتدني مستوى خريجي الجامعة، له صلة بضعف مستواهم اللغوي، سواء بالنسبة للغة العربية، أو بالنسبة للفرنسية، التي سوف تكون في الجامعة لغة التدريس لجميع التخصصات العلمية، ولبعض تخصصات العلوم الإنسانية الخيار الذي اعتمد عند بداية العمل بالإصلاح، بالإبقاء على العربية كلغة لتلقين العلوم الدقيقة والتجريبية، دون بذل أي جهد من أجل تعريب التعليم العلمي بالجامعة، كان خيارا إجراميا في حق الطلبة، كما في حق الإطار الجامعي، فمن غير المعقول أن يطلب من الطلبة القادمين من الثانويات، وقد تحصلوا فيها على تكوين باللغة العربية في جميع المواد العلمية، أن يطلب منهم مباشرة تكوين جامعي في نفس المواد باللغة الفرنسية، وكأنهم بصدد الالتحاق بجامعة فرنسية صرفة. والواقع أن هذا ما يحدث بالضبط، حيث أن جميع الطلبة الناجحين، الذين سوف يلتحقون بكليات الطب والبيولوجيا، والهندسة بأنواعها، والتخصصات العلمية في الفيزياء والكيمياء، والرياضيات، وبفروع الهندسة المدنية والمعمارية، وما شابهها من فروع العلوم الدقيقة والتكنولوجيا، سوف يجدون أنفسهم أمام تحد مزدوج: التحدي الأول: التعرف على معارف جديدة أو على مستويات أعلى فيها، أما التحدي الثاني: فهو التعرف عليها بلغة لا يحسنونها، بل هم فيها أقرب للأميين منهم للمتعلمين، ذلك أن الأغلبية الساحقة من طلبة الثانويات، لا تجيد تحرير فقرة واحدة سليمة باللغة الفرنسية، حتى لا نقول بناء جملة مفيدة واحدة خالية من الأخطاء، ثم إنهم سوف يجدون أنفسهم مجبرين على التعامل مع كم هائل من المصطلحات العلمية في تخصصاتهم وكأنهم يسمعونها لأول مرة في حياتهم. البحث عن مجهول استباح لغة الأم وهذا يطرح على الوزارتين، الوصيتين على التربية الوطنية والتعليم العالي، أكثر من سؤال عن مسؤوليتهم المشتركة في التستر على واحد من أعظم معوقات تطور التعليم في بلدنا، وما نراه من تدني مخجل في المستوى عند خريجي الجامعات، القاسم المشترك فيه، وفي جميع الشعب العلمية، وشعب العلوم الإنسانية، هو ضعف المستوى اللغوي عند الطلبة، سواء تعلق الأمر باللغة العربية، التي يتواصل التعليم الجامعي بها في شعب العلوم الإنسانية، آو اللغة الفرنسية بالنسبة للعلوم، بما يعني أن الإصلاح قد أخفق بالكامل، حين أخفق في استغلال السنوات الثلاثة عشر، التي ينفقها أبناؤنا في التعليم الابتدائي والثانوي، لتمكينهم من تحصيل الحد الأدنى من ملكة اللغة، والتي هي عند جميع الأمم بوابة لكل تحصيل معرفي في أي فن من الفنون أو علم من العلوم، فهل يعول المسئولون عن قطاع التعليم على السنوات الأربع أو الخمس من التعليم الجامعي، لتدارك ما لم يدرك في مقرر الأطوار الثلاثة الأولى، المعنية بتحقيق الحد الأدنى من ملكة اللغة في مختلف المنظومات التربوية في العالم؟ الواضح أن الوزيرين هما على إلمام تام بمختلف جوانب هذا الوضع الكارثي، ولا يملكان له حلا، أو لأن له صلة بقرار سياسي، لا نعلم تحديدا من اتخذه، ومن شجع عليه، ولمصلحة أي جهة اتخذ، حين اتخذ قرار تعطيل مسار التعريب على مختلف المستويات، وتفطنت جهة وصية ما إلى أن وقف قطار التعريب يحتاج إلى الإجهاز على منظومة التعليم الأساسي، والتي كانت تغذي الأطوار العليا بتلاميذ قد أخذوا اللغة الأم من مقرر يعتمد على نصوص عربية فصيحة، تدرس بقواعد في النحو والصرف أصيلة، لم يكن قد سطا عليها الإصلاحيون بمنظومة من المصطلحات الغريبة عن قواعد اللغة العربية. وفي هذا السياق أتحدى المتعلمين من أولياء التلاميذ، من خريجي المدرسة الأساسية، إن كان بوسع أحدهم اليوم مساعدة أبنائه في كل ما له صلة بقواعد اللغة، من نحو وصرف وبلاغة، في اللغتين العربية والفرنسية، من جهتي أعترف أنني أحرجت مرارا أمام أبنائي في ما كان يعرض علي من مسائل في النحو والصرف والبلاغة، في لغة أتعامل بها ومعها منذ خمسين سنة. مهزلة المنزلة بين المنزلتين الوزارتان الوصيتان عن التعليم لا تملكان الحل، لأن الحل يحتاج إلى قرار سياسي يمتلك الشجاعة الكافية للمضي قدما في أحد الخيارين: الأول: يكون بالرجوع عن الخطيئة، والعودة إلى خيار استكمال سياسة التعريب، التي كانت قد خطت في السبعينيات والثمانينيات خطوات عملاقة، وكانت قد وقفت بنا على عتبة بداية تعريب التعليم الجامعي في الشعب العلمية، ويكون وقتها لزاما على وزارة التربية الوطنية، أن تراجع على الأقل مجمل الإصلاحات التي طالت مقرر اللغة بالنسبة للغة الوطنية، وحتى بالنسبة لمقرر اللغات الأجنبية الخيار الثاني: الاعتراف باستحالة تعريب التعليم الجامعي في الشعب العلمية على المديين المتوسط والبعيد، لأي سبب من الأسباب، ويكون لزاما عليها أن تعيد النظر في منظومة الإصلاح برمتها خاصة بالنسبة للشعب العلمية التي ينبغي أن يبدأ تدريسها بنفس اللغة التي سوف تدرس بها في الجامعة، وعندها يحق لنا أن نسألها بجدية عن مسوغات تفضيل اللغة الفرنسية، الغائبة اليوم عن حقول المعرفة، وعن البحث العلمي والنشر الأكاديمي، كما هي غائبة عن حقول التجارة العالمية، والتداول على شبكة الانترنت. لست متأكدا أن أصحاب القرار يمتلكون في هذا الوقت بالذات الشجاعة السياسية التي تسمح بترجيح الكفة لهذا الخيار أو ذاك، حتى وهم يشاهدون، مثلنا أو أفضل منا، ما يترتب عن هذه المنزلة بين المنزلتين من أضرار بالمنظومة التعليمية، وبأجيال متلاحقة من التلاميذ والطلبة، كما لا يمكن التعويل على مؤسسات البلاد المنتخبة لحمل الحكومة على تصحيح الخطأ، بعد متابعة النقاش الذي جرى بالمجلس الشعبي منذ يومين بين النواب ووزير التعليم العالي، يكفيني منه ما رأيته من تعتعة الوزير وهو يقرأ نصا مكتوبا، ورطانة المساءلة على لسان نواب تخرج بعضهم من قبل أن يولد أبناء وبنات هذه الدفعة من حملة شهادة البكالوريا. ما سمعناه من الطرفين يدعونا إلى المطالبة بإصلاحات أخرى أكثر إلحاحا من إصلاح المنظومة التعليمية، مع أهميتها وخطورتها، لأن البلد على ما يبدو بحاجة إلى ثورات جذرية تقطع دابر ذهنية الفكر الواحد التي نجت من زلزال أكتوبر، وأفلتت من التعددية السياسية والإعلامية، ولم تبدها العشرية الحمراء، حتى أن كل شيء كاد يسقط إلا هذه الذهنية الأحادية المقيتة، التي تمنع قيام مساءلة حقيقية، ونقاش شفاف ومنتج لفكر جديد، مبتكر لحلول مبدعة لمشاكلنا المتراكمة. البحث عن طاقة بديلة لتعليم كسيح فمن تعتعة وزير التعليم العالي وامتهانه المخجل لنص مكتوب، علمت وعلم النواب ، أن الجزائر صارت تحتل الرتبة الثالثة أفريقيا كما قال الوزير في العلوم الأساسية، والرتبة السابعة في الإليكترونيات والإعلام الآلي، وأن الجامعة تنتج سنويا أكثر من 17 ألف دراسة وبحث، وأن البحث العلمي جار على قدم وساق داخل أزيد من 800 مخبر، وأن جامعتنا قد أنتجت أول صفيحة شمسية، وطائفة من الإنجازات التي لا يراها سوى الوزير الوصي. كنت آمل أن يكون من بين النواب من يوقف السيد وزير التعليم العالي، على الأقل عند هذه النقطة تحديدا، ليذكره أن مسؤولا آخر فاضلا، كان قد أطل علينا منذ عشرين سنة خلت، في شخص السيد محمد غريب، وبيده صفيحة شمسية، زعم أنها خرجت للتو من مخابر مجمع الإليكترونيات بسيدي بلعباس، وقد علمنا لاحقا أنها محض أكذوبة، فقد اختفت الصفيحة والسيد غريب، ومعهما مركب الإليكترونيات. ولو أنه كان يمسك بدفة السفينة رجال دولة، يستشرفون ما لا تراه العامة، ويستشيرون الخاصة من ذوي الرأي والمعرفة، لكانت صفيحة السيد غريب قد انتقلت من محض ابتكار، إن صح ما ادعاه وقتها، إلى صناعة ندخل بها اليوم سوق تكنولوجيات الطاقات البديلة. وحتى مع كثير من النوايا الحسنة، وواجب تصديق ما يصدر عن وزير أمام النواب، فأن الأسئلة الوجيهة التي كانت ستحرج الوزير لا محالة هي: متى تتحول صفيحة الوزير حراوبية إلى صناعة فعلية، تمول آلاف الهكتارات من حقول الطاقة الشمسية بصحرائنا الشاسعة؟ وكم صفقة أبرمتها المخابر ال 800 مع القطاع الصناعي؟ وكم بحثا من بين ال 18000 بحث وجد طريقه إلى نشريه علمية عالمية؟ ومتى تسعى الوزارتان إلى اعتماد طاقة بديلة لمنظومة تسير بسرعة الزواحف. أطلبوا ثقافة الإصلاح ولو في الصين ربما أكون قد ظلمت ثقافة الفكر الواحد، واتخذت منها شماعة أعلق عليها مآسينا ومشاكلنا، وعجزنا الذي ينبغي أن نسأل عنه في مواطن أخرى، لأن الحزب الواحد قاد من قبل، في الاتحاد السوفييتي، سباقا علميا وتكنولوجيا مع الغرب، ونراه اليوم في الصين الشيوعية يقود ثورة علمية ومعرفية، مشفوعة بتنمية اقتصادية تسير بتسارع غير مسبوق في التاريخ، وهو متشبث بواحدة من أعقد اللغات في العالم، ولا يعنيه ما يقال حول لغة العلوم والاقتصاد والانترنت، ولم نسمع عن سياسي أو أكاديمي صيني واحد أن اللغة الصينية هي من التعقيد وعلى قدر من انقطاع الصلة مع العلوم الحديثة، يجوز معهما الاستغناء عن اللغة الأم مرحليا، وتعويضها بلغة أحدى القوى الاستعمارية التي تعاقبت على الصين أخيرا، يفترض من النواب، وهم أمناء على مكونات هوية هذا البلد، أن يطالبوا بجلسة استماع للوزير الأول، وبحضور وزيري التربية والتعليم العالي، ثم يوجهون له السؤال التالي: متى يتوقف هذا العبث باللغة الوطنية، ومعه العبث بمستقبل أجيال متعاقبة؟ لأنه محض عبث، يليه سؤال آخر يحتاج إلى لجنة تحقيق تتقصى مواطن إنفاق الميزانيات الضخمة التي صرفت على التعليم، نسمع جعجعتها ولا نرى لها طحينا.