والتفسير الوحيد والواضح غير القابل للمزايدات، الذي يمكن أن نخرج به من خلال ما عايشته شخصيا، أن قيادة المؤسسة العسكرية كانت حريصة جدا على حياة الرهبان وسلامتهم، ومن يزعم أن السلطات كانت تريد قتلهم أو التضحية بهم فهو مخطئ وكاذب. بل كنّا نتلقى الأوامر اليومية التي ننقلها للمجندين والعسكريين في التجمعات الصباحية أو المسائية، على أنه يجب الحفاظ على حياة الرهائن لأنهم الوحيدون الذين بإمكانهم كشف تفاصيل ومخططات التنظيمات الإرهابية من الداخل، وخاصة أنّهم أجانب ورجال دين لهم مصداقية في الغرب، لأن النظام كان منزعجا إلى أبعد الحدود من تواجد أنصار جبهة الإنقاذ في الدول الأوروبية ويتمتعون باللجوء السياسي، وهم من يوفرون للجماعات المسلحة كل الدعم والمساندة والترويج الإعلامي والديني، بل ثبت عليهم تهريب أسلحة ومتفجرات وأموال. * ومن جهة أخرى أن القيادة العسكرية كانت بقدر ما تحفّز على ضرورة الحفاظ على حياة هؤلاء المختطفين، هددت بصرامة، أن أي عنصر يتورط في شيء ما يخالف الأوامر، سوف يتعرض لعقوبات قاسية، بل سيقدم حتى للمحاكمة العسكرية إن اقتضت الضرورة. * أمر آخر يمكن إضافته، أنه بعد عملية الاغتيال ذبحا، وصدور بيان "الجيا" رقم 44 الشهير، الذي تبنّى العملية ووقعه حينها الدموي جمال زيتوني، فقد حضرت محاضرة ألقاها الجنرال عبدالسلام بوشارب الذي شغل منصب مدير الاتصال والإعلام والتوجيه في وزارة الدفاع الوطني، التي كانت من قبل تعرف بالمحافظة السياسية كما ذكرنا سابقا، وأتمنى من الجنرال المتقاعد أن يدلي بشهادته وخاصة أنه مثقف وكاتب وباحث له مؤلفات عديدة. وقد كان ذلك بالمدرسة العليا للدفاع الجوي عن الإقليم "الرغاية"، وقد كشف لنا تفاصيلا متعددة وأعطى مقاربات مختلفة عن القضية التي أحدثت زوبعة كبيرة حينها. * حيث أكّد في مجمل حديثه الفصيح جدّا، أن "الجيا" تراهن على أزمة ما بين فرنساوالجزائر من خلال ذبح الرهبان بتلك الطريقة القذرة، وأن الجزائر خسرت كثيرا عندما لم تتمكن من فكّ أسرهم، لأن لهم مصداقية عالمية لدى وسائل الإعلام الغربية أو حتى لدى السلطات الأوروبية. بل أشار إلى أن الجيش كان مستعدا لدفع الملايير من أجل إطلاق سراحهم أحياء، ومما قاله أيضا وبتهكّم كأنها فراسة من ظهر الغيب: لو أنّه تمّ إطلاق سراحهم لقالوا إن الجيش هو من اختطفهم من أجل تشويه سمعة الإرهابيين!! * أمر آخر مهم فقد كنت صيف 1997 بسجن البليدة العسكري حيث قضيت مدة نصف سنة تقريبا، والتقيت حينها بعسكريين من مختلف النواحي والكتائب، وقد أكّد لي أحدهم واسمه مراد -لا أذكر لقبه العائلي- وكان من القوات الخاصة وينحدر من ولاية سوق أهراس، حيث شارك في عمليات التمشيط في جبال المدية بحثا عن الجماعة المسلحة التي تختطف الرهبان، وقد سجن بسبب رميه لقنبلة على حركة أحسّها بين الأحراش ولحسن حظه أن الذي كان يتحرك هو خنزير وليس مسلحا، وقد عاقبه القائد لأن التعليمات التي وجهت لهم، أنه يجب الحفاظ على حياة الرهبان مهما كان الأمر، وأن أي مقاتل قد يتورط في إطلاق النار بعشوائية أو يتسرع من دون تبيّن، ويتسبب في إصابة أي أحد من المختطفين سيدفع الثمن غاليا، ولما سألته: وكيف يمكن أن تحرروهم وهم مع جماعة مسلحة ولديهم الذخيرة الحيّة؟ فأجابني: أن القيادة أمرتنا إن تمّ اكتشاف مكان تواجدهم فعليهم بمحاصرتهم فقط، وسيتم التفاوض معهم من أجل إطلاق سراح الرهبان ومقابل أي شرط يطلبونه. * ومما تقدم والذي أوردته باختصار جد شديد، وليس دفاعا عن الجيش فلست مخولا بذلك، ولا هو انتصار لأي طرف ما، إنما ذود عن حمى الحقيقة والتاريخ ودم الرهبان الأبرياء، فقد تأكّد أن المؤسسة العسكرية حرصت على حياة الرهبان كثيرا، وأنهم كانوا يعتبرون طوق نجاة مهمّ في الحرب على الجماعات المسلحة المتطرفة، وخاصة في ظل الدعم غير المعلن الذي كان يتلقاه نشطاء هذه الجماعات الدموية في الغرب. والذين يزعمون أن خطفهم وقتلهم وهي محاولة لتأليب الرأي الغربي ضد الجماعات المسلحة فهو تفكير ساذج ينافي ما عشناه ميدانيا خلال تلك الفترة، ويتناقض تماما مع توجهات المؤسسة العسكرية حينها، التي كانت تراهن على الاستقرار الأمني بأي طريقة كانت، ولن يتحقق ذلك إلا بحماية أرواح الناس وممتلكاتهم. * * إرهابيون من وراء القضبان يكشفون الحقيقة * أثناء فترة سجني عام 2005 حتى إلى 2006 مع الإسلاميين بسجن الحراش، التقيت بكثير من قدماء الجماعة الإسلامية المسلحة "الجيا" وحتى أمراء فيها، ممن هم الآن تحت طائلة أحكام متعددة أغلبهم عوقبوا بالإعدام. وكان أشهر من عايشتهم في قاعة واحدة، وتحدثت إليهم لفترات مختلفة، نذكر محمد شامة والمكنّى "القعقاع" والذي كان الذراع الأيمن لعنتر زوابري أبرز الأمراء الدمويين، وهو ينحدر من منطقة بوڤرة ولاية المدية، وقد التحق بالعمل المسلح عام 1993 وعايش أغلب أمراء "الجيا". وتحدث لي عن القضية وكشف لي معلومات مهمة، هذا السجين الذي حكم عليه بالمؤبد بتاريخ 21 / 03 / 2007، ثم أعيدت محاكمته في 20 / 01 / 2010 وصدر في حقه الإعدام لفظاعة ملفه القضائي. * فقد قال لي القعقاع إنه التقى بالرهبان خلال فترة اختطافهم في جبال تقع ما بين البليدةوالمدية، وكانوا في ظروف سيئة للغاية، فقد تعرضوا للتعذيب المبرح والبشع، وظلّوا يجبرون على نطق الشهادتين والصلاة بالإكراه، كما يرغمون على التغوّط على الصلبان وبعض كتبهم المقدسة التي كانت بحوزتهم. وأخبرني أن جمال زيتوني ظلّ مصمما على قتلهم حتى لو استجابت السلطات الفرنسية لمطالبهم، لأنه يراهم كفّارا ويدعون للضلال في أرض الإسلام حسب زعمه، كما أنه لمس حرص "الطاغوت" -كما ورد على لسانه- على حياتهم وسلامتهم. * وأضاف لي على أن الأماكن التي تواجدوا بها لا يمكن أن تصل إليهم قوات الجيش أبدا، فقد كانوا في كهوف تحت الأرض وكل المنطقة محصّنة بالألغام، وهذه الكهوف الحجرية لا تدمرها حتى القنابل النووية. * وحتى لا أعيد كل ما قاله لي القعقاع لأنه طويل ويحتاج إلى كتب، فقد أكّد على أن جمال زيتوني ذبح منهم ثلاثة رهائن وبيديه، وواحد ذبحه نورالدين بوضيافي وهو آخر أمراء "الجيا" ومن مواليد 14 / 06 / 1969 بالعامرية "ولاية المدية"، أما الآخرون فقد تداول عليهم بقية الأمراء، ولم يسمح للجند بالمشاركة في العملية التي كانت تعد تاريخية ولا ينال "الشرف" إلا الأمراء والقادة!!. * ونقل القعقاع على لسان الدموي عنتر زوابري الذي كان مقربا ومرافقا له طيلة سنوات، أنه في أحد المرات وهو يتحدث عن جمال زيتوني وقصته مع الرهبان، اقترح زوابري على جمال زيتوني قتل واحد والتهديد بقتل الآخرين، وكل مرة لا تستجيب فرنسا لمطالبهم، يذبحون راهبا ويوزعون الصور، وأكيد بعد قتل ثلاثة في أكثر تقدير، ستخضع فرنسا لمطالبهم وتضغط على الجزائر كثيرا، ويكون للقضية تأثير وصدى دولي أكبر من نحرهم دفعة واحدة، وهو ما يؤلب الرأي العام الفرنسي في آن واحد. غير أن زيتوني -حسب زوابري- رفض ذلك، وتحجج وعربد بأنه سيخطف حتى السفير الفرنسي من محلّ إقامته، وأن النصر حليفهم قريبا. * ولما سألته عن ما يقال لدور ما للمخابرات الجزائرية في ذبح الرهبان، فقد نفى ذلك نفيا قاطعا وقال لي بالحرف الواحد: لو لم يقتلهم زيتوني وبقوا على قيد الحياة ما استطاعت المخابرات ولا الجنّ الأزرق أن يصل إليهم!! * أما عبد القادر الروجي واسمه الحقيقي محمد صدوقي، فقد كان ضمن كتيبة تنشط في منطقة الأربعاء بالبليدة، والذي استفاد من عفو ميثاق السلم والمصالحة شهر مارس 2006 ولكنه عاد للعمل المسلح وقضت عليه مصالح الأمن لاحقا، فقد أكّد لي ونحن في سمرنا المعتاد، أن جمال زيتوني هو من قام بذبحهم، وإن اختلف مع القعقاع حول عدد الرهبان الذين ذبحهم زيتوني بيده، فقد أصرّ الروجي على نحر أربعة من طرف الأمير الوطني ل "الجيا". وهذا الذي سمعته أيضا من عند عوار محمد وعزوق مقران المحكوم عليهما بالإعدام، وهما من آخر عناصر تنظيم "الجيا" الذين قبض عليهم. * علالو حميدة كان الذراع الأيمن لحسان حطاب المؤسس والأمير الوطني السابق للجماعة السلفية للدعوة والقتال، فقد جمعتني به أيام السجن، حيث كان موقوفا في جناح العزلة بسجن الحراش بعد تحويله من سجن سركاجي، وقد تواجدنا معا في باحة مشتركة ما يقارب الشهرين، بل جمعتني به زنزانة واحدة لمدة 5 أيام كاملة قبل أن يفرج عني في 04 / 07 / 2006. حميدة وكنيته "أبوخالد" من مواليد 10 / 10 / 1966 بدلس "بومرداس". التحق بمعاقل الإرهاب عام 1995 ضمن سرية دلس التي كان أميرا عليها عبد العزيز شريف المكنّى الشريف، وبعدها التحق بسرية الفتح، ثم سرية الأنصار، إلى أن قربه حسان حطاب منه عام 1999 وصار ذراعه اليمنى. بل قام معه بعمليات عديدة منها مثلا مداهمة ثكنة بقرية تيسيرة والواقعة قرب غابة ميزرانة حسب إفادته. * كلّفه حسان حطاب بالاتصالات الخارجية رفقة كل من عيونيس محمد يوسف المكنى "ابو بصير"، وممثل الجماعة في ألمانيا المسمى آيت الهادي مصطفى، وأيضا علواش رضوان ومحرز حنين في إسبانيا. ومما يذكره علالو حميدة أنه قضى فترة وبأمر من حطاب، مع مختار بلمختار "لعور" في الجنوب الجزائري، وكان برفقته المدعو نصر الدين مليك وكنيته أيوب، وكانوا في مهمة تهريب أسلحة من مالي والنيجر للجزائر. * بخصوص رهبان تبحيرين فقد سألته عن ذلك ونحن نتبادل أطراف الحديث عن قضايا مختلفة، فقد روى ما سمعه من حسان حطّاب وبعض معاونيه، ومجمل الحديث يؤكد على تورّط جمال زيتوني في إعدامهم ذبحا، وأضاف حميدة:"أبو حمزة لم يكن حاضرا في عملية الإعدام لأنه لم يكن متواجدا في أعالي المدية خلال تلك الفترة، ومما ظلّ يردده وبناء على شهادات مقربين منه كانوا من قبل مع جمال زيتوني، أن عملية الإعدام جرت بحضور قياديين في الجماعة الإسلامية المسلحة، وكان قرار قتلهم قد اتخذه زيتوني ولم يناقشه فيه أي كان سوى بعض أعضاء مجلس الأعيان الذين اقترحوا أن لا يتم قتلهم دفعة واحدة، بل عبر مراحل للضغط على فرنسا وتهييج الرأي العام الأوروبي والكنسي خاصة، وهي المشورة التي رفضها زيتوني وأغلبية مجلسه المقربين منه". * ولما سألت حميدة عن مكان تواجده عام 1996 عندما أعدم الرهبان، فقد أكد لي أنه كان يرابط بمنطقة الثوابت بدلس، وقد شهد ذلك الوقت انكشاف أمره لدى مصالح الأمن وصار مطلوبا بصفة رسمية، وقد كان برفقة عناصر من السرية التابعة للجماعة الإسلامية المسلحة "الجيا"، وقد بلغهم خبر الإعدام عن طريق المدعو عبد العزيز ناصر المكنّى كويسي، والذي كان في مهمة لدى الإمارة في أعالي البليدة. وقد نقل لهم بيانا داخليا وقعه جمال زيتوني، وبشّر فيه كالعادة بخبر إعدام الجماعة للرهبان الصليبيين -على حد تعبيره-. * هذه شهادات أخرى من وسط التنظيم الإرهابي المثير للجدل "الجيا"، وعلى ألسنة من لا يزالون على قيد الحياة، والتي تؤكد على أن أمير الجماعة جمال زيتوني هو من قام بذبح الرهبان، وأن الجيش لم يتمكن من الوصول إليهم وفكّ أسرهم، وليس كما صار يروج سواء عن طريق وسائل الإعلام الفرنسية أو بعض ممن يبحثون عن الأضواء، وللأسف بينهم ممن غرّر بهم من أبناء الجزائر العميقة. * إنطلاقا مما تقدم، فقد تأكد لدينا أن المؤسسة العسكرية الجزائرية كانت تحرص على تحرير الرهبان ومهما كان الثمن، لاعتبارات عديدة أشرنا لبعضها، وأيضا أن هؤلاء كانوا في نظر الجماعة الإسلامية المسلحة "الجيا"، وبحكم فتاويهم، هم كفار يمارسون نشاطا تنصيريا وتبشيريا من أجل توريط الجزائريين في الردة عن الإسلام. فضلا من كل ذلك أن إثارة الحرب مع فرنسا سيجعل الجزائريين الناقمين من الاستعمار يتعاطفون معهم ويدعمونهم كما كان يخيل لهم. وهي من أبرز دوافع تصفيتهم من طرف جمال زيتوني، والذي دخل في مفاوضات سرية مع المخابرات الفرنسية خارج الإطار الرسمي الجزائري، ولكن الأمور سارت عكس ما يريدون، فأعدم الرهبان بطريقة ذبح بشعة تقشعر لها الأبدان، بعدما أحسّوا أن المخابرات الفرنسية لم تكن جادّة في إنقاذ أسراها، حسب بعض الشواهد. * وهنا يجب الإشارة إلى أمر هام، أن هؤلاء الذين كانوا يتحدثون عن القضية، لا يزالون على عقيدتهم التكفيرية ولا يرجون عفوا ولا يتوددون لأحد، وأيضا هم يتباهون بجرائم الجماعة الإسلامية المسلحة في ظل الصراعات بينهم من وراء القضبان، على أساس أنها من أبرز إنجازات الحركة الجهادية في العالم الإسلامي، كما أنهم ظلّوا يرفضون تلك الاتهامات التي تفيد بوقوف جهات استخباراتية وراء "الجيا"، بل يعتقدون يقينا أنها تنظيم إلهي ورباني، وأن الأمراء الذين مرّوا على رأسها هم من أطهر الناس وأخلصهم للجهاد والشهادة على حد زعمهم الموبوء. * * شهود زور وانتقاميون في مزادات سرية * في ظل حمّى الحديث المتكرر عن قضية رهبان تبحيرين، ظلّ الإعلام الغربي وخاصة الفرنسي، يظهر من حين لآخر من يسمّيهم شهود الحقيقة، حتى لو كانوا مجرد بيادق وباحثين عن الأضواء والإثارة ولو على حساب القيم والمقدسات. * بينهم من كانوا يعملون في المؤسسة العسكرية، وبرتب تؤهلهم أن يقدموا القهوة والشاي كنوادل في نوادي الثكنات فقط، ولا يتسنّى لهم مطلقا دخول مطبخ الضباط حتى ولو كان تطفلا ومن وراء الستار، فكيف يا ترى توصلوا لتلك الأسرار الخطيرة للغاية التي تتعلق بشأن دولي أو حتى مصيري للبلاد؟!! * وأكثر من كل ذلك أنه لأسباب متباينة -بينها الأخلاقية- جرى طردهم والاستغناء عن خدماتهم التي كانوا يتعالون بها على عموم الناس. * آخرون ينتمون إلى تيارات مختلفة تناهض الحكومة وتناصر الإسلاميين والتطرف، بل يوجد من كان يتبنّى علنا العمليات الإرهابية كالتفجيرات في الأماكن العمومية وقتل الأبرياء والمدنيين ومن دون أدنى وازع أخلاقي ولا إنساني. والآن هو يدافع عن هؤلاء القتلة بمحاولات تبييض سوادهم وتوريط الأبرياء في دماء الجزائريين، ضمن أطروحة "من يقتل من؟" البائدة، والتي أثبتت الأيام زيفها، فضلا عن الجهات المشبوهة التي تقف وراءها، ضمن تلك الصورة المشوهة وغير البريئة إطلاقا. * ويوجد من يحاول خلق قصص من أساطير خلت لتبرئة هذه الجماعات من عقيدة وعقدة التكفير والهجرة التي تنتهجها، وكأن هؤلاء الذين صعدوا للجبال وحملوا السلاح ونصبوا الكمائن وزحفوا على القرى والأرياف، وأبادوا المدنيين والعزّل، وبقروا بطون الحوامل وذبحوا الأطفال الرضّع وأعدموا حتى الشيوخ الركّع، كانوا في سياحة وليسوا في حرب شاملة على البلاد والعباد. * إن الدماء التي أهرقت في الجزائر لا يمكن أن يقرر المتهم والبريء فيها، من خلال شهادة معزولة تأتي من طرف شخص عمل لفترة في المؤسسة العسكرية، أو من خلال آخر كان ليوم غير بعيد يدافع عن القتلة والمجرمين ويتبنى مواقفهم ويبحث عن الدعم لهم في الغرب. فالنوايا والأحقاد والحسابات الشخصية يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في الشهادة، فلا يمكن أن نقبل شاهدا عرف عنه حقده على المتهم أو الضحية، أو له مصلحة في دفتر القضية، ولا يمكن قبول شهادة ترتبط بأجندة أو ظروف شخصية وخاصة. * كما لا يمكن أن نعتدّ بشخص يريد أن يظهر اسمه على صدر الصفحات الأولى أو على واجهة عناوين الأخبار الرئيسية في القنوات الفضائية، من أجل أن يتحصّل على اللجوء السياسي في فرنسا، بعدما عجز على ذلك في بلاد أخرى، ولا يزال يطوف من مكان لمكان بعدما ثبت زيف إدعاءاته لدى الجهات الرسمية صاحبة الشأن في القضية. * يرى البعض أن الشهادة لصالح الحقيقة عندما تكون في صفّ أي نظام حاكم هو من الخطأ الجسيم الذي لا يغتفر، بل يجب الصمت إن لم يستطع أحدهم أن يجاري الكذب، كما أفتى لي شخصيا أحد أدعياء الدين والسياسة والإرهاب يوما، وهو منطق غريب لا يشبه إلا منطق المعارضة العراقية، التي تحالفت مع الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش والمحافظين الجدد بالبيت الأبيض، من أجل غزو العراق وتدميره، وتحت شعارات الديمقراطية وإنهاء الديكتاتورية امتطوا دبابات المارينز ودخلوا بغداد فاتحين، وأدى ذلك إلى سقوط ملايين الضحايا والمشردين واليتامى والأرامل والنازحين واللاجئين، وخربت البلاد بطائفية عمياء وهي مهددة بالتقسيم إلى فتات وأجزاء وفق أجندة صهيونية بامتياز. * أرى أن الأمر لا يختلف في قضية الرهبان، فمن يسمّون أنفسهم معارضين للنظام الحاكم ومن الخارج، يشككون في كل شيء، بل يقدمون خدمات مجانية إلى جهات مصالحها ليست كما يتخيل هؤلاء أبدا، وللأسف الشديد يتبجحون بأنهم يخدمون الشعب الجزائري ويقدمون له الجميل عبر الإنترنت والفضائيات التي صاروا زبائنها. * إن تبرئة الإسلاميين من دماء الجزائريين هي جريمة في حق هؤلاء الضحايا الأبرياء، وتبرئتهم من دماء الرهبان وفق أطروحات نسجت خيوطها في مخابر الظل المعروفة، هي جريمة في حق هؤلاء من جهة وفي حق الوطن من جهة أخرى. * والمتتبع لكل ما يقدم من سيناريوهات تظهر من حين لآخر وفق منطق المصالح والمصالح المضادة، يتأكد مما لا يدع مجالا للشك ولا الريب، أن القضية أكبر من دماء ضحايا ذبحتهم آلة التكفير العمياء التي روج لها بعض رجال الدين وأدعياء السياسة، وللأسف الشديد صار يتغنى لها الآن بصيغة أخرى حمقاء ممن يعتقدون أنفسهم بأنهم رجال تغيير واعتدال ووسطية. * وأغتنم الفرصة لأؤكد من خلال ما رأيته لدى هؤلاء "المعارضين" وأشباههم، أنهم لن يترددوا لحظة لو تتاح لهم فرصة العودة للجزائر على متن دبابات ولو تكون إسرائيلية، فالحقد الدفين الذي يكنّونه لا يمكن تصوره، وقد دفعنا حتى نحن الثمن غاليا، فقد لاحقتنا التهم من كل جانب، وفتحوا منابر عبر الشبكة العنكبوتية للنيل منّا، والتشكيك في أصلنا وفصلنا، أرضنا وعرضنا، لوننا وحولنا... * لقد صمتنا عنهم كثيرا وقلنا علّهم يعودون لرشدهم، يترفعون عن السفاسف والأباطيل، ويساهمون في بناء الدولة العصرية المنشودة والراشدة، التي هي في أمس الحاجة لكل أبنائها المخلصين للهوية والوطنية الصافية والصادقة، وكما هي أيضا تبحث وتتطلع لمن يعرّي مواطن الخلل والفساد وفق منطق العلاج والبناء وليس التصفية والهدم. ولكن ذهب حلمنا أدراج الرياح، وواصل هؤلاء الذين يسبحون في فلك أجهزة غربية نعرفها جيدا بحكم تجربتنا في المنفى واللجوء، ولهذا قررنا أن لا نصمت بعد اليوم، وسنعرّي هؤلاء في كل فرصة تتاح لنا، فالمعارضة التي ولدت مطلع التسعينيات عندما لم تجد قيادة راشدة وواعية وناضجة وأصيلة، تحول الأنصار والمناضلون إلى قتلة ومجرمين بسبب الفكر السلفي المستورد من أدغال أفغانستان، وهي مؤامرة تورطت فيها حتى أطراف من السلطة حينها وللأسف لا يزالون على غيّهم وضلالهم القديم، بالرغم من أنهم أحيلوا على المعاش وجرى الاستغناء عن نفوذهم وخدماتهم.