* بخصوص رهبان تبحيرين فقد سألته عن ذلك ونحن نتبادل أطراف الحديث عن قضايا مختلفة، فقد روى ما سمعه من حسان حطّاب وبعض معاونيه، ومجمل الحديث يؤكد على تورّط جمال زيتوني في إعدامهم ذبحا، وأضاف حميدة:"أبو حمزة لم يكن حاضرا في عملية الإعدام لأنه لم يكن متواجدا في أعالي المدية خلال تلك الفترة، ومما ظلّ يردده وبناء على شهادات مقربين منه كانوا من قبل مع جمال زيتوني، أن عملية الإعدام جرت بحضور قياديين في الجماعة الإسلامية المسلحة، وكان قرار قتلهم قد اتخذه زيتوني ولم يناقشه فيه أي كان سوى بعض أعضاء مجلس الأعيان الذين اقترحوا أن لا يتم قتلهم دفعة واحدة، بل عبر مراحل للضغط على فرنسا وتهييج الرأي العام الأوروبي والكنسي خاصة، وهي المشورة التي رفضها زيتوني وأغلبية مجلسه المقربين منه". * ولما سألت حميدة عن مكان تواجده عام 1996 عندما أعدم الرهبان، فقد أكد لي أنه كان يرابط بمنطقة الثوابت بدلس، وقد شهد ذلك الوقت انكشاف أمره لدى مصالح الأمن وصار مطلوبا بصفة رسمية، وقد كان برفقة عناصر من السرية التابعة للجماعة الإسلامية المسلحة "الجيا"، وقد بلغهم خبر الإعدام عن طريق المدعو عبد العزيز ناصر المكنّى كويسي، والذي كان في مهمة لدى الإمارة في أعالي البليدة. وقد نقل لهم بيانا داخليا وقعه جمال زيتوني، وبشّر فيه كالعادة بخبر إعدام الجماعة للرهبان الصليبيين -على حد تعبيره-. * هذه شهادات أخرى من وسط التنظيم الإرهابي المثير للجدل "الجيا"، وعلى ألسنة من لا يزالون على قيد الحياة، والتي تؤكد على أن أمير الجماعة جمال زيتوني هو من قام بذبح الرهبان، وأن الجيش لم يتمكن من الوصول إليهم وفكّ أسرهم، وليس كما صار يروج سواء عن طريق وسائل الإعلام الفرنسية أو بعض ممن يبحثون عن الأضواء، وللأسف بينهم ممن غرّر بهم من أبناء الجزائر العميقة. * إنطلاقا مما تقدم، فقد تأكد لدينا أن المؤسسة العسكرية الجزائرية كانت تحرص على تحرير الرهبان ومهما كان الثمن، لاعتبارات عديدة أشرنا لبعضها، وأيضا أن هؤلاء كانوا في نظر الجماعة الإسلامية المسلحة "الجيا"، وبحكم فتاويهم، هم كفار يمارسون نشاطا تنصيريا وتبشيريا من أجل توريط الجزائريين في الردة عن الإسلام. فضلا من كل ذلك أن إثارة الحرب مع فرنسا سيجعل الجزائريين الناقمين من الاستعمار يتعاطفون معهم ويدعمونهم كما كان يخيل لهم. وهي من أبرز دوافع تصفيتهم من طرف جمال زيتوني، والذي دخل في مفاوضات سرية مع المخابرات الفرنسية خارج الإطار الرسمي الجزائري، ولكن الأمور سارت عكس ما يريدون، فأعدم الرهبان بطريقة ذبح بشعة تقشعر لها الأبدان، بعدما أحسّوا أن المخابرات الفرنسية لم تكن جادّة في إنقاذ أسراها، حسب بعض الشواهد. * وهنا يجب الإشارة إلى أمر هام، أن هؤلاء الذين كانوا يتحدثون عن القضية، لا يزالون على عقيدتهم التكفيرية ولا يرجون عفوا ولا يتوددون لأحد، وأيضا هم يتباهون بجرائم الجماعة الإسلامية المسلحة في ظل الصراعات بينهم من وراء القضبان، على أساس أنها من أبرز إنجازات الحركة الجهادية في العالم الإسلامي، كما أنهم ظلّوا يرفضون تلك الاتهامات التي تفيد بوقوف جهات استخباراتية وراء "الجيا"، بل يعتقدون يقينا أنها تنظيم إلهي ورباني، وأن الأمراء الذين مرّوا على رأسها هم من أطهر الناس وأخلصهم للجهاد والشهادة على حد زعمهم الموبوء. * * شهود زور وانتقاميون في مزادات سرية * في ظل حمّى الحديث المتكرر عن قضية رهبان تبحيرين، ظلّ الإعلام الغربي وخاصة الفرنسي، يظهر من حين لآخر من يسمّيهم شهود الحقيقة، حتى لو كانوا مجرد بيادق وباحثين عن الأضواء والإثارة ولو على حساب القيم والمقدسات. * بينهم من كانوا يعملون في المؤسسة العسكرية، وبرتب تؤهلهم أن يقدموا القهوة والشاي كنوادل في نوادي الثكنات فقط، ولا يتسنّى لهم مطلقا دخول مطبخ الضباط حتى ولو كان تطفلا ومن وراء الستار، فكيف يا ترى توصلوا لتلك الأسرار الخطيرة للغاية التي تتعلق بشأن دولي أو حتى مصيري للبلاد؟!! * وأكثر من كل ذلك أنه لأسباب متباينة -بينها الأخلاقية- جرى طردهم والاستغناء عن خدماتهم التي كانوا يتعالون بها على عموم الناس. * آخرون ينتمون إلى تيارات مختلفة تناهض الحكومة وتناصر الإسلاميين والتطرف، بل يوجد من كان يتبنّى علنا العمليات الإرهابية كالتفجيرات في الأماكن العمومية وقتل الأبرياء والمدنيين ومن دون أدنى وازع أخلاقي ولا إنساني. والآن هو يدافع عن هؤلاء القتلة بمحاولات تبييض سوادهم وتوريط الأبرياء في دماء الجزائريين، ضمن أطروحة "من يقتل من؟" البائدة، والتي أثبتت الأيام زيفها، فضلا عن الجهات المشبوهة التي تقف وراءها، ضمن تلك الصورة المشوهة وغير البريئة إطلاقا. * ويوجد من يحاول خلق قصص من أساطير خلت لتبرئة هذه الجماعات من عقيدة وعقدة التكفير والهجرة التي تنتهجها، وكأن هؤلاء الذين صعدوا للجبال وحملوا السلاح ونصبوا الكمائن وزحفوا على القرى والأرياف، وأبادوا المدنيين والعزّل، وبقروا بطون الحوامل وذبحوا الأطفال الرضّع وأعدموا حتى الشيوخ الركّع، كانوا في سياحة وليسوا في حرب شاملة على البلاد والعباد. * إن الدماء التي أهرقت في الجزائر لا يمكن أن يقرر المتهم والبريء فيها، من خلال شهادة معزولة تأتي من طرف شخص عمل لفترة في المؤسسة العسكرية، أو من خلال آخر كان ليوم غير بعيد يدافع عن القتلة والمجرمين ويتبنى مواقفهم ويبحث عن الدعم لهم في الغرب. فالنوايا والأحقاد والحسابات الشخصية يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في الشهادة، فلا يمكن أن نقبل شاهدا عرف عنه حقده على المتهم أو الضحية، أو له مصلحة في دفتر القضية، ولا يمكن قبول شهادة ترتبط بأجندة أو ظروف شخصية وخاصة. * كما لا يمكن أن نعتدّ بشخص يريد أن يظهر اسمه على صدر الصفحات الأولى أو على واجهة عناوين الأخبار الرئيسية في القنوات الفضائية، من أجل أن يتحصّل على اللجوء السياسي في فرنسا، بعدما عجز على ذلك في بلاد أخرى، ولا يزال يطوف من مكان لمكان بعدما ثبت زيف إدعاءاته لدى الجهات الرسمية صاحبة الشأن في القضية. * يرى البعض أن الشهادة لصالح الحقيقة عندما تكون في صفّ أي نظام حاكم هو من الخطأ الجسيم الذي لا يغتفر، بل يجب الصمت إن لم يستطع أحدهم أن يجاري الكذب، كما أفتى لي شخصيا أحد أدعياء الدين والسياسة والإرهاب يوما، وهو منطق غريب لا يشبه إلا منطق المعارضة العراقية، التي تحالفت مع الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش والمحافظين الجدد بالبيت الأبيض، من أجل غزو العراق وتدميره، وتحت شعارات الديمقراطية وإنهاء الديكتاتورية امتطوا دبابات المارينز ودخلوا بغداد فاتحين، وأدى ذلك إلى سقوط ملايين الضحايا والمشردين واليتامى والأرامل والنازحين واللاجئين، وخربت البلاد بطائفية عمياء وهي مهددة بالتقسيم إلى فتات وأجزاء وفق أجندة صهيونية بامتياز. * أرى أن الأمر لا يختلف في قضية الرهبان، فمن يسمّون أنفسهم معارضين للنظام الحاكم ومن الخارج، يشككون في كل شيء، بل يقدمون خدمات مجانية إلى جهات مصالحها ليست كما يتخيل هؤلاء أبدا، وللأسف الشديد يتبجحون بأنهم يخدمون الشعب الجزائري ويقدمون له الجميل عبر الإنترنت والفضائيات التي صاروا زبائنها. * إن تبرئة الإسلاميين من دماء الجزائريين هي جريمة في حق هؤلاء الضحايا الأبرياء، وتبرئتهم من دماء الرهبان وفق أطروحات نسجت خيوطها في مخابر الظل المعروفة، هي جريمة في حق هؤلاء من جهة وفي حق الوطن من جهة أخرى. * والمتتبع لكل ما يقدم من سيناريوهات تظهر من حين لآخر وفق منطق المصالح والمصالح المضادة، يتأكد مما لا يدع مجالا للشك ولا الريب، أن القضية أكبر من دماء ضحايا ذبحتهم آلة التكفير العمياء التي روج لها بعض رجال الدين وأدعياء السياسة، وللأسف الشديد صار يتغنى لها الآن بصيغة أخرى حمقاء ممن يعتقدون أنفسهم بأنهم رجال تغيير واعتدال ووسطية. * وأغتنم الفرصة لأؤكد من خلال ما رأيته لدى هؤلاء "المعارضين" وأشباههم، أنهم لن يترددوا لحظة لو تتاح لهم فرصة العودة للجزائر على متن دبابات ولو تكون إسرائيلية، فالحقد الدفين الذي يكنّونه لا يمكن تصوره، وقد دفعنا حتى نحن الثمن غاليا، فقد لاحقتنا التهم من كل جانب، وفتحوا منابر عبر الشبكة العنكبوتية للنيل منّا، والتشكيك في أصلنا وفصلنا، أرضنا وعرضنا، لوننا وحولنا... * لقد صمتنا عنهم كثيرا وقلنا علّهم يعودون لرشدهم، يترفعون عن السفاسف والأباطيل، ويساهمون في بناء الدولة العصرية المنشودة والراشدة، التي هي في أمس الحاجة لكل أبنائها المخلصين للهوية والوطنية الصافية والصادقة، وكما هي أيضا تبحث وتتطلع لمن يعرّي مواطن الخلل والفساد وفق منطق العلاج والبناء وليس التصفية والهدم. ولكن ذهب حلمنا أدراج الرياح، وواصل هؤلاء الذين يسبحون في فلك أجهزة غربية نعرفها جيدا بحكم تجربتنا في المنفى واللجوء، ولهذا قررنا أن لا نصمت بعد اليوم، وسنعرّي هؤلاء في كل فرصة تتاح لنا، فالمعارضة التي ولدت مطلع التسعينيات عندما لم تجد قيادة راشدة وواعية وناضجة وأصيلة، تحول الأنصار والمناضلون إلى قتلة ومجرمين بسبب الفكر السلفي المستورد من أدغال أفغانستان، وهي مؤامرة تورطت فيها حتى أطراف من السلطة حينها وللأسف لا يزالون على غيّهم وضلالهم القديم، بالرغم من أنهم أحيلوا على المعاش وجرى الاستغناء عن نفوذهم وخدماتهم.