الذين يطالبون بإنشاء قنوات فضائية خاصة وعامة جديدة تحررنا من عبودية اليتيمة، هم بالتأكيد مخطئون، ولا يختلف طلبهم عن الذي يطالب بإنجاز محطة فضائية لإرسال بعثات من العلماء إلى المريخ وزحل، لأن المشكلة ليست في القنوات التلفزية بقدر ما هي في الإنتاج السمعي البصري الذي على قلّته لا ينافس ما أنجزته الجزائر منذ نصف قرن، وحتى القناة الوحيدة يعجز مسؤولوها عن تقديم جديد صالح أو قديم لم يملّه الناس، وإنشاء قنوات فضائية جديدة يعني رفع فاتورة استيراد الدراما الأجنبية القادمة من بلاد الشام والترك والهند والأرجنتين. * وصول فريق ذاكرة الجسد بفنانيه ومخرجه المحبوبين من الجزائريين بقدر ما يثلج الفؤاد بقدرما يعذبه أيضا، فلولا اللمسة الشامية ما تحوّلت إحدى روائع "الفنانة" الجزائرية أحلام مستغانمي إلى عمل تلفزيوني سيدخل بالتأكيد بيوت العرب ويقدم لهم قسنطينةالمدينة التي عمرها يفوق عمر أثينا والقاهرة وروما، ومع ذلك تصغرهم بآلاف السنين اهتماما. * * في نهاية القرن الماضي عندما زار الفنان العراقي كاظم الساهر مدينة سيرتا وجسورها ومغاراتها تساءل كيف لم يسمع يوما عن هذا الجمال الساحر، وهو الذي ترعرع في بلاد الرافدين ويعيش بين أهرامات الفراعنة، وأصرّ على أن يصور الأغنية التي نقلته في سلم النجاح والشهرة "قولي أحبك كي تزيد وسامتي" على الجسر المعلق، حتى تحلق قصيدة الراحل نزار قباني في المدينة الطائرة كما سمّاها عندما زارها عام 1979، ولكن طلبه ورجاءه تحوّلا إلى صدمة عندما علم أن القائمين على الثقافة وعلى السياحة لا ذاكرة البلد ولا ذاكرة الجسد تعنيهم .. اللهم إلا كراسيهم. * * قد تكون الجزائر البلد العربي الأكثر منافسة تاريخيا على جائزة نوبل للآداب بفضل آسيا جبار ومحمد ذيب وغيرهما، والمؤكد أن تاريخها وجغرافيتها هي الأكثر ثراء ولا تحتاج إلى أكثر من الإرادة لأجل أن نحوّلها إلى أعمال تبدأ ولا تنتهي، فتنافس في نوعيتها ما تجود به هوليود، وفي كمّها ما تقذفنا به المكسيك، ومع ذلك أتقنّا في معادلة الدراما والمسرح والفن السابع من إخراج وسيناريو مهنة التفرج، فكان لهم دائما الإخراج والسيناريو والحوار والتمثيل وكان لنا الاستهلاك. * * يؤسفنا أن أروع أفلام العرب "الرسالة" التي أبدعها الراحل مصطفى العقاد ساهم في بعثها الفنانون من الخرطوم إلى فاس وتم تصويرها بين صحراء ليبيا وصحراء المغرب، وغاب الجزائريون وكأن الرسالة المحمدية لم تصلنا، وكأن رسائل الفن لم تصلنا. * * ويؤسفنا أن أروع أوبرات العرب "الحلم العربي" التي لحنها حلمي بكر ساهم في بعثها الفنانون من فلسطين إلى موريتانيا، وغاب الجزائريون وكأنهم لا يحلمون مثل العرب بتحرير أراضيهم، ويؤسفنا الآن أننا نعجز عن تحويل ذاكرة البلد المطرز بالشامات في كامل جسده والمعجون بالحب وبالأمل إلى حكايات جميلة تشاهدها كل الأمصار كما نشاهدها نحن في الصبح وفي الأسحار.