حل الشهر الفضيل بديار المسلمين ايذانا بتطبيق واحد من أركان الاسلام الخمسة أي "صوم رمضان"، والصوم ليس فكرة ولا تقليدا ولا منتوجا انثروبولوجيا حتى يخضع للتحليل الاجتماعي، ولكنه عبادة أمر بها الله وطبقها الانسان منذ أن مارس السلوك الديني. * ولكنها في وحي الاسلام عبادة منظمة في التوقيت والمدة والمقتضيات، والحكمة من فرضيتها، ولذا من البديهي أن تشكل هذه الفريضة جزءا من نظام الحياة لدى المسلمين وأن تنعكس آثارها على جانب التوازن في سلوكاتهم الجزئية والكلية معا، بل ومن غير الطبيعي أن يصوم المسلمون رمضان دون أن يلمسوا جديدا فيما له علاقة بمبدأي "الرشادة" و"الفعالية" في السلوك الاقتصادي والاجتماعي العام إلا في حالة واحدة هي تلك الحالة التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله الندي الذي وراه النسائي وابن ماجة في صحيحيهما من حديث أبي هريرة: "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش " . فماذا يعني أن يصوم الناس عن العادات الطبيعية خلال فترة محددة؟ ومتى يصير الصيام أداة فعالة في تطوير سلوك المسلمين وأدائهم العام بما في ذلك أداؤهم في الاقتصاد والأعمال والأسواق؟ حفز الطلب وضبط التضخم أجمعت النظريات الاقتصادية على قانون "التشبع" في سلوك المستهلك والذي يعني أن المنفعة الحدية للسلعة تتناقص كلما زادت كميات استهلاكها من قبل الفرد، وأن منفعة النقود تتحدد لدى الفرد بمدى قدرتها على الاشباع، وعليه فإن مستوى عاليا من الدخل الفردي يحد من الطلب اذا لامس ذلك الفرد حدود التشبع، وتلك سنة من سنن الخلق لا جدال فيها. وحيث أن الاقتصاد الكلي هو تجميع للسلوكات الفردية وسلوك المؤسسات فإن ذلك يعني أن الطلب الكلي سيعطي إشارات فورية عن كل سلوك فردي معمم إن إيجابا نحو الحفز والتوسع أو سلبا نحو الانكماش. وفي حالة "صيام رمضان" ليس صحيحا ما يتداول عن أثره في الضغط على الطلب بل العكس هو الصحيح حيث تفرض أحكام الصيام إعادة توزيع الدخل من المحفظات الميسورة الى الفقراء على قاعدة "الريح المرسلة" كما جاء في الصحيحين: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان". والفرق بين المحفظة الميسورة والمحفظة الفقيرة يتمثل في أثر المنفعة الحدية للسلع والخدمات بأثر الدخل والتي تزداد مع تناقص الدخل في حالة الفقير وتتناقص مع زيادة الدخل في حالة التشبع. وهكذا يوجه سلوك الصائم كما هائلا من التدفقات النقدية من المحفظات المتشبعة الى الفقراء ما يخدم زيادة منفعة النقود ويدفع بالطلب الكلي الى أعلى. نتيجة تشبه فعلا الريح المرسلة لأنها تنقل المنفعة، تزيد الطلب وبالتالي تغري المنتجين الذين يبنون توقعاتهم على أساس الطلب الزائد، وفي حالة المنافسة غير الاحتكارية أي الكاملة فإن توقعات المنتجين تزيد عن الطلب الحقيقي بسبب أخطاء التقدير فيزيد العرض عن سقف التوقعات مما يخدم جانب الوفرة ويضغط على الأسعار الاستهلاكية التي تعد المؤشر الأهم في حساب نسبة التضخم . ويعد السلوك الاستهلاكي للصائمين في رمضان أكثر فعالية في ضبط التضخم من السياسات الحكومية لأنه يناسب سياسات التوسع الحقيقي على العكس من الأدوات التقليدية التي تناسب أسواق النقد على قاعدة الفائدة الربوية. ولو أمكن حساب معدلات التضخم وحجم التوسع الإنتاجي على سلم المؤشرات الشهرية في مجتمع يخضع لمعايير صيام رمضان الحقيقية لأمكن اكتشاف علاقات أخرى لدوال العرض والطلب في الاقتصاد الكلي تتفوق بكثير عن تلك التي ما زالت النظرية الاقتصادية تجتهد في تطويرها. أسلمة أسواق النقد والمال بينت الأزمة المالية الأخيرة في "وول ستريت" ثم في بقية البورصات العالمية بأن حجم الأزمة يتناسب مباشرة مع حجم الديون المسمومة، أي الرديئة، ومع أحجام التداول في الأوراق المالية المشتقة من الديون الربوية أو الديون المصحوبة بعمليات إعادة البيع أو ما يعرف تقنيا بالتوريق المؤدي الى "الساب برايم". ويعد شهر الصيام فرصة نادرة لأسواق المال كي تقلل من عمليات التوريق والتداول على الأوراق المالية المشتقة من الفوائد، وبالتالي التقليل من كمية النقود المشتقة من الفائدة الربوية لأنها ببساطة محرمة شرعا ولا يعقل تطبيقها جنبا الى جنب الصيام وإلا صار الصوم مجرد "جوع وعطش"، وعندما نعلم نصيب رأس المال المملوك من المسلمين في أسواق المال سواء في شكل مدخرات صغيرة أو أسهم وسندات أو محفظات سيادية فإننا ندرك أثر الصوم في حجب عمليات البورصة والتأثير على أحجام التداول لصالح الصكوك الاسلامية ومنتجات المصرف الاسلامي وبقية منتجات التمويل الاسلامي الخالي من الربا. ففي تقرير أخير للمصارف الدولية 2010 ورد أن 85 بالمئة من الأموال العربية -وحدها- الموجودة بالخارج -وحجمها حسب مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية يصل الى 2.8 ترليون دولار، أي 2800 مليار دولار- عبارة عن موجودات في البورصات العالمية. أما موجودات الصكوك الاسلامية المتداولة عبر أسواق المال فقد لامست 850 مليار دولار. وهكذا يمثل شهر رمضان لحظة تاريخية تسجل فيها مؤسسات التمويل الاسلامي نتائج شهرية هامة لها أثرها المباشر على نتائج الربع المصاحب لشهر رمضان. والحديث عن بركة رمضان على التداول الاسلامي يتجاوز جانب الربح والنتائج الفصلية الى إثبات قدرة المسلمين على أسلمة الأسواق بما فيها أسواق النقد والمال إن هم عمموا أحكام الصوم على بقية أشهر السنة، ألم يقل نبي الله صلى الله عليه وسلم : "ولو علمتم ما في فضل رمضان لتمنيتم أن يكون سنة " . لا يشك أحد فيما لرمضان في حياة المسلمين وغيرهم من بركات، ويكفي أن الصوم معلق عند أبواب السماء ما لم يؤد الصائم زكاة فطره وهي عبارة عن تدفق نقدي يعادل -في السياق التاريخي للفقه الاسلامي- صاعا من التمر أو الشعير؛ أي من عموم غذاء البلد، يدفع قبل خروج المسلم الصائم لصلاة العيد. والمتأمل في هذا الواجب الذي لا يصح الصيام بدونه يدرك إشارة أخرى من حكمة فرض الصيام في إقامة نظام متوازن لتوزيع الدخل وحفز الطلب الداخلي وتحقيق الأمن الغذائي، وهي تماما الرهانات الكبرى التي ما زال النظام الاقتصادي العالمي حائرا في سبل تحقيقها حتى اليوم وحققها الاسلام بأسهل الأدوات ومنذ أكثر من 14 قرنا من الزمن، بل هي نفسها الأهداف التي عجزت الحكومات في العالمين العربي والاسلامي عن تحقيقها كاملة في حين أنها ما زالت تحتفل بقدوم رمضان على الدوام. وفي الحالة الجزائرية فإن زكاة الفطر الواجبة تلامس 350 مليار، مبلغ كاف لإطلاق "بنك زكاة الفطر" كمؤسسة مالية تتعامل في العمليات المصغرة وتستهدف تنمية رأسمال يبدو للوهلة الأولى أنه صغير وغير اقتصادي ولكن الدارس لتجربة بنوك الفقراء في العالم يعلم جيدا بأن العالم يتجه رويدا رويدا لهذا النوع من التمويل فيما له علاقة بالتنمية الاجتماعية .