شهر رمضان يتميّز بطقوسه وعاداته وتقاليده التي تتباين من مجتمع مسلم لآخر، مع الاحتفاظ بعامل مشترك بين كل المسلمين في شتى البقاع وهو الجانب الروحي والإيماني، وصلاة الجماعة والتراويح... لكن ماذا عن رمضان في الصين حينما يكون المسلمون هناك أقلية صغيرة مشتتين في أنحاء متفرقة؟ هل يشعر المسلم بروحانية رمضان؟ هل ثمة طقوس وعادات يمارسها الصائم في وسط جماعة من المسلمين فيشعر بفرحة الصوم والإفطار؟ * ربما هي عينة بسيطة جدا عن بعض المسلمين الذين التقيناهم ببكين على قلتهم أو مجموعة من المغتربين الجزائريين هناك أعطتنا لمحة عن استعدادتهم للشهر الفضيل في الصين. * * رمضان لا طعم ولا لون ولا رائحة له * * في أقصى شرق الكرة الأرضية، ومن أرض الشمس المشرقة... يشرق فجر الإسلام على أهل الصين، أصحاب الحضارة العريقة ورواد التكنولوجيا الحديثة، ورغم بعد المسافات وتنائي الديار بين مسلمي الصين وإخوانهم في أنحاء العالم الإسلامي، ورغم حداثة عهدهم بالإسلام؛ فإنهم وككل أبناء الأمة يشاركونهم فرحة رمضان؛ لتكتمل سعادة الجسد الواحد، ويغترف الجميع من فيض بركاته وعطر نفحاته.الصدفة جعلتني التقي الجزائري خمار الذي عاش رمضان الماضي في الصين وهو يتأهب لقضاء الشهر الثاني له متحسرا عن تفريطه للأجواء الروحانية في الجزائر. * ويقول أثناء دردشتي معه: إن رمضان في بلاد الغربة لا يخلو من الصعوبة والعسر، فهذا الشهر الكريم له طقوسه وتقاليده وحتى أكلاته التي لا يشعر المسلم بفرحة الصيام وبهجته إلا بتوافرها... والتي رغم تباينها بعض الشيء بين الدول الإسلامية، إلا أنها تتشابه وتتطابق في مظاهر كثيرة، أهمها تجمع العائلة حول مائدة الإفطار في مشهد قد يندر وجوده طوال العام نتيجة انشغال أفراد الأسرة أو اختلاف مواعيد أعمالهم... * وحينما سألته عن الأسباب الذي دفعته إلى الاغتراب قال إنه يحاول مواصلة دراساته هنا في المجال الفني والثقافي، فهو ابن الشاعر الجزائري المعروف بلقاسم خمار، حيث كان يعيش في ظروف جيدة بحيدرة بالجزائر وأن سفره إلى الصين وفق حديث الرسول عليه الصلاة والسلام »اطلبوا العلم ولو في الصين«. * سألته مرة أخرى عن شكل رمضان في الغربة؟ وهل يستطيع المسلمون بالفعل توفير الطقس الرمضاني المعروف؟ * يقول محدثنا، الذي رفض مفارقتنا لحنينه للجزائر، »لا يكاد المسلم يستشعر رائحة رمضان إلا عند دخول المسجد، أما المظاهر الرمضانية في الشوارع ووسائل الإعلام فلا وجود لها، رغم أن الصين لها سمات الشرق التي هي جزء منه ونشترك معها في جزء من الحضارة، إلا أن رمضان في الدول العربية الإسلامية لا يضاهى في أي مكان آخر في العالم«. * * حكاية باتشاي وثلاثون يوما مكتملة العدة * * يسمى شهر رمضان في الصين (باتشاي)، ويبلغ عدد المسلمين حوالي 21 مليون مسلم حسب الإحصائيات الرسمية، يتركزون في شمال غربي الصين. * ويصوم مسلمو الصين ثلاثين يوماً كل عام ولا يعتمدون على الهلال في الفطر، لأنهم لابد أن يتموا الصيام ثلاثين يوماً على الدوام. * وتنتشر المساجد وتحيط بها المطاعم الإسلامية التي تنشط في رمضان وتقدم الوجبات الشرقية والشامية والحلويات الرمضانية المشهورة في الدول العربية والإسلامية بجانب أكلات وحلويات المطبخ الصيني الذي يخلو من الكوليسترول لأنهم لا يستعملون الدهون في الأكل بينما لا توجد مطاعم متخصصة في الطبخ الجزائري ربما لقلة الجالية بها. * تتميز ليالي رمضان بالصلاة في المساجد وخاصة صلاة التراويح، ويوجد في بكين عدد من المساجد أشهرها (مسجد نيوجيه) ويرجع تاريخه لأكثر من ألف عام و(مسجد دو نفسي) ويرجع تاريخه لأكثر من سبعمائة عام، ويوجد بالصين بصفة عامة أكثر من 30 ألف مسجد أقدمها على الإطلاق مسجد (هوليشينغ) ومعناه (الحنين إلى النبي صلى الله عليه وسلم) بمدينة قوانغتشو عاصمة مقاطعة قوانغدونغ وهو المسجد الذي دعا منه سعد بن أبي وقاص الصينيين إلى دخول الإسلام. * * مسجد نيوجيه... روح رمضان * * تحرص المساجد في الصين على فتح أبوابها أمام المسلمين وغير المسلمين خلال شهر رمضان من أجل تعريفهم بالدين الإسلامي، ومن أبرز مظاهر شهر رمضان في الصين يقول عبد الرحيم (مسلم صيني) للشروق هو تنظيم مأدبات الإفطار الجماعي، وذلك من أجل زيادة الروابط بين المسلمين في هذا المجتمع الغريب، وخاصةً بين العرب الذين يكونون قادمين لأغراض سريعة ولا يعرفون في هذه البلاد أحدًا تقريبًا، وتكون هذه المأدبات بديلاً عن التجمعات الإسلامية المعروفة في أيٍّ من البلدان الأخرى، بالنظر إلى غياب هذه التجمعات في الصين. * يعد مسجد نيوجيه واحدا من بين هذه المساجد وأقدمها في شمالي الصين. وقد بني سنة 996م وتبلغ مساحته حوالي ألف متر مربع. ومع أن مبانيه لا تختلف عن القصور الكلاسيكية الصينية شكلا وتوزعا، إلا أنها مميزة بالزخارف إسلامية الطراز. وأما قاعة الصلاة في المسجد فتتجه إلى ناحية الشرق، وهي تشكل مع القاعة المقابلة لها وجناحي المسجد الجنوبي والشمالي دارا رباعية نموذجية وهو نمط معماري صيني قديم. وأما بوابة المسجد، فهي مفتوحة على جهة الغرب، وأمامها حاجز طوبي كبير، ووراءها برج لمشاهدة الهلال، سداسي الأضلاع مزدوج الأفاريز. وأمام قاعة الصلاة مقصورتان، تنتصب إحداهما في الجنوب والأخرى في الشمال. وتبدو مباني المسجد منسجمة ومتناسقة ومحكمة، فهي مجموعة كاملة من المباني الرائعة. * * مسلمو الصين والولاء للدين * * يقول إمام مسجد (نيوجيه) ببكين: إن المسلمين الصينيين شديدو الولاء للدين ومُتمسِّكون بالصوم في شهر رمضان؛ ومن عاداتنا أن نقوم بتوعية المسلمين بتعاليم القرآن الكريم والأحاديث النبوية المُتعلِّقة بالصوم؛ ونحدثهم عن فضائل ومزايا الصوم قبل حلول شهر رمضان المُبارَك. * كما يعتبر مسجد نانتشيابو أهم مسجد في بكين. ويشهد خلال شهر رمضان المبارك احتفاليات يومية، حيث تقام موائد الإفطار اليومية للمسلمين القاطنين بجواره ويشارك المتقاعدون من المسلمين في النشاطات التي تقام في المسجد إذ يساعدون في إعداد طعام الإفطار. * وينظم المسجد نشاطات دراسية للتوعية بالفقه الإسلامي مثل الصوم والصلاة وأركان الدين الأخرى، الأمر الذي يجذب العديد من المسلمين الصينيين للدراسة في المسجد. * وإن كنت أرغب في حضور ولو لأيام هذا الشهر الكريم لمعايشة الحدث عن قرب، إلا أن الظرف الزمني لم يكن ملائما، لكن على الأقل تعرفت اكثر من خلال اليوميات التي سبقت ما يعانيه مسلمو الصين والجاليات المسلمة خصوصا في بكين. * * النية بالصوم جهرا * * الغريب في مسلمي الصين طقوس النية للشروع في فريضة الصيام من خلال القول جهرا »نويتُ أن أصوم صوم شهر رمضان من الفجر إلى المغرب خالصًا لله تعالى« وهي عبارة تردد يوميا. * وتقوم المساجد في الصين بواجباتها الدينية، والتي منها مواقيت الإفطار والإمساك ونشرها بين المسلمين، وحسب عبد الرحيم يوان تُوجَد المطابخ الإسلامية وتُقدِّم إلى المسلمين الكعك والحلويات التقليدية واللحوم الطازجة في مناطق المسلمين التي لم يتسنّ لنا زيارتها طالما أن فترة إقامتنا اقتصرت على العاصمة بكين فقط. * وعند دخول وقت الفطور يأكل المسلمون الصينيون أولاً قليلاً من التمر والحلوى ويشربون الشاي بالسكر. وعقب ذلك يتوجهون إلى المساجد القريبة أو يبقون في البيوت لصلاة المغرب، وبعد الانتهاء يتناولون الفطور مع أفراد العائلة. * * صلاة التراويح... إحدى وعشرون ركعة * * يقول محدثنا عبد الرحيم، الذي التقيناه بالقرية الأولمبية »بالإضافة إلى الصلوات الخمس نُصلِّي صلاة التراويح جماعةً بعد العشاء وهي عشرون ركعة، وبين كل ركعتين من التراويح نقرأ كلمة (يا مُقلِّب القلوب والأبصار ويا خالق الليل والنهار) ثلاث مرات، وبين كل أربع ركعات نحمد الله قائلين: سبحان ذي المُلْك والكبرياء والجبروت؛ سبحان المَلك الحيِّ الذي لا يموت، سُبُّوح قُدُّوس ربُّ الملائكة والرُّوح« ثلاث مرات أيضًا. * وأما آيات القرآن الكريم التي تقرأ أثناء صلاة التراويح، فهي تبدأ من سورة الفيل حتى سورة الناس مرتين، وبعد ثماني عشرة ركعة نقول: »لا إله إلا الله المَلِك الحق المُبِين، محمد رسول الله السيد الصادق الأمين« وبعد عشرين ركعةً يقرأ: »اللهم إنَّا نسألك الجنة، ونعوذ بك من النار، يا مجيد ويا أرحم الراحمين« وبعد ذلك صلاة الوتر جماعةً ودعاء الله تعالى في النهاية. * أما حسين إسماعيل، رئيس تحرير القسم العربي بمجلة »الصين اليوم«، يقول في حديثه لموفد الشروق وهو يسترجع شريط الذكريات قبل خمسة عشر عاما أثناء حلوله للمرة الأولى بالصين قادما من مصر، »جلست قليلا إلى أن رُفِعَ الأذان وأُقيمت صلاة العشاء ومن بعدها صلاة القيام، التي صليتها مع من في المسجد إحدى وعشرين ركعة، كل هذا في نصف ساعة تقريبا. كنت أحاول جاهدا مواكبة الإمام الشاب في الركوع والسجود، وكان من الصعب عليّ أن أردد دعاء أو أمنية في نفسي في تلك اللحظات الخاصة جدا. كنت أريد أن أطيل قليلا في السجود، ولكنني أدركت أن ذلك قد يفقدني الركعة التالية«. * * دعوة مشاهير القرّاء والاحتفال بليلة القدر * * وتنظم المساجد النشاطات الدينية الأخرى مثل ترتيل القرآن الكريم قبل صلاة التراويح، وأحيانًا يأتينا أحد القراء العرب لترتيل القرآن الكريم في المساجد. وفي ليلة القَدْر يتجمع المسلمون في المساجد لإقامة الاحتفاء بليلة القَدْر المُبارَكة؛ وإلى جانب ذلك ينهض المسلمون الصينيون في هذه الليلة لإقامة العبادات بقصد تقوية إيمانهم بالله تعالى. * أما عيد الفطر فهو يوم البهجة والسرور، ويحتفل المسلمون الصينيون فيه احتفالاً حارًّا يتبادلون تهنئة العيد بكل السعادة والبركة. * * مساجد الصين أكبر من جوامعنا * * رمضان يوافق الشهر التاسع من التقويم الهجري لذلك يكون 30 يوما غير منقوصة فيما لم يحدث مطلقا وعلى مدار قرابة 14 قرنا أن كان رمضان في الصين 29 يوما، مثلما كان لدينا، وبالتالي لن تكون هناك شكوك فيما إذا قد فطرت يوما. * يذكر، أن الصين تضم 56 قومية من بينها 10 قوميات تدين بالإسلام. ويشير أحدث إحصاء رسمي لسكان الصين الى أن عدد المسلمين يقترب من 25 مليون، بينما يقدر المؤرخون والمستشرقون العدد الفعلي بما يتراوح بين 50 إلى 80 مليون نسمة. * وربما تحاول السلطات الصينية حصر عدد المسلمين في حدود 20 مليونا، بينما يقول المسلمون أنفسهم أن تعدادهم يفوق ال50 مليون نسمة ويعيشون القهر والاضطهاد في الكثير من المدن التي يتركزون بها. * الجميل هو أن الوثائق الصينية تقو إن إجمالي عدد المساجد المنتشرة في شتى ربوع الصين يبلغ حاليا 30 ألف مسجد، أقدمها مسجد (هوايشنج) جنوب الصين وهو المسجد الذي راح الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص يدعو من خلاله المواطنين إلى الدخول في الدين الإسلامي، وهي نسبة كبيرة مقارنة بالمساجد المنتشرة في بلادنا والتي لم تحص أو لا توجد إحصائيات رسمية بشأنها. * وحول نظرة الصينيين لهذا الشهر الكريم، يقول حسين إسماعيل: »الناس في الصين يقدسون مواعيد الطعام لدرجة تقترب من تقديس المؤمن لمواقيت صلاته، ويعجبون منك، وقد لا يصدقون أنك تمتنع نهارا كاملا عن الطعام والشراب، وربما ينصحون ويسألون، ألا تشرب بعض الماء؟ وأقول لهم إن المسألة ليست مجرد امتناع عن طعام وشراب، إنه رمضان!«.