أطفال يصارعون الموت بالابتسامة أولياء يلهثون لتوفير الدم لأبنائهم وآخرون يسافرون إلى العاصمة من مختلف الولايات "أطفال خلقوا ليتعذبوا ويموتوا في صمت.. إنهم يموتون لأنهم لا يجدون من يحضر لهم الدواء.. ما عساني أفعل أو أقول وقد تعودت على مشهد رؤيتي ابني يموت ويحيا بين الفينة والأخرى"، هي كلمات رددتها على مسامعنا أمهات "مكويات" على فلذات كبدهن ينتظرن لحظة وفاتهم. رغم أنهم يتألمون ويعانون بعد أن حوّل المرض الخبيث حياتهم إلى يوميات للبحث عن قطرات الدم وجرعات العلاج، إلا أن الابتسامة والضحكة لم تفارق وجوههم البريئة طيلة فترة بقائنا معهم، يخال الجالس إلى جانبهم أنهم أطفال عاديون لا يعانون من أي مرض، حديث عن مباريات الخضر وآخر عن شبيبة القبائل، ليس هذا فحسب فمظاهر التكافل التي تميّز علاقاتهم، تجعلك تحس أنهم أسرة واحدة، رغم أنهم أطفال، ينتظرون إطلالة ذويهم وحتى الأشخاص الذين يتكرّم عليهم بالزيارة بلهفة وشغف. يسافرون من مختلف الولايات إلى العاصمة لغرض العلاج ولكن... لفت أنظارنا ونحن ندخل إحدى قاعات المرضى من أطفال السرطان ونحن متواجدين بمستشفى "بارني"، طفل كان يبدو في الرابعة من العمر، كان نائما وفي يده أنبوب المصل الغذائي أو "الصيروم"، كان يبدو غائبا عن الوعي، ما هي إلا لحظات حتى جاءت والدته، قالت إن ابنها دخل اليوم إلى المستشفى وإنها اصطحبته من بجاية رفقة والده حتى يتمكن من الخضوع للعلاج الكيماوي بعد أن سكن في دمه المرض الخبيث، وفي ظل افتقار ولاية بجاية لهذا النوع من المصحات المتخصصة في العلاج الكيماوي، تحتّم عليهم نقله إلى العاصمة حيث سيباشر عملية العلاج، ولكن... هل من أمل لشفائه، فحسب أحد العاملين بالمستشفى فإن المرض الخبيث قد استشرى في كامل دمه ولا يوجد أمل لاستعادة عافيته اللهم بمعجزة إلهية. حسان... "أعيش أسير الفراش منذ ثلاث سنوات وأجهل والدي" بعبارات حزينة أجابنا الطفل حسان صاحب الثماني سنوات عندما سألناه عن حكايته مع الألم والمرض، أنه يتردد على المستشفى منذ ثلاث سنوات، وكان عمره لا يتجاوز الخمس سنوات عندها، حيث كشفت التحاليل الطبية أنه يعاني من سرطان الدم، ومنذ تلك الفترة بدأت حكاية الطفل حسان مع المعاناة، وأصبحت حياته رهينة العلاج الكيماوي الذي يتلقاه في المستشفى وقطرات الدم التي يجود عليه بها ذوو القلوب الرحيمة، زاد من شدتها وقساوتها تخلي والده عنه وعن أخته التوأم وهو رضيع عمره ثمانية أشهر، حيث يعيش رفقة والدته وأخته في بيت جده، غير أن كل هذا لم يمنع الطفل حسان، الذي أخبرنا أنه يجهل والده، من التفكير في مصير والدته وأخته، وتمنّى لنفسه الشفاء حتى يتمكن من إعالة أخته ووالدته. وفي حديثنا لوالدته أخبرتنا أنها هي الأخرى خضعت قبل سنة لعملية استئصال الثدي، بسبب إصابتها بمرض السرطان، حيث تداوم على العلاج الكيماوي، وأخذت هذه الأخيرة تروي معاناتها مع المرض الذي حول حياتها إلى جحيم، خاصة بعد تدهور حالة ابنها الصحية، وأضافت "أم حسان" وهي تتحدث عن مأساتها: "عندما أرى ابني في تلك الحالة يراودني شعور باليأس عندما أشاهد ولدي وهو يتألم دون أن أتمكن من التخفيف عليه، ولكن أعود واستغفر الله وأحمده عندما تستقر حالته"، وأردفت: "أتعذب لرؤيته يعاني وأتعذب لعجزي عن تلبية طلباته.. هذه هي حياتنا". سامي..."إن شاء الله أتعافى بعد العملية" "إن شاء الله نبرا باه نقدر نلعب مع خاوتي"، هي العبارة التي ردّ علينا بها »سامي« صاحب الأربع سنوات عندما سألناه عن مرضه وأخبرنا أنه يدرس في القسم التحضيري، حيث يسكن بتيزي وزو وأنه سيتمكن من الالتحاق بالقسم الابتدائي في حال شفائه بداية الدخول المدرسي القادم، وبقي "سامي" طيلة الوقت يحدثنا عن موعد قدوم والدته، ولدى مجيء هذه الأخيرة أخبرتنا أنه سيخضع لعملية جراحية الأسبوع القادم، وكشفت في سياق حديثها لنا أنه يعاني من ورم خبيث في بطنه، ورغم تأزم وضع "سامي" الصحي، خاصة بعد سقوط شعر رأسه، إلا أنه لازال محافظا على حيويته، وبقي طيلة مكوثنا بالمكان يحاول إظهار أنه شخص معافى وأن المرض لم ينل منه رغم تدهور وضعه الصحي وتساقط شعر رأسه، يسأل عن أخبار المباراة التي أجراها الفريق الوطني مرة ويتحدث عن نجمه المفضل "كريم زياني" الذي يحتفظ بقميصه منذ ملحمة أم درمان مرة أخرى، متناسيا قدره الذي حوله إلى أسير فراش. عبدو... "متعتنا كبيرة عند زيارة اللاعبين لنا" "عبدو"، الطفل المتفائل الطموح، لم يخل حديثنا إليه طيلة الوقت الذي قضيناه معه من الدعابة، غير أنه لم يفصح لنا عن اسمه من الوهلة الأولى، رغبة منه في التأكد من هويتنا، خاصة وأننا كنا نرتدي مآزر زوّدنا بها أحد الأطباء، الذي نصحنا بمحاولة تقمّص شخصية الطبيب للتمكن من دخول عالمهم دون أن يشكل وجودنا معهم أيّ حرج، والأمر الملفت للانتباه أن "عبدو" المولوع بجبه لكرة القدم يناصر وإلى جانب الفريق الوطني كل الفرق المحلية التي سجلت حضورها بقوة على الساحة الرياضية الوطنية، حيث يضع على يديه أشرطة ملونة تحمل ألوان الزي الذي يرتديه وفاق سطيف وشبيبة القبائل، وراح يحدثنا عن مهاجم شبيبة القبائل محمد الشريف الذي سبق وأن أجرى زيارة إلى مرضى السرطان بالمستشفى، معربا عن طموحه في يصبح لاعبا مثله في المستقبل، وقام بإظهار صورة على هاتفه النقال كان قد التقطها رفقته، وأخذ "عبدو"، الذي لم يجد حرجا في التحدث عن مرضه، مؤكدا في سياق حديثه أن والده هو من يتولى إحضار أكياس الدم التي تستعمل في علاجه، مضيفا أن عائلته تجد صعوبة كبيرة في الحصول على كمية الدم التي يتم إضافتها إلى جسمه، خاصة وأنه يحمل فصيلة دم نادرة. أم محمد: "حالة ابني تتطلب العلاج في الخارج لكن ضعف الإمكانات حال دون ذلك" محمد "الظاهرة"، أثار ضحكنا عندما ردّ على سؤالنا بخصوص فترة تواجده في المستشفى قائلا: "إيييه أنا قديم"، محمد الذي يبلغ من العمر 12 سنة رغم أن جسده الهزيل يوحي بأنه أصغر من ذلك، كانت الفرحة والسعادة تغمرانه، لأنه كان ينتظر قدوم أهله لاصطحابه إلى المنزل وقال في حديثه لنا إنه يتواجد بالمستشفى منذ ثلاث سنوات، غير أن في الفترة الأخيرة أصبح يقصد المستشفى في الصباح ويغادره في المساء بعد أن يخضع للعلاج. وأسر لنا محمد، الذي يسكن ببلدية سيدي موسى، ضواحي العاصمة، أن الأطباء نصحوا والديه بنقله للعلاج بالخارج، خاصة وأنه يعاني من أمراض أخرى، بالإضافة إلى المرض الخبيث الذي يعاني منه، غير أن والده لم يجد حيلة للتخفيف عن ابنه بسبب الفقر، وهو الأمر الذي كرس المعاناة التي يعيشها محمد منذ سنوات، وجعله يتأخر في دراسته وحتى في نموه. الطفلة سارة: "أكثر ما يحزنني بعدي عن عائلتي في رمضان" كانت "سارة" أول من التقينا لدى دخولنا القسم الخاص بالبنات في القسم المخصص لعلاج مرضى السرطان..، كان الأمر الأكثر صعوبة بالنسبة لسارة، هو بعدها عن العائلة في هذا الشهر الكريم الذي يلمّ شمل العائلة، خاصة وأنه ليس بإمكان أهلها زيارتها يوميا، قالت إنها تسكن بمدينة المدية، وأنها خرجت من المستشفى لأيام وعادت بعد قضاء بضعة أيام من هذا الشهر الفضيل بين أفراد عائلتها، متأسفة لعدم تمكّنها من قضاء بقية أيامه في أحضان عائلتها بسبب خضوعها للعلاج، وقالت سارة إنها تتردد على المستشفى منذ ثلاث سنوات - أي منذ إصابتها. ... حتى الرضع لم يسلموا من هذا المرض الخبيث! يصعب عليك وأنت تتجول في القسم الخاص بالبنات، تحمل مظهر رضيعات أكبرهن يبدو عمرها ثمانية أشهر، غير أن صغر سنهن وجهلهن بما يدور حولهن لم يشفع لهن عند المرض الخبيث...، وقد لا يستطيع ذوو الشعور المرهف رؤيتهن مستلقيات على أسرّتهن وفي أياديهن أنبوب "المصل" وأمهاتهن بجانبهن تنتظرن استفاقتهن. نقص الدم والدواء سبب تعاسة الأولياء "وكأن أبناءنا خلقوا ليتعذبوا ويموتوا في صمت، وأنهم خلقوا للموت.. لا لشيء إلا لأنهم مصابون بالسرطان نريد الدواء لعلاج أبنائنا"، هي العبارات التي رددتها إحدى النساء اللائي اضطررن للإقامة بالمستشفى إلى جانب ابنها الذي يرقد بقسم علاج الأطفال المرضى بالسرطان منذ أكثر من سنة، مؤكدة أنها من تولت توفير الدواء الذي يستعمل في حصص "العلاج الكيماوي" لابنها وبطريقتها الخاصة، مؤكدة أنها لجأت في مرة سابقة التي شرائه من الخارج ومن حسابها الخاص بمبلغ تجاوز العشرين مليونا وهو مبلغ ليس بالهين ويصعب على غالبية الأولياء توفيره لغرض الحصول على هذا النوع من الدواء الذي يعرف نقصا كبيرا في المستشفيات الجزائرية بشكل عام، دون الحديث عن محدودية المراكز المخصصة لتقديم هذا النوع من العلاج، وقالت أخرى إنها اضطرت إلى الحصول عليه بطريقتها الخاصة. وفي سياق متصل، كشفت سيدة أخرى عن المعاناة التي يجدها أولياءهم في رحلة العثور عن شخص يتبرع لهم بقطرات دم لإنعاش أجسام أولادهم به، وقالت إن زوجها لا يجد، إلا بشق النفس، على من يعطيه من دمه لابنها الذي يرقد في المستشفى. نفس الشكوى سمعناها على لسان أم أخرى، قالت إن زوجها هو من يتولى توفير الدم لابنها، وأنه يواجه صعوبة في ذلك، خاصة وأن فصيلة دم المصابين بسرطان الدم في الغالب نادرة. السيدة رحال مديرة مستشفى نفيسة محمود "بارني" ل"الشروق": "نعاني نقصا كبيرا في الأدوية المضادة للسرطان" أكدت السيدة رحال، مديرة مستشفى "بارني" في حديث ل"الشروق"، أن المستشفى يعاني نقصا كبيرا في الأدوية المضادة للسرطان، ويتعلق الأمر بستة أنواع يتحصل عليها المستشفى بصعوبة فيما يشكل الافتقار إليها خطرا كبيرا على صحة الأطفال المرضى. وقالت السيدة رحال إنها أودعت طلبات لدى الوزارة بخصوص قائمة الأدوية الناقصة على مستوى قسم علاج الأطفال المصابين بمرض، مؤكدة أن نقص هذه الأدوية على مستوى المصلحة يشكل خطرا كبيرا على صحة المرضى، وأن العديد من الأطفال يموتون بسبب غياب الدواء. وفي سياق متصل، قالت السيدة رحال، إن كميات الدم متوفرة باستثناء فواصل الدم النادرة، وأرجعت سبب توفر الدم إلى تبرعات المواطنين الذين لا يبخلون بدمهم على المرضى، خاصة وان المستشفى اعتمد سياسة خلال شهر رمضان المعظم لفائدة المصابين. اكتشاف السرطان في مرحلة متأخرة سبب ضياع أمل الشفاء وفي سياق متصل أرجعت السيدة رحال سبب تأزم حالة الأطفال الذين يعانون من مرض السرطان إلى إهمال الأولياء لصحة أبنائهم، موضحة أنه من واجبهم استشارة الطبيب وإجراء فحوصات طبية لهم والتأكد من حالتهم الصحية، مؤكدة أن غالبية الحالات تكتشف في وقت متأخر، أي بعد تطور المرض في جسم المريض وانتشاره في جسمه، وهو الذي يجعل من إمكانية الشفاء ولو بشكل نسبي مستحيلة، ونصحت الأولياء بضرورة مراقبة أبنائهم وإجراء الفحوصات الطبية اللازمة في حال حتى يتمكن الأطباء من استدراك حالاتهم.