" حفاظا على المقاعد " . . . القصة التي لم ينشرها الطاهر وطار الحلقة الثانية كانت البداية في منتصف الثمانينيات. يومها ضربت موعدا للشاعر المصري أحمد فؤاد نجم الذي كانت تربطني به علاقة وطيدة خلال إقامته بالجزائر، من أجل أن آخذه إلى مصحة بحي بلكور العتيق للعلاج. فحضر إلى الموعد وجاء برفقته حينها الروائي الطاهر وطار الذي كنت أعرفه من خلال كتاباته فقط ولم يحصل لي الشرف أن التقيته شخصيا قبلها . * أيام قليلة سبقت هذا اللقاء كنت قد أتممت قراءة روايته "العشق والموت في الزمن الحراشي". وهي رواية تناول فيها تجربة الطلبة الجامعيين في التطوع الصيفي لفائدة الثورة الزراعية. وبما أنني كنت منذ سنوات خلت عشت هذه التجربة أعجبت بالرواية أيّما إعجاب، مثلي مثل الكثيرين من الطلبة، أجد نفسي مجسّدة في بعض طيّاتها. إعجابي بهذه الرواية جعلني أرغب في ترجمتها إلى الفرنسية. وشجعني كثيرا الطاهر وطار على ذلك، خاصة بعدما ترجمت له مقالتين صحفيتين نشر إحداهما بالجريدة الفرنسية "لومانيتي" "L'Humanité" بعنوان "قسنطينة عزيزتي"، وللأسف الشديد لم أحقق إلى يومنا هذا أمنيتي في ترجمة إحدى روائعه. وحتى آخر زيارة أديتها له في باريس عرض عليّ ترجمة آخر ما كتب "قصيد في التذلل"، وأرجو من المولى أن أحقق هذه الرغبة في المستقبل القريب. * منذ الوهلة الأولى من لقائنا وبحضور الشاعر أحمد فؤاد نجم، فاجأني الطاهر وطار بتواضعه وبتلقائية لا مثيل لها. في لحظات قليلة اكتشفت ميوله للنكتة وعبقريته الأدبية التي يستوحيها من تراثه الشاوي وثقافته العالية وبساطة نظرته العميقة للواقع اليومي المعيش. عملاق الرواية الجزائرية أبهرني ببساطة كلامه وكأنه يقول لي أنا كعامة الناس . * * أرغم على التقاعد في الثامنة والأربعين * كان في تلك الفترة يعيش أيامه الأولى من التهميش، إذ أحيل على التقاعد وهو في أوج العطاء ولم يبلغ الثامنة والأربعين سنة من عمره، كان يمر بفترة جد عويصة ولكنه عرف كيف يجتازها بصدر رحب وبفلسفة لا يفقهها إلا الكبار. بالرغم من أنه رجل حساس كان لا يحقد على من آذاه ولا يبالي بأولئك المتملّقين الذين أداروا له ظهورهم بمجرد أن أنهيت مهامه كمراقب بحزب جبهة التحرير الوطني وأصبح مواطنا عاديا. فلم يبق من الأصدقاء الذين أظهروا له الوفاء والإخلاص إلا القلة القليلة وأخص منهم بالذكر السيد بوخالفة الذي كنا نلقبه بسيدي "الكوميسير " باعتباره كان محافظا للحزب بولاية المدية . * الطاهر وطار الذي كان يفتح باب بيته لكل من طرقه وجد نفسه تقريبا وحيدا ومن خلال تلك الوحدة ليكتشف أصدقاء جددا يحبونه ويحترمونه لا لمنصب في الدولة أو في الحزب ولكن لطيبة قلبه وسعة صدره وطهارة سريرته. * وأصبح يدور في فلكه شلة من النساء والرجال الذين يقدرون الرجل والروائي دون أحكام مسبقة وبعيدا عن كل حساب. وهكذا دخل في عالمه مسرحيون وممثلون أمثال مصطفى شريف زياني عياد الذي أخرج للمسرح قصة "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" والممثلة القديرة صونيا التي لعبت أحد الأدوار الرئيسية في هذه المسرحية والأستاذ مخلوف بوكروح الناقد المسرحي والأستاذ الجامعي الذي أصبح أحد الأعضاء الفاعلين بجمعية الجاحظية في بداية نشأتها وغيرهم من الصحافيين والمثقفين الذين لا يربطون علاقاتهم بالناس تزلّفا للمنصب أو المستوى الاجتماعي. * * كان بومدين يقرأ كل ما يصدر عن وطار ويناقشه * طيلة السنوات الأولى من التقاعد لم ينشر الطاهر وطار أي رواية ولا حتى قصة واحدة، بالرغم من أن الكتابة تمثل بالنسبة له الهواء الذي يتنفّسه، كتب الكثير وكنت أقرأ له وهو يكتب وهذا كان الشرف العظيم الذي أهداه لي، ألّف قصة تحت عنوان "حفاظا على المقاعد" ولم ينشرها إلى حد الآن، ولا أدري ماذا فعل بهذه القصة الجميلة التي كتبها بشاطئ الشنوة بعد عودته من سفر إلى عنّابة حيث زار والدته واستلهم موضوع القصة من حفاظ المسافرين على مقاعدهم بقاعة الانتظار بمطار عنابة رغم الحرارة وطول مدة تأخر الطائرة. وشبّه هذا الموقف بموقف الحكام الذين يتشبثون بكرسي الحكم . * سبب عدم نشره لكتاباته أثناء العشرية السوداء فسّره لي قائلا : " لا أشرّف هذه المرحلة بكتاباتي ولا أشرفهم بمس شعرة منّي بسبب مواقفي " . * من المعلوم أن كتابات الطاهر وطار كانت شديدة اللهجة. وقد كان الرئيس الراحل هواري بومدين يكنّ له احتراما كبيرا إلى درجة أن أديبنا قال لي يوما وأنا أحفّزه على نشر رواية أو مجموعة قصصية: "لمن تريدني أن أكتب، ومن كان يقرأ لي مات، فلمن أكتب؟". صحيح كان هواري بومدين يقرأ كل ما يصدر عن الطاهر وطار ويناقشه في كتاباته . * وروى لي كاتبنا الكبير الحادثة التي وقعت له مع الرائد الهاشمي هجرس الذي كان مديرا للمحافظة السياسية للجيش الوطني الشعبي، حيث استدعاه بعد أن اطّلع على قصة "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" في إحدى المجلات المشرقية. القصة كانت قاسية جدا في نقدها للأوضاع السائدة آنذاك وتناولت بشدّة الوضعية المزرية التي كان يعيشها المجاهدون وعائلات الشهداء. فلما دخل مكتب الرائد الهاشمي هجرس كان أول ما لفت نظره تلك العلامات العديدة ذات اللون الأحمر على النسخة المرفوفة على الطاولة، وبلطف عاتبه مدير المحافظة السياسية قائلا له: "يا سي الطاهر أنت ابن الجيش وجبهة التحرير كيف تكتب هذه القصة؟". انزعج الطاهر وطار ورد قائلا: "أنا لست من أولئك الذين يكتبون ويشتمون الثورة من وراء البحار. أنا روائي أكتب بأحاسيسي ومشاعري. وإن أردتم أن أغادر البلاد فقولوها لي صراحة"، هدّأه الرائد هجرس وأفهمه أن قصده لا يوحي لا بتهديد ولا بإنذار إنما هي لومة مجاهد لأخيه . * حتى وإن غادر مكتب مدير المحافظة السياسية للجيش الوطني الشعبي بعد مصافحة أخوية بقي الطاهر وطار الأديب الحساس إلى درجة الشفافية يتساءل في قرارة نفسه، هل تسعى السلطات إلى إخماد صوته وكسر قلمه؟. لم يهدأ له بال حتى بلغ الخبر الرئيس هواري بومدين فطلب هذا الأخير نص القصة وبعد قراءته لها أمر بنشرها في الجزائر، وهكذا نشرت القصة ضمن مجموعة قصصية ومن ضمنها "الضابط والزنجية" التي يتعرض فيها الروائي الراحل إلى بلادة بعض ضباط الجيش الذين يسعون إلى التسلط والتجبر بحكم البذلة التي يرتدونها والمناصب التي يتقلدونها. * قصة "الضابط والزنجية" لو نشرت في فترة غير فترة الراحل هواري بومدين لسبّبت للروائي متاعبَ لا تحمد عقباها. كتابات الطاهر وطار وخاصّة رواياته الأولى كانت كلها ذات مغزى سياسي. فإذا كانت "اللاز" تعالج مشاركة المناضلين الشيوعيين في ثورة التحرير وما تلقوه من سوء فهم ومعاملة غير لائقة من طرف رفاق السلاح الذين لا يشاطرونهم أفكارهم، كان بإمكان السلطة السياسية أن تتسامح معها إلى حد ما، بيد أن روايتي "عرس بغل" و"الحوّات والقصر" كانتا أكثر جرأة في تهجّمها على النظام ولما أعيد قراءتهما أتساءل: كيف سمح بنشرهما في زمن وصف من طرف البعض بعهد الديكتاتورية العسكرية؟ * فمن يقرأ هاتين الروايتين لا يمكنه إلا الاعتراف بحرية الإبداع في عهد الرئيس هواري بومدين عكس ما يروجه الجهلة والجبناء الذين لا يمكن لهم الاستشهاد حتى بأبسط توبيخ من أدنى مسؤول لإثبات إدعاءاتهم أن الفترة البومدينية تميّزت بالحكم الديكتاتوري والتسلطي. وهل يقتنع الجبناء أصحاب هذه الإدعاءات الباطلة بأن عودة الروائي رشيد بوجدرة من منفاه ليعبر بحرية عن آرائه وأن يبدع أحسن إبداع سجلت في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين؟ وأضيف أن الروائي والمسرحي الشهير كاتب ياسين عاد هو الآخر من المنفى في الفترة نفسها وصال وجال في ربوع الوطن بفرقته المسرحية التي لم تترك ولا قرية من دون أن تعرض فيها إبداعات كاتب ياسين. وتروي لي السيدة أنيسة بومدين أنها بعد وفاة الرئيس إلتقت كاتب ياسين فأهداها إحدى مؤلفاته بأجمل عبارات التقدير ما مضمونه: "في ذكرى أكبر رئيس عرفته الجزائر". * الطاهر وطار الذي كان يشغل منصب مفتش في جهاز جبهة التحرير الوطني لم يتوان في انتقاده للحزب الذي كان موظفا في صفوفه. وما قصتي "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" و"الضابط والزنجية" وبعدهما رواية "العشق والموت في الزمن الحراشي" إلا دليل قاطع على الانتقادات اللاذعة التي وجهها الطاهر وطار ضد النظام الحاكم وعلى رأسه آنذاك هواري بومدين . ونضيف إلى هذه الأعمال رواية " الحوّات والقصر " التي تعد بمثابة موقف شجاع ضد انقلاب 19 جوان 1965 . * * يوم عوير وطار لأنه استعمل الكومبيوتر؟ * هل كان للطاهر وطار شجاعة وجرأة يفتقدها غيره من الكتّاب؟ كتاباته تدل على ذلك وإلا كيف نفسر محتواها الثائر؟ معرفتي له عن قرب جعلتني أفسّر هذه الشجاعة بطبيعة شخصيته. حقيقة هو ينتمي إلى منطقة معروفة بشجاعة رجالها وخشونة رؤوسهم كما يقال. ولكن هناك شيئا آخر لابد من تسجيله وهو ميوله للمشاكسة وحبّه الشديد للصراحة التي تزعج الكثيرين من أصدقائه ومن هم حوله . وكم سببت له من متاعب وعداونية بعض الذين لا يتقبلون الحقيقة كما هي . * فالطاهر وطار الذي تجرّأ على انتقاد النظام بأسلوب يمكن وصفه بالعنيف إذا ما تعمقنا في خلفيات رواية "عرس بغل" التي كان يشير فيها إلى الراحل هواري بومدين وأعضاء مجلس الثورة، فلا يمكنه أن يجامل فلانا أو يتملّق لعلان. للرجل كلمة يقولها ويمر. ويترك الكلاب تنبح . وما يبقى في الوادي غير أحجاره مثلما كان يردد عندما أسأله عن سبب اتخاذ موقف من المواقف التي تثير عدوانية أصدقاء يتحولون إلى خصوم في لحظة عابرة . * كثيرون هم الذين اعتبرهم في صفّه أو من عائلته الفكرية أو الأدبية مثلما حدث له مع الروائي رشيد بوجدرة عندما تدخل في نزاع عبر صحيفة "المساء" دار بين بوجدرة وأحد الروائيين الشباب ويتعلق الأمر بالمرحوم بختي بن عودة. هذا الأخير اتهم صاحب رواية "الحلزون العنيد" بالسرقة الأدبية مع كل الإثباتات والأدلة. كل ما في الأمر أن وطار لما اطلع على ردّ رشيد بوجدرة انتفض لما قرأه وطلب أن يكون الرد ضد اتهامه بالسرقة في مستوى الأديب وعليه أن يأتي بالحجج وليس بالكلام البذيء والسب والشتيمة. انبثق عن هذا الموقف تراشق وتلاسن عبر صحيفة " المساء " ووقفت العناصر التي كانت تدّعي يساريتها الفكرية ضد الطاهر وطار الذي كان متشبّعا بإيديولوجيتهم . * موقف آخر جلب للروائي الطاهر وطار هجمة شرسة لم يكن يتوقعها إطلاقا. هذه الهجمة جاءت كرد على موقفه من اللغة الأمازيغية بعد نشره في أسبوعية "الجزائر الأحداث" التي كانت تصدر باللغة الفرنسية موضوعا تحت عنوان "في الأمازيغية وأشياء أخرى" وكان لي شرف ترجمته. الصحف المعربة ولم تكن كثيرة آنذاك، رفضت نشر الموضوع لكنها ردّت عليه بقساوة وعنف وأحيانا بلهجة غير لائقة. فتسارعت الأقلام التي لم تبرز قبل ذلك الحين لتكشّر عن أنياب أصحابها علهم ينالون شهرة من خلال تهجّمهم على روائي بمستوى الطاهر وطار. حتى مَن لم يقرأ المقال مثل أحد الزملاء وقد عرفته في مدرسة الصحافة والذي لا يفقه شيئا في اللغة الفرنسية ولم يعمل يوما واحدا كصحافي فتحت له جريدة "الشعب" أعمدتها للهجوم على الطاهر وطار ولا أريد ذكر هذا الشخص حتى لا أشرفه وأنا أتحدث عن إيقونة الأدب الجزائري. تجاهل الطاهر وطار خصومه ورفض أن يعيرهم أدنى اهتمام إلى أن نشر محمد عباس مقالا لم أجد فيه شخصيا كلاما جارحا ولكن ما أزعج وطار جملة في المقال يصفه فيها محمد عباس بالصديق. عندئذ رد الطاهر وطار بمقال عنونه ب"لست صديقا لمحمد عباس". * كان أول مقال ينزل على جريدة " الشعب " وهو مكتوب بآلة الحاسوب فكانت فرصة لخصومه ليكشفوا عن مستواهم الحقيقي لما راحوا يعايرونه في ردودهم باستعمال الكمبيوتر .