اختتمت أمس الأول الثلاثاء بطرابلس أعمال المؤتمر الثالث للشراكة الافريقية الأوربية ببيان حافل بعبارات الأمل والطموح والمطالب السمراء . وتتعلق تلك المطالب بدعم الاستثمار وتحقيق الشراكة المتوازنة والاندماج الاقليمي وهي نفسها المطالب التي أطلقت في قمة القاهرة العام 2000 وفي قمة لشبونة العام 2007 . ومن الجانب الأوربي لم تلتزم الدول الأوربية بشيء سوى تأكيد الدعم الموجه للشراكة الأفروآسيوية والمقدر ب 50 مليار يورو على آفاق 2013 في حين تبلغ الديون الأوربية المستحقة على افريقيا بما فيها الخدمات المالية 300 مليار يورو . فإلى أي حد تتقاطع الأهداف المعلنة لأطراف الشراكة على الساحة الإفريقية ؟ وهل يملك الاتحاد الأوربي نفس الرؤية التي ينادي بها الأفارقة منذ العام 1994 تاريخ دخول افريقيا في مسار الاتفاقيات التجارية والاقتصادية المشتركة مع أوربا ؟ * الأفروأوربية والاتفاقيات الصامتة * ليس جديدا أن يرافع الأفارقة من أجل شراكة أكثر عدلا مع الأوربيين ، وليس جديدا أن تعقد المؤتمرات بين الطرفين بل الأكثر من ذلك أن مسعى المفاوضات لإطلاق اتفاقيات مشتركة شاملة للتجمعات الإفريقية يعود الى العام 2002 ، وتحصي افريقيا حاليا مشاريع ومذكرات تفاهم اقتصادية بين الاتحاد الأوربي وكل من دول شرق افريقيا ، دول افريقيا الغربية ، مجموعة افريقيا الوسطى ودول افريقيا الجنوبية ولكن جميع تلك الاتفاقيات ظلت دون تطبيق فعلي وبعضها لم يحظ بإجماع المجموعات ، وبقيت فقط مجموعة شمال افريقيا خارج اطار الاتفاقيات الشاملة وربما رأى الاتحاد الأوربي في الاتفاقيات الثنائية أقصر طريق لتحقيق جدوى الشراكة في ظل القضايا العالقة بين دول الشمال الإفريقي أي قضية الصحراء وتباطؤ أداء الاتحاد الاقليمي المغاربي وموضوعات الأمن المشترك. * ويمكننا أن نصف الاتفاقيات الشاملة المذكورة بالصامتة لأنها لم تؤد الى صياغة برامج التنفيذ المناسبة لأسباب كثيرة منها مقاومة الجمعيات الأهلية للأهداف المعلنة في الأجندة الأوربية والتي توصف بالوجه الآخر للتوسع الاستعماري على قاعدة التجارة والدليل على ذلك هو التركيز الأوربي على التجارة الحرة والاستثمار في الخدمات والانصياع لقرارات الشركات الخاصة ومجموعات رجال الأعمال الذين يبنون قرارات استثماراتهم على تحقيق الربح الرأسمالي بصرف النظر عن الأهداف التنموية والشراكة الاستراتيجية والتعاون المشترك وغيرها من مصطلحات القاموس السياسي والدبلوماسي بين الدول . * * فشل الاتفاقيات الثنائية * قال رئيس الجمهورية في كلمته أمام قادة الدول المشاركين في المؤتمر الثالث للشراكة الافريقية الأوربية : "الاستثمار هو الذي يجب أن يكون محور الشراكة بين افريقيا وأوروبا" وقال الزعيم الليبي : "إن تاريخ العلاقات الاقتصادية الأفروأوروبية اتسم بالفشل" ، كلام صحيح من منظور النتائج المتأتية عن الاتفاقيات الاقتصادية الثنائية بين الجانبين ، وبنظرة سريعة لتلك النتائج نرصد ما يلي : خسرت الجزائر – مثلا – جراء اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوربي خلال السنوات الثلاث الأولى من بدأ تطبيق الاتفاق العام 2005 ، 1.5 مليار دولار، رقم يقترب جدا من المتوسط السنوي للاستثمارات الأوربية المباشرة في الجزائر خلال 10 سنوات والمقدرة ب 17 مليار دولار . ولم يحسن الاتفاق شيئا في نسبة رأس المال الأوربي في التراكم الرأسمالي للجزائر مادام الرقم لا يتجاوز 6 بالمائة ، وظلت 10 مشروعات جزائرية فرنسية حبيسة الأدراج منذ العام 2007 بسبب اشتراطات الطرف الأوربي القائمة على فكرة "السوق" بدل "الاستثمار" ، أما مع الشروع في تنفيذ الخطة الخمسية الجديدة 2010 – 2014 فإن رقم مساهمة رأس المال الأوربي في تنفيذ الخطة لا يكاد يذكر . ولكن في نفس الوقت ارتفعت المبادلات التجارية الجزائرية مع الاتحاد الأوربي الى سقف جديد هو 52 بالمائة ، تفسره الواردات الجزائرية من السوق الأوربية بنسبة تقارب المائة بالمائة اذا استثنينا صادرات الطاقة في الميزان التجاري الجزائري ، ولولا المحروقات التي تشبه في جانبها الريعي الذهب والماس لرجعت بنا الوقائع الى التاريخ التجاري الأوربي الافريقي لفترة القرن 18 عندما كان الوافدون الأوربيون من اسبانيا والبرتغال وفرنسا وايطاليا يمرون على خيم القبائل الافريقية فيضعون عندها السلع االاستهلاكية البسيطة ليجدوا بدلها في اليوم الموالي أكوام الذهب الافريقي اللامع . * * الرؤية الأوربية ورحلة القفز على فكرة الأفروآسيوية * انعقد في "باندونج" العام 1955 مؤتمر كبير تحت شعار "الشراكة الأفروآسيوية" بمشاركة 29 دولة افريقية وعربية و23 دولة من آسيا . وتزامن المؤتمر مع الحقبة الأخيرة للتوسع الاستعماري الأوربي في افريقيا واستهدف تحقيق أهداف ثلاثة هي : التحرر من الاستعمار ، تحقيق التنمية لدول الجنوب وإطلاق "عدم التحيز" كموقف سياسي للدول العضوة . وسرعان ما تراجعت فكرة الأفروآسيوية عندما لبس المركز الرأسمالي تجاه افريقيا وبقية العالم لبوس "التعاون الاقتصادي" بدءا من حقبة السبعينات ، وكانت أدوات هذا التعاون : المساعدات الفنية ، المساعدات المالية ، خطوط القرض الموجهة للاستيراد ومنح تحفيزات للصادرات الإفريقية نحو أوربا وأغلبها من المنتجات الطبيعية والزراعية والمعادن والمحروقات . وبذلك توزع القرار الافريقي بين استراتيجية النمو على قاعدة التعاون جنوب - جنوب واستراتيجية التعاون على قاعدة شمال - جنوب مما أضعف الفكرة الأولى وطور الفكرة الثانية الى مستوى الشراكة التي انعقد مؤتمر طرابلس من أجلها للمرة الثالثة ، وفي ذات الوقت تشتتت المطالب الافريقية بين قضايا : السياسة ، الأمن ، الارهاب ، الفقر ، الأمراض المتنقلة عبر المياه ، الحكم الصالح ، الفساد ، النهب المنظم لخيرات القارة ، الاستثمارات الأجنبية ، المساعدات ، المساواة بين الجنسين ، التنمية البشرية ، المناخ ، الطاقة ، التكنولوجيا وقريبا الفضاء والنووي . تشتت عقد من وظيفة التنفيذ وأغرق الشعوب الافريقية في خطابات أدبية لا طائل من ورائها . * ولكن ما قيل في طرابلس كان قيل قبلا في لشبونة العام 2007 وقيل قبلا في القاهرة في 2000 وأكيد سيقال مثله في عاصمة المفوضية الأوربية بروكسل العام القادم ، الأفارقة يواصلون المرافعة من أجل تبادل متكافئ وتنفيذ التعهدات وتحويل التكنولوجيا والاستثمار وتعويض الخسائر الناجمة عن تحرير التجارة أما الأوربيون فيطمحون لأسواق جديدة أكثر استقرارا وأمنا ، ولطلب على التجارة تساعد الشركات الأوربية على النهوض من جديد من عثرات الأزمة المالية العالمية وتحمي موازنات الدول الصناعية الكبرى من حالات العجز التي عصفت بكل من الاقتصاد اليوناني ثم الايرلندي وفي التوقعات الاقتصاد البرتغالي والبريطاني . * يبدو أننا نتجه لمرحلة ستغير فيها الحاجة موقعها حيث ستحتل افريقيا مكانا أكثر ملاءمة لفرض اشتراطاتها على خلفية مواردها وتوازنها المالي وسعة سوقها الداخلية وعلى خلفية تراجع أداء الاقتصاد الأوربي وإشراف المؤسسات الضابطة للتوازن في الأسواق الأوربية على الانهيار، ولكن هل تملك كل الدول الافريقية ذات الرؤية وذات الاستعداد السياسي الذي يتيح لها فرصة التحول الى فكرة أخرى اذا ما استمرت أوربا في تجاهل تلك الاشتراطات؟ * [email protected]