معروف عند العرب خصوصا كثرة المجاملات والمحاباة في كل مجالات الحياة، ويمارسها الساسة والمثقفون والرياضيون وغيرهم بامتياز دون خجل أو تردد، خوفا أو طمعا.. فهذا يخاف من الرئيس والأمير والوزير ويقول لهم ما يريدون وما يتمنون سماعه، وذاك يقوده الطمع في منصب أو مصلحة فيبرر ما يفعلونه ويفعل المستحيل لأجل إرضائهم، وحجته في ذلك التحلي بالأدب والأخلاق، واحترام أولياء الأمر والمسؤولين، والحفاظ على الاستقرار وعدم إثارة وتأليب الشعوب والجماهير، معتبرا ذلك قمة الأخلاق والوفاء والأدب والاحترام، حتى سادنا الاعتقاد بأننا الأحسن والأفضل والأنظف، وأننا نملك الحقيقة والبقية مشوشون ومعارضون .. * من باب الاحترام والأخلاق، يجب أن نقول بأن سياستنا حكيمة واقتصادنا بخير وثقافتنا ثرية وحضارتنا عريقة ورياضتنا متطورة، وأن كل شيء على أحسن ما يرام، وأنه لولا المسؤولون الحاليون لما كان حالنا بخير، فصارت مصر أم الدنيا والجزائر أباها والعراق أم الحضارة وقطر دوحة الخير وتونس بلد الحريات ولبنان مهد الديمقراطية، وكل الملوك والأمراء والرؤساء أفضل خلق الله، وبفضلهم ننعم بالخيرات، ولهم الفضل في الهواء الذي نتنفسه، وكل من يعارضهم خائن وعدو للوطن يحاربه المطبلون والمزمرون. أما عن الوفاء فحدث ولا حرج، لأن التزامنا يكون دائما مع القوي بمنصبه، وعندما يذهب تذهب ريحه ولا يرن هاتفه، ويصبح سببَ الأزمات والمشاكل، ونلفق له كل التهم، وتظهر كل عيوبه، لأن الأخلاق تفرض علينا مجاملة ومغازلة القوي والغني وصاحب النفوذ.. في الكرة كذلك لم نسلم من هذا النفاق، فنجامل الوزير ورئيس الاتحاد والمدرب ورئيس النادي واللاعب، طمعا في رضاهم والتقرب إليهم، وطمعا في لفتة منهم أو منصب أو مكسب، وإذا لم يتكرموا ويردوا الجميل، نحاربهم ونفتري عليهم ونكشف كل عيوبهم، أو نلفق لهم تهما وقصصا من الخيال . بعضنا لا يكتفي بذلك، بل يجامل الصحافيين والجماهير ويتودد إليهم، طمعا في مساندتهم ودعمهم، وطمعا في دعاية يستفيد منها أو شعبية ينالها، وتجدنا نردد أن كل النوادي عريقة وكبيرة ولها تاريخ، وكل اللاعبين نجوم وكل المدربين أكفاء، وكل الجماهير تتحلى بالروح الرياضية، وكل منتخباتنا تستحق التأهل إلى المونديال ووو .. المصلحة صارت هي العنوان، وتتغلب على المنطق والواقع والمبادئ والقيم، وعلى المهنية والاحترافية، وكلنا يرى نفسه على حق لأن المعايير لم تعد محترمة، فصار الولاء الأعمى للأقوى هو المقياس، وصار الشارع هو الذي ينصّب رئيس النادي وليس الجمعية العمومية، وأصبحت الصحافة هي التي تعيّن المدرب وليس رئيس الاتحادية والمديرية الفنية، وهي التي تستدعي اللاعبين وليس المدرب، فضاعت بذلك نوادينا ومنتخباتنا . الأدب جميل والأخلاق جميلة، واحترام المقامات واجب، ولكن النفاق ليس من الأخلاق، والمجاملة والمحاباة هي التي ضيعتنا وقتلت فينا الرغبة في التجديد والتغيير وتصحيح الأمور، والخوض مع الخائضين خوفا وطمعا أحد أسباب تخلفنا وهلاكنا، فذهب الجيل الجديد من أبنائنا ضحية هذه الثقافة التي لا يتقن فنونها، لذلك لم يجد نفسه، واعتبرناه قليل الأدب لأنه صريح يقول الحقيقة، ووصفناه بأنه عديم الأخلاق لأنه لا يمارس النفاق، وبقي في أعيننا قاصرا لا يقدر على تحمل المسؤولية. أدركُ جيدا أن بعض المسؤولين السياسيين والرياضيين - على حد سواء - لا يرضون بالمصارحة والمكاشفة ووضع الأيدي على النقائص لمعالجتها، ولكنني على يقين بأن في الجزائر وفي العديد من البلاد العربية، يوجد الكثير من النساء والرجال الأوفياء لمبادئهم وأفكارهم، ولا يخافون لومة لائم، وهم على استعداد لدفع ثمن مواقفهم.. وهنا يحضرني موقف وزير الصحة الأردني في منتصف تسعينيات القرن الماضي حين أقيل من منصبه لأنه قال للصحافيين بأن المرض يوجد في دوائنا وأكلنا وشربنا، فتمت إقالته ولم يجد من يكلمه أو يواسيه إلى اليوم، كما أتذكر الكثير من الجزائريين الأكفاء الذين ذهبوا ضحايا مواقفهم ومبادئهم . في كرة القدم وباقي الرياضات، نعيش كذبة كبرى حين نعتقد بأن أحوالنا بخير ومنتخباتنا ونوادينا في أحسن الأحوال، وأننا نملك أحسن المدربين واللاعبين، وأننا نعرف خبايا الكرة ونفهم فيها أحسن من غيرنا.. ونعيش كذبة أكبر يمارسها المنافقون وأعداء النجاح بتواطؤ من الصامتين والجاحدين؛ حين نرفض التغيير والتجديد، ونرضى فقط على من يصفق لنا وينافقنا ويجاملنا .. " يا رب ساعدني على قول الحق في وجه الأقوياء، وساعدني على ألا أقول الباطل لكشف تصفيق الضعفاء " .