المكان الذي نحمله في الإبداع أكبر بكثير من الحجر والشوارع والزمن. حسب عمتي ميمونة أطال الله في عمرها فقد ولدت في دار اسمها "دار عثمان" التي لا أعرفها إلا من خلال هذه العمة التي أحبها كثيرا لأنها ظلت رغم كل المحن التي بلاها بها الزمن، ظلت قوية وضحوكة ومبتسمة دائما. * فقد رزقت بولدين مختلين عقليا، وماتت ابنتها الوحيدة البكر في سن مبكرة، ومات ابنها عبد القادر الذي وهب من الذكاء ما لا يتصور، مات هو الآخر شابا وقد ذهب وفي حلقه مرارة ليست كالمرارة، تتمثل في كون بعض "الصغار" ممن تآمروا عليه في جامعة وهران فعرقلوا مناقشة رسالته للماجستير التي كتبها باجتهاد خارق للعادة عن "القراءة عند الجاحظ"، والتي سأنشرها في يوم قريب، بمقدمة للشاعر والباحث أدونيس، على الرغم من أن عمتي لا تزال حتى الآن كلما التقيت بها، يحصل هذا مرات قليلة في السنة لانشغالاتنا بهذه الدنيا السخيفة، لا تزال تمسك بي تعانقني وتضربني وتعنفني وتسبني سباب المحبة العالية، أحبها حين تشتمني، كما لو أنني لا أزال طفلا مقهقها أركب ظهرها في الحفلات والأعياد وهي تقول: أنت ولدت بدار عثمان، ومهما كان إلحاح عمتي على هذا المكان الذي لم أستطع أن أجده في ذاكرتي مطلقا، لأنني ولدت في أيام تعرض فيها بيتنا للقصف، قبل الإعلان عن وقف النار Cesser le feu بقليل، إلا أن قرية أو على الأصح دشرة "أولاد سيدي سليمان" التي منها هربت العائلة الكبيرة والعالم هي التي تسكن رأسي وقلبي وبعض رواياتي وقصصي. وقرية أولاد سيدي سليمان هذه، هي "دشرة آل الزاوي" من قضاء تلمسان، الذين يقال عنهم، وهذا على رواية أستاذ عالم هو الأستاذ حسني محمد -رحمه الله- وكان أستاذا للأدب المغربي القديم بجامعة وهران، والذي لم أعرف في حياتي العلمية والجامعية شخصية جادة ودقيقة المرجع والتواريخ والأنساب مثله، كان الأستاذ حسني يقول لي وأنا أدرس عليه الأدب المغربي القديم والأدب اليوناني تعليقا على اسمي: "إنك من سلالة الملك الأندلسي الأمير زاوي"، وكان يتكلم مدعما حديثه بمراجع ومخطوطات لا تخلو منها محفظته، كنت أبتسم وأنا أسمع كلامه، هذا العالم الذي كان يتقن اللغتين العربية والفرنسية، مداوما على قراءة جريدة لوموند، كنت أبتسم وبين نفسي ونفسي، أنا المتشبع بالفلسفة المادية التاريخية، الطالب المتمرد، أقول: ألم يجد الأمير الزاوي الأندلسي هذا مكانا آخر ينزل فيه بعد أن طردتهم جيوش الملكة إزابيللا سوى هذا المكان الأحرش الفقير، ليستقر؟ وأضحك من ملوك عاشوا في القصور وماتوا في الدشور. عاشوا بغرناطة وإشبيلية وماتوا بامسيردا ودشورها كدشرة أولاد سيدي سليمان، ولكني وأنا أكبر في هذا المكان البسيط بدأت أدرك سحره العجيب، وبدأ يسكنني دون أن أعلم. وآمنت بأن من اختار هذا المقام سكنا لن يكون سوى أميرا أندلسيا، مسكونا بالشعر والتصوف وحب الله والسماء والنساء. وفي هذا المكان نفسه حين نزلت جيوش الأمريكان من قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية واستقرت قبالة دشرتنا حفرت مجموعة من الخنادق لتتمترس بها ولا يزال سكان المنطقة يسمونها "غيران ماريكان"!!! * ثم سافرت إلى تلمسان للدراسة لأقضي فيها سنوات مرحلتي المتوسط والثانوي وكنت أخضع للنظام الداخلي، وكانت تلمسان أول مكان يسرقني من قرية "أولاد سيدي سليمان"، ومع أنني انتقلت من دشرة أسسها أحفاد الأمير زاوي الأندلسي ودخلت مدينة أسسها وسكنها ملوك الأندلس وهي ما هي عليه من جمال وفتنة، إلا أن دشرتي ظلت أكبر وأعز إلى قلبي من المدينة هذه بقصورها وبساتينها وموسيقاها الأندلسية، ولم تعجبني تلمسان، بل أصبحت أتطير منها، حينما قرأت حكاية اغتيال يحيى بن خلدون مؤرخها (1332 - 1379)، وصاحب كتاب "بغية الرواد في أخبار بني عبد الواد وأيام أبي حمو الشامخة الأطواد" والطريقة الحيوانية والهمجية التي تمت تصفيته بها داخل أروقة القصر الملكي، ويحيى بن خلدون هذا هو أخ صاحب المقدمة "عبد الرحمن بن خلدون"، وفي مرحلة تالية مع أنني أيضا سافرت وأقمت سنوات الدراسة العليا في دمشق، حيث أنجزت بها دكتوراه دولة، إلا أن هذه المدينة التي تشبه تلمسان في كل شيء، في الرقة والتجارة والفن، في الماء والغناء والنساء والسماء، والتي أغرت كثيرا من علماء تلمسان للرحيل إليها والإقامة فيها، وعلى رأسهم مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة الأمير عبد القادر والشاعر الرقيق العفيف التلمساني "الشاب الظريف"، على الرغم من كل ذلك إلا أن مدينة دمشق لم تكن بكل هذا النهر الخرافي "بردى" الذي غنته فيروز وجلله وخلده أمير الشعراء أحمد شوقي والغوطة ومسجد الأمويين وصباح فخري وقصر العظم.... لم تكن دمشق الفاتنة قادرة على تغطية دشرتي امسيردا أو تحجبها ولو لدقيقة عن عيني، وحين نشرت مجموعتي القصصية "كيف عبر طائر الفينيقس البحر المتوسط" منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق، كانت افتتاحيتها بهذه العبارة: "من لم يعرف أحراش امسيردا لم يعرف الدنيا". كتبت ذلك وأنا في مدينة يقال، والحجة على مؤرخها ابن عساكر الدمشقي (1105 - 1176)، إنها كانت أول مدينة رفع فيه، سور بعد طوفان نوح عليه السلام. * لماذا يا ترى نحب الأماكن ونفضل هذا عن ذاك؟ * الأماكن التي نكتب عنها هي تلك التي لعبنا فيها زمن الطفولة، ففن اللعب الطفولي كفن الكتابة الإبداعية تماما، يلتقيان في العفوية والصدق والتحدي والمتعة، الشيطنة والملائكية. * عشقت هذا المكان البسيط، الذي هو دشرتي بامسيردا، والذي أصبح اليوم يشبه الأطلال الدارسة، ينتظر شاعرا من شعراء الأطلال ليمر عليه، عشقت هذا المكان لأنه ملعب الطفولة، فعلى أطراف الدشرة، أذكر أننا كنا نلعب لعبة نسميها: لعبة الحجل، مع أقراني من أبناء عمومتي، ولعبة الحجل هذه تتمثل في أن يخفي كل واحد منا عشا يصنعه، ليترك الآخرين يبحثون عنه، كانت الطبيعة التي تحيط بالدشرة معشوشبة حد التوحش، وأذكر أننا كنا نلعب، وإذ الليل سقط نادت علي أختي حفيظة لكي أدخل، وأنهينا اللعبة ولم يستطع أحد اكتشاف المخبأ الذي بنيت فيه العش، وتركناه هكذا، وافترقنا، وكان علي أن أسافر في اليوم التالي إلى مدينة تلمسان للدراسة، وقضيت في الداخلية شهورا، وحين عدت نسيت المكان الذي بنيت فيه العش، وضاع، ولا زلت حتى اليوم حينما تتاح لي فرصة زيارة تلك الأطلال أتساءل أين أخفيت ذاك العش يا ترى؟ لم تستطع المدن الكبيرة التي زرتها أو أقمت فيها من بيكين إلى واشنطن مرورا بريو دي جانيرو وباريس وفرانكفورت وكاركاس ودمشق و بيروت ودبي وتونس وبرلين والجزائر العاصمة وهونكونغ وشيكاغو وبروكسيل وغيرها، جميع هذه المدن الجميلة والساحرة لم تستطع أن تحجب عني شمس دشرتي في أمسيردا، أو تسحبها من ذاكرتي. * عشقت دشرتي بامسيردا لأنني فيها قرأت كتابين عظيمين كانا علامتين في مساري الأدبي وسببا مركزيا في عشقي للغة العربية، فيها قرأت القرآن على والدي رحمه الله وحفظت جزءا كبيرا منه دون أن أدخل كتابا من الكتاتيب، وفيها قرأت، وفي عزلة شبه دينية أيضا، جبران خليل جبران وحفظت كتاب "النبي" عن ظهر قلب. حين ألتفت إلى الزمن الذي مضى، أقول: إن هذا المكان في رموزيته مرتبط أصلا في ذاكرتي بهذين الكتابين وبعمتي ميمونة التي لا تشبهها عمة في الدنيا. * وعشقت دشرتي بامسيردا لأن في مقبرتها الصغيرة مقبرة "الدومة" المطلة على وادي المالحة، والتي أصبحت اليوم مقبرة مهجورة، فيها دفنت أختا كانت بالنسبة إلي أما ثانية، في مقبرتها الصغيرة هذه دفنا أختي الغالية ربيعة، رحلت عنا وهي عاتق لم تتزوج. فكانت فاجعة ليس بمثلها فاجعة. * إن المكان الذي نحمله معنا في الذاكرة وفي المخيال، هو ذاك المرتبط بالطفولة بسعادتها الملائكية وبصدماتها العنيفة كالموت أو الحب، ولا أزال حتى اليوم حين أكتب نصا روائيا بالعربية أو بالفرنسية ولو كان عن مكان حقيقي أو متخيل تتحرك فيه شخصية من الشخصيات الروائية إلا وأجدني مسكونا بطيف ذاك المكان، مكان الطفولة والأحلام، مكان عمتي ميمونة وأختي ربيعة وأخي عبد الرحمن توأمي على الرغم من أننا لم نولد ساعة واحدة ولا سنة واحدة.