رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    الفريق أول شنقريحة يشرف على مراسم التنصيب الرسمي لقائد الناحية العسكرية الثالثة    توقرت.. 15 عارضا في معرض التمور بتماسين    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة : عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    قريبا.. إدراج أول مؤسسة ناشئة في بورصة الجزائر    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت    تيميمون..إحياء الذكرى ال67 لمعركة حاسي غمبو بالعرق الغربي الكبير    أدرار.. إجراء أزيد من 860 فحص طبي لفائدة مرضى من عدة ولايات بالجنوب    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    انطلاق الدورة ال38 للجنة نقاط الاتصال للآلية الإفريقية للتقييم من قبل النظراء بالجزائر    توقيف 55 تاجر مخدرات خلال أسبوع    بوغالي يترأس اجتماعا لهيئة التنسيق    عطاف يتلقى اتصالا من عراقجي    سوناطراك تجري محادثات مع جون كوكريل    مكتسبات كبيرة للجزائر في مجال حقوق الطفل    حوادث المرور: وفاة 11 شخصا وإصابة 418 آخرين بجروح بالمناطق الحضرية خلال أسبوع    توقيف 4 أشخاص متورطين في قضية سرقة    الجزائر العاصمة.. وجهة لا يمكن تفويتها    هذه حقيقة دفع رسم المرور عبر الطريق السيّار    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    السيد ربيقة يستقبل الأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 44056 شهيدا و 104268 جريحا    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    الجامعة العربية: الفيتو الأمريكي بمثابة ضوء أخضر للكيان الصهيوني للاستمرار في عدوانه على قطاع غزة    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    غزة: 66 شهيدا و100 جريح في قصف الاحتلال مربعا سكنيا ببيت لاهيا شمال القطاع    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الجزائر تتابع بقلق عميق الأزمة في ليبيا    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شاهد على اغتيال قانا.. القصة الكاملة لمذبحة القرن
نشر في الشروق اليومي يوم 31 - 07 - 2006

ظلت إدارة التحرير بجريدة "الشروق اليومي" ترفض فكرة توجهي إلى جنوب لبنان بالنظر إلى القصف المتواصل ووضعية المسالك الخطرة جدا على حياة كل من يعبرها، فقد سبق أن قصف الصحافيون وموظفو الإغاثة والفرق الطبية والقوات الدولية ولم تترك إسرائيل هيئة إلا ووضعتها في لائحة أهدافها، وكان مدير التحرير يرفض في كل مرة مجرد التفكير في مغادرة بيروت نحو الجنوب، إلى أن حدثت مجزرة قانا والتي ذهب ضحيتها أطفال نصفهم معوقون فسقطت كل الاعتبارات وكل الحجج وكان لابد من المغامرة مهما كانت النتائج.
مبعوث‮ الشروق‮ اليومي‮ إلى‮ جنوب‮ لبنان‮: رشيد‮ ولدبوسيافة
"شرف التجربة يكفيك"، كانت أول عبارة سمعتها لما ركبت سيارة بيجو استأجرتها الشروق اليومي لرحلة الجنوب، وكانت العبارة من ضمن أغنية مشهورة عنوانها الحلم العربي، فهمت الإشارة وتوكلت على الله وقصدت قانا أنا ورفيقي الشاب الدرزي حسام المغامر الذي لا يعرف التردد والرجوع‮ إلى‮ الخلف‮.‬
قبل ذلك اتخذنا كل إجراءات الحيطة والسلامة المعمول بها، قام هو بنزع الشريط الملون من نوافذ السيارة وملأ خزان الوقود، في هذه الأثناء كنت في الغرفة 909 من فندق البوريفاج المعروف في بيروت والذي كان قبلة السوريين قبل مغادرتهم لبنان، جهزت آلة التصوير وتأكدت من أنها لم تخذلني، فتشت أوراقي، توضأت وصليت ركعتين... هتف لي حسام أن كل شيئ جاهز وما عليك إلا النزول، طلبت بالهاتف مسؤول الاستقبال ويدعى فادي، وهو شاب مثقف مرح يتقن فن التعامل مع الزبائن، وقلت له إني بحاجة إلى إزار أبيض فهل أستطيع أخذه من الفندق وعرف مقصدي مباشرة‮ وقال‮ أعلم‮ أنك‮ ذاهب‮ إلى‮ قانا‮ خذ‮ ما‮ تشاء‮ فقط‮ عد‮ إلينا‮ سالما،‮ حملت‮ معي‮ الإزار‮ الأبيض‮ وللحظة‮ شعرت‮ بأني‮ أحمل‮ كفني‮ معي‮... وأنا‮ أمشي‮.‬
كان حسام ينتظرني بسيارة بيجو 306 بيضاء اللون، وهو في كامل الاستعداد للذهاب إلى قانا مع أنه لا يعرف شيئا عن وضعية الطريق وكانت الأخبار التي عندي أكثر بكثير، لأني كنت مهتما بالرحلة منذ أيام، أما هو فقد أبلغ بالموضوع قبل نصف ساعة!... اتجهنا صوبا إلى محل لبيع الأدوات‮ المكتبية‮ وطلبنا‮ منه‮ شريطا‮ لاصقا‮ أسودَ،‮ وعلم‮ أننا‮ متوجهون‮ إلى‮ قانا‮ فرفض‮ استلام‮ المقابل‮،‮ وقال‮: فقط‮ عودوا‮ بالسلامة‮.‬
وبينما كان صديقي حسام يودع معارفة ويسلم عليهم واحدا واحدا ويطلب الصفح من بعضهم كنت أنا منشغلا بوضع علامة "تي.في" على أبواب السيارة وفوق المحرك وفي سقفها وأنا متأكد أن ذلك لن يشكل فرقا لدى أساتذة الإجرام وقتلة الأطفال، كما أغلقت الباب الخلفي على الإزار الأبيض‮ وأطلقته‮ قليلا‮ حتى‮ يرفرف‮ معلنا‮ أننا‮ مدنيين،‮ وإن‮ كنت‮ أعلم‮ أن‮ ذلك‮ لا‮ يشكل‮ فرقا‮ لدى‮ جبناء‮ بني‮ صهيون‮ أحفاد‮ القردة‮ والخنازير‮.‬
انطلقنا‮ وقبل‮ الخروج‮ من‮ بيروت‮ طاف‮ صديقي‮ حسام‮ على‮ كل‮ الأماكن‮ التي‮ يعرف‮ شبابها‮ معلنا‮ أنه‮ متوجه‮ إلى‮ قانا‮ ومفتخرا‮ بالمهمة‮ التي‮ يجهل‮ عنها‮ كل‮ شيئ‮.‬
انطلقنا ولم يكن صديقي يعلم حجم الدمار فقال إن موعد الوصول سيكون بعد ساعة أو أكثر بقليل، فوصلنا بعد أربع ساعات ونصف، وكان انطلاقنا في الحادية عشرة والربع من توقيت بيروت من صباح يوم المجزرة... وماهي إلا دقائق من السير نحو الجنوب في طريق سريع واسع، حتى لاحت لنا لافتة من بعيد تعلمنا بأن الطريق مقطوع وتشير إلى طريق فرعي يؤدي إلى جبل لبنان، توقف صديقي حسام وسأل عن المسالك التي تؤدي إلى الجنوب، وإلى قانا بالتحديد وكم كانت دهشته كبيرة عندما شرح له عنصر من الجيش اللبناني طرق التسلل إلى الجنوب، عاد إليّ وهو يضرب كفّا بكفّ ويقول لم أكن أعلم أن الانتقال إلى الجنوب يتطلب كل هذا اللفّ والدوران في الطرق الحلزونية لجبل لبنان... أما أنا فقد أصابني الهلع من أن يقرر صديقي العودة إلى بيروت، ولجس النبض قلت له: أتمنى أن لا تثنيك المعوقات على العودة إلى الخلف، فقال إنك لا تعرفني، وبدأ يسرد مغامراته المتعددة والتي من بينها واحدة كادت تفقده حياته، وفيها فقد أعز أصدقائه الذي مات بين ذراعه بعد حادث سير وقعا فيه بدراجة كانا يركبانها... ولما رأيت منه هذا الاندفاع انتقلت إلى مرحلة أخرى من جس النبض، وقلت له:
هل تعلم أن بنت جبيل ليست بعيدة عن قانا، فلماذا لا نذهب إليها سويا ونرى ما يجري هناك، فقال بلهجة لبنانية جبلية "وين المشكلة أذهب معك وبالمرة نشوف مارون الرأس". بعدها أدركت أني مع انتحاري من الدرجة الأولى وأصبحت أنا من يشد على المكابح!!
ساعتان‮ من‮ التيه‮ في‮ أحراش‮ جبل‮ لبنان
كانت رحلتنا إلى قانا مقسمة إلى قسمين، قسم مرهق وقسم مرعب، أما الأول فكان في أحراش جبل لبنان، لم يكن المشكل هناك الخوف من القصف فالمنطقة آمنة وغير مستهدفة بالصواريخ الإسرائيلية ولكن تضاريسها الصعبة أرهقتنا، طرق ملتوية ومتداخلة تُهنا فيها أكثر من مرة، وسألنا المارين وأصحاب السيارات أكثر من خمسين مرة عن الطريق المؤدي إلى الجنوب، مررنا على مدن المور وبعقلين وباتر وجزدين وروم وعبرة وصولا إلى صيدا، وبعد ساعتين من الدوران في جبل لبنان عدنا إلى طريق بيروت الجنوب وكل ذلك كان لتجاوز جسر واحد دمرته إسرائيل.
وسلكنا طريقا ساحليا لا توجد به جسور صوبا إلى مدينة صيدا التي كنت أنازع فيها مدير التحرير أنيس رحماني طالبا منه الإذن بالتوجه إلى صيدا، وظل يرفض لمدة أسبوع كامل، إلى أن جاء الدافع لأذهب إلى صيدا وإلى ما بعد صيدا وما بعد بعد صيدا...
كان‮ الطريق‮ ساحليا‮ خاليا‮ تماما‮ من‮ الجسور‮ ومع‮ ذلك‮ عملت‮ إسرائيل‮ المستحيل‮ لقطعه‮ بالصواريخ‮ التي‮ حفرت‮ بعمق‮ عشرة‮ أمتار،‮ ولم‮ يكد‮ يمر‮ كيلومتر‮ واحد‮ إلا‮ ووجدنا‮ حفرة‮ لا‮ نمر‮ منها‮ إلا‮ بصعوبة‮ بالغة‮.
تدمير وخراب كان يشتد كلما سرنا نحو الجنوب، وهنا بدأنا نسمع أزيز الطائرات، ولا أذكر يوما في حياتي تشهدت فيه أكثر من يوم الأحد العظيم، ولا أذكر يوما ارتفع فيه إيماني بالله أكثر من يوم الأحد العظيم، ولا أذكر يوما شعرت فيه بقرب الآخرة أكثر من يوم الأحد العظيم،‮ ولا‮ شكرا‮ لأبناء‮ القردة‮ والخنازير‮.
كانت الرحلة قبل الوصول إلى صيدا مشجعة جدا رغم مشاهد الخراب والدمار، فنقاط المراقبة التي أقامها الجيش اللبناني كانت توحي لنا بأن المنطقة لن تستهدف، وتواجد الناس كان يبشر بأن المنطقة آمنة، إلى أن وصلنا إلى صيدا التي لم يكن التدمير فيها بالدرجة التي كنت أعتقد،‮ فقد‮ كانت‮ المدينة‮ حية‮ نوعا‮ ما‮ مقارنة‮ بالضاحية‮ الجنوبية‮ والجنوب‮ اللبناني،‮ حيث‮ أن‮ بعض‮ المحلات‮ كانت‮ مفتوحة‮ والناس‮ ‬في‮ الشوارع‮.‬
سألنا عن الطريق المؤدي إلى صور وما أدراك ما صور المدينة التي يقال إنها تحولت إلى مدينة أشباح، كان مجرد التفكير في الذهاب إلى صور هو انتحار محرم بالكتاب والسنة، بالنظر إلى ما رأيناه وسمعناه في الفضائيات بخصوص القصف الدائم لها، وما قيل عن الجثث التي بقيت تحت‮ الركام‮ منذ‮ بداية‮ الحرب،‮ ‬وعن‮ النازحين‮ الذين‮ ليس‮ لهم‮ مكان‮ يلتجئون‮ إليه‮ غير‮ مخيمات‮ اللاجئين‮ الفلسطينيين‮.
مدارج‮ الرعب‮ في‮ غياهب‮ الفراغ‮!‬
وبينما كنت أنا أمرر تلك المشاهد على ذهني وكان صديقي حسام يشق الأرض شقا، انتبهت إلى حالة الصمت والخواء المحيطة بنا، لا سيارات لا مارة لا حيوانات ولا أي شيئ يدب على الأرض، ودخلني الفزع والرعب، وأنا الذي لا أخاف شيئا في الحياة كخوفي من الصمت والخواء، لقد كنت في صغري أعمد إلى الغناء إذا مشيت في مكان وحدي حتى لا يلتهمني الصمت والفراغ، رعب لم أشعر به فيما بعد عندما كنت تحت القصف في قانا وصور! حتى صوت الطائرات الذي كان يكسر ذلك الصمت توقف ولم يعد هناك شيئ للتلهّي... أن يغمرك الصمت وأنت في الريف هذا مقبول، أما أن تعيش‮ تجربة‮ الصمت‮ وأنت‮ بين‮ الأبراج‮ العالية‮ والبنايات‮ الفخمة‮ والمحلات‮ وزخرف‮ الإعلانات‮ في‮ الشوارع‮ الواسعة‮ فتلك‮ تجربة‮ أخرى‮ لا‮ أنصح‮ أحدا‮ بالسعي‮ لخوضها‮.‬
مدن‮ كثيرة‮ وكبيرة‮ مررنا‮ بها‮ على‮ الطريق‮ بين‮ صيدا‮ وصور‮ كلها‮ صامتة‮ هامدة،‮ ولا‮ حراك‮ فيها،‮ غازية‮ وعاقبية‮ وصرفند‮ وعدلون‮ وأبو‮ الأسود‮ والبرغلية‮. مدنا‮ عددها‮ يساوي‮ عدد‮ ساكنيها‮ او‮ أقل‮ بقليل‮.‬
توقفت حركة الآليات وبقينا وحدنا نشق الأرض وكلما رأينا سيارة أوقفناها، لنسألها عن الطريق في الظاهر، بينما نحن نريد أن نستأنس بغيرنا ولو للحظات، هنا توقفت المشاكسات بين وبين صديقي حسام، ولم يعد هناك مجال للمزاح لأن ساعة الجد قد بدأت.
تُهنا في الطريق الرابط بين صيدا وصور عدة مرات، والتيه هنا أخطر، إذ يمكن أن يقودنا إلى مواقع حزب الله فنكون في مرمى صواريخ إسرائيل مع أنه لا فرق، فنحن كنا هدفا في كل الأحوال، كان المشكل في تيه ما بعد مرحلة صيدا هو أنه لا أحد يوجهنا إلى الطريق الصواب، لكن العناية الإلهية كانت ترافقنا، إذ نحظى كل مرة بشخص جالس على الطريق نسأله فيرشدنا، وتكرر ذلك أكثر من مرة، وكلما حدث ذلك أتساءل عن السبب الذي يدفع بعض اللبنانيين للإصرار على البقاء وحيدين في أرضهم رغم خطر الموت ورغم كل ذلك الدمار.
دمار‮ أقبح‮ من‮ الإسرائيليين
صور الدمار ازدادت قبحا أقبح من الإسرائيليين، مدن كبيرة مررنا عليها في طريقنا بين صيدا وصور ليس فيها أكثر من شخص أو شخصين وذلك أمر ظل يحيرني: ماذا يفعل شخص واحد في مدينة؟!!.إسرائيل ضربت الجسور والطرق والمدارس والمباني والمقرات ومحطات الوقود والمحلات والسيارات‮ المدنية‮ وحافلات‮ النقل‮ والشاحنات‮ والدراجات‮ ولم‮ تستثن‮ شيئا،‮ وليس‮ كل‮ ذلك‮ غريبا‮ لأن‮ الأمر‮ يتعلق‮ بتتار‮ العصر،‮ يدمرون‮ الحضارة‮ ويسلبون‮ الحياة‮ ويعيثون‮ في‮ الأرض‮ فسادا‮.‬
ما توقفنا عند شخص وسألناه عن الطريق إلا وعبر عن شفقته علينا بعد أن يعلم أننا متوجهون إلى قانا، فكان الشعور كأننا متجهون إلى المقصلة، وبقينا على هذه الحال إلى أن تراءت لنا مدينة صور... وكما سمعنا فهي فعلا مدينة أشباح، كل المدينة ميتة عدا جانب فيها ينبض بالحياة هو الجانب الذي أقيمت فيه مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وقد اكتظ المخيم بعد أن لجأ إليه اللبنانيون، وصلنا صور ولم نجد أحدا فذهبنا إلى المخيمات الفلسطينية وهنا بدأت بعض المشاكل في سيارة صديقي حسام، فطلب التوقف قليلا لكي يبرد المحرك.
الدود‮ أكل‮ الضحايا‮ قبل‮ استراحتهم‮ في‮ قبورهم
ونظرا لانشغالي بأمر الرحلة لم أكن أعلم تفاصيل المذبحة والتي من بينها نقل جثث الشهداء إلى مستشفى صور، وبالصدفة التقيت شابر لبنانيا غاضبا يشتم كوندوليزا رايس، التي كانت زيارتها إلى المنطقة شؤما على اللبنانيين، هذا الشاب حدثني عن المذبحة وعن الجثث وكيف هي زرقاء اللون، فسألته أين رأيت الجثث؟ فقال لي إنها هنا في المستشفى الحكومي وطلبت منه أن يرافقني إلى هناك، كانت الأجواء داخل المستشفى بائسة جدا جدا، ذهبت إلى الإدارة طالبا منهم السماح بتصوير الجثث فقالوا لي إن دفعة قادمة من قانا بعد قليل وعليك الانتظار لتصويرها ولا يمكن التصوير داخل المبرد، رأيت شخصا يحمل قائمة بأسماء الضحايا تقدمت منه سألته عن الحصيلة لم يستطع الكلام، وكل ما فعله هو فتح الورقة أمامي لأرى ما فيها، ذهبت إلى ساحة المستشفى وكان المشهد مروعا صناديق موتى تنتظر أصحابها، اقتربت منها فواجهتني رائحة الموت، صورتها وتراجعت لكن أحد أفراد الجيش اللبناني جاء مسرعا وقال لي: تعالى أريك شيئا، وأخذني إلى تلك الصناديق التي كانت تعج بالدود الذي كان يلتهم الضحايا الذين كانوا فيها، ببساطة لأن أبناء القردة والخنازير لم يسمحوا لهم بفرصة الدفن فقتلوهم مرتين ولا حول ولا قوة‮ إلا‮ بالله‮.
كنت في عجلة من أمري وخرجت من المستشفى فالتقيت بمسيرة غاضبة جدا يقودها مسلحون فلسطينيون على رأسهم أمين سر حركة فتح في لبنان أبو العينين، غضب مستطير ونداءات للمواجهة العسكرية مع إسرائيل... لم تكن المسيرة موضوعنا وعدت مسرعا إلى صديقي حسام وطلبت منه الانطلاق بسرعة إلى قانا المتواجدة على بعد 15 كيلومترا جنوب مدينة صور، ولم تكن تهمني الأهوال التي رأيت في الطريق بقدر اهتمامي بالوصول إلى موقع المذبحة، تُهنا كذلك عدة مرات لكن كثرة الحركة لسيارات الإسعاف والصحافة بين صور وقانا سهلت علينا الأمر.
في ربوة عالية تقع قانا الشهيرة بمجزرة مشابهة وقعت سنة 1996 وهي أشبه بقرية كبيرة بناءاتها متواضعة وأزقتها ضيقة، وجدنا صعوبة في الدخول إلى موقع المذبحة واضطررنا لترك السيارة على بعد حوالي 200 متر نظرا لكثرة السيارت، وفيما كنّا نستعد للدخول كانت الجرافة تقترب‮ من‮ المكان‮ استعدادا‮ للتجريف،‮ لأن‮ الأمل‮ انتهى‮ في‮ العثور‮ على‮ أحياء‮.‬
دخلنا الموقع وتوقف الزمن عن الدوران، وأنا أتابع عمليات الحفر بحثا عن الجثث، تذكرت كل سيناريو الحرب، تذكرت تهديدات أولمرت بإعادة لبنان عشرين سنة إلى الوراء، تذكرت فضيحة بوش لما نقل الميكروفون كلامه الشخصي مع بلير، وتذكرت كل المواقف العربية من عملية حزب الله وكيف أنها شجعت إسرائيل على ارتكاب المذابح، تذكرت كذلك العلم الإسرائيلي الذي يرفرف في ثلاث بلدان عربية أو أكثر، تذكرت فتاوى علماء السعودية الذين حرموا نصرة حزب الله، وقلت أي جرم ارتكبه هؤلاء باسم الآية والحديث؟
عشرات الأطفال قتلوا خنقا، وهي جريمة دفعت بلدا عربيا للغضب وإبلاغ ذلك عبر السفير الإسرائيلي، نعم دبلوماسيون جدا ومهذبون جدا... أطفال معوقون قتلوا ومع ذلك تصر دول عربية على الاستمرار في العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، أية عمالة هذه وأي فخر بهذه العمالة!!!. هناك‮ الذي‮ بقي‮ على‮ قيد‮ الحياة‮ الموت‮ كان‮ له‮ أفضل،‮ لأن‮ الضحايا‮ كانوا‮ كلهم‮ أقارب‮ والذي‮ نجا‮ فقد‮ كل‮ أقاربه،‮ فأي‮ نجاة‮ هذه‮... اللسان‮ يعجز‮ عن‮ التعبير‮ والقلم‮ يعجز‮ عن‮ الكتابة‮!!‬
رغم وصولنا في المساء إلا أن عملية استخراج الجثث كانت متواصلة، ولم يكن ذلك سهلا لأنها كانت في أعماق الركام، الوجوه مكفهرة، الحزن بادٍ على الجميع بمن فيهم الصحافيون سوى فريق يتكلم الإنجليزية كان يمرح ويلعب وكأن الأمر يتعلق بجولة سياحية
تحدثت الشروق مطولا مع أقارب الضحايا، وكانت المأساة الكبرى مع محسن هاشم الذي قضى 25 من أقاربه في المذبحة ولم تبق سوى ابنة عم تناقلت الفضائيات صورها وبكاءها وستكون كمحمد الدرة وغالية من شهود الهمجية الإسرائيلية.
تحت‮ القصف‮...‬
بعد مدة من المشاهد المأساوية في موقع المذبحة قررت الشروق اليومي الانسحاب ويا له من انسحاب، ما إن خرجنا من الموقع حتى بدأ أزيز الطائرات ثم بدأ القصف، وبرد فعل جزائري مائة بالمائة قلت لرفيقي "هاذون مايحشموش الضحايا لازالوا تحت الأنقاض وهم يقصفون" طبعا هو لم يفهم الكلمة، كما لم أفهم أنا لماذا قلت هذه العبارة التافهة وهل يستحي الصهاينة؟... استمر القصف المركز من زورق بحري على مدينة صور ونحن نمر عبرها واستمر لمدة طويلة، كان دوي القصف يقترب ثم يبتعد مما يعني أن مناطق عديدة كانت مستهدفة، وفي ظل هذا الخطر المحقق تعطلت السيارة... فقد أطفأ صديقي حسام المحرك بعد ارتفاع حرارته إلى الدرجة الخطيرة المهددة باحتراق المحرك، توقف صديقي ونزل وهمّ برفع غطاء المحرك فمنعته، لأن عبارة "تي.في" لن تظهر لطائرات القردة والخنازير مع أنني كنت أدرك أنه لا فرق.
توقفنا لدقائق وقمنا بتبريد المحرك ثم انطلقنا ونحن نعلم أن السيارة لن توصلنا إلى بيروت وهي في هذه الحالة، ولأن العناية الإلهية رافقتنا فقد نزل علينا الحل للمعضلة نزولا من السماء، إذ بعد كيلومتر واحد وجدنا مدينة صغيرة لازالت عائلة واحدة تسكنها، ويا للصدفة فإن العائلة تملك محلا في كهرباء السيارات، وكان المحل الوحيد المفتوح في المدينة، ويا للصدفة فقد كان الشاب الذي يدير المحل صديقا قديما لصديقي حسام، وللمرة الثانية فهمت الإشارة، وبينما انشغل صديقي بإصلاح السيارة ذهبت أنا إلى العائلة التي كانت تجتمع على صينية قهوة، وتحدثت إليهم وطبعا طرحت ذلك السؤال الكبير: لماذا بقيتم في المدينة ألا تخافون الموت... فكان السؤال سببا لأن آخذ منهم درسا مفيدا في الصمود والتضحية والارتباط بالأرض، ومع ذلك لم أقتنع بفكرة البقاء تحت الحمم وأنا الذي اعتقدت أني فعلت شيئا كبيرا عندما زرت قانا‮ لساعة‮ ولذت‮ بالفرار‮!!‬
استمر القصف ونحن نسير إلى غاية وصولنا إلى صيدا ولم تكن رحلة العودة كرحلة الذهاب، فقد كنا نعرف الطريق ونعرف الهدف، وانعرجت السيارة باتجاه جبل لبنان وزال الخطر، وصلنا إلى بيروت بعد ثلاث ساعات من السير بسرعة جنونية، وهنّأت حسام على النجاة وهنأني هو، ولا حديث لنا‮ إلا‮ حول‮ سبل‮ العودة‮ لبنت‮ جبيل‮ ومارون‮ الراس‮ وما‮ بعدهما‮!!‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.