هل الثقافة شأن تتكفل به وزارة الثقافة لوحدها؟ لا أعتقد ذلك، إن قطاعات حساسة لا يمكن تصورها مفرغة من العمل الثقافي أو بعيدة عنه، فالتربية الوطنية والتعليم العالي والشؤون الدينية والأوقاف والسياحة والشباب، جميعها لها علاقة مباشرة بالشأن الثقافي من كِتَاب ومسرح وسينما وفن تشكيلي وموسيقى وإبداع أدبي، ما في ذلك شك فكل قطاع يملك مقاربة خاصة به. وكلما تعددت مقاربات الشأن الثقافي بنوع من التنسيق والتنافس الشريف، فالمستفيد في نهاية الأمر من هذا الثراء والتنوع هم المثقفون والثقافة والمواطن باعتباره المستهدف الأول من كل عمل ثقافي جاد. * فوزارة الشباب والرياضة في بلادنا، ومنذ أن أنشئت، لا تشغلها سوى الرياضة وفي الرياضة تكاد لا تهتم سوى بكرة القدم وبمواعيد المقابلات الوطنية أو الدولية تلك التي للجزائر علاقة بها، أو ببناء ملاعب بدون روح، ملاعب توحي من ظاهرها بالعنف، والتنافس الذي هو رديف الكراهية وتصفية الحسابات وإثارة الجهوية السلبية، وتلك هي الثقافة السائدة، للأسف، حين تغيب الثقافة البديلة التي تصنع قيم "المواطنة". قد نسينا بأن كثيرا من بيوت الشباب التابعة لوزارة الشباب والرياضة هي بالأساس فضاءات موجهة لدعم ثقافة الشباب والفتوة والطفولة، لكن للأسف فقد جاء النسيان على هذه الفضاءات فأصبحت مواتا وقد فرغت من كل تلك الفلسفات التي تأسست على أساسها، وإننا لم نعد نسمع مطلقا بمهرجانات تشرف عليها وزارة الشباب، مهرجانات تهتم مثلا بالمسرح الهاوي الذي هو الطريق إلى المسرح المحترف وهو مشتلة فناني الغد المسرحي، أو مهرجانات تهتم بالفن الشبابي في الموسيقى والفن التشكيلي والأدب وغيرها... كل هذا مغيّب أو ثانوي في فلسفة وزارة الشباب مع أنه من صلب انشغالات الشباب، فحينَ يحينُ حينٌ تغير فيه وزارة الشباب والرياضة من رؤيتها للشباب من حالة تعتبر الشاب "قدما" لركل كرة إلى حالة تعتبره مخّا يفكر وقلبا يدق للجمال والفن، آنذاك يكون هذا القطاع قد مس بعضا من جوهر فلسفة التي أسست لها وهي تنشئة ومصاحبة الشباب على الخروج من ثقافة "العنف" و"المنافسة" السالبة إلى ثقافة المواطنة، ومن جراء ذلك تتأسس مصالحة ما بين الجسم والفكر. فنحن لا نكتشف القمر حين نقول على قياس ما قاله القدامى: "الجسم السليم في العقل المثقف الفاهم". وإذا ما نظرنا إلى ما يجري لدى جيراننا على حدودنا في الغرب أو الشرق، نجد أن لديهم مجموعة من المهرجانات الخاصة بمسرح الشباب والمسرح الهاوي ومهرجانات الموسيقى والآداب والسينما والفن التشكيلي تشرف عليها وزارة الشباب وتدعمها وذلك منذ عشرات السنين. * والأمر كذلك بالنسبة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، فعودة سريعة إلى تاريخ هذه الوزارة في منتصف السبعينيات، لنكتشف وبشكل جلي علاقتها الحميمة والصلبة بالشأن الثقافي في الجزائر، مَن مِنْ جيلنا لا يتذكر ما قامت به هذه الوزارة في باب الحركة الثقافية الجادة والعالية، لقد قادت هذه الوزارة أيام كان على رأسها المرحوم محمد الصديق بن يحيى وكان يساعده في ذلك شخصية من وزن المسرحي الكبير مصطفى كاتب، فبتلك الرؤية المتنورة أضحت الوزارة قلعة للثقافة الجادة والعميقة، وأصبحت الجامعات الجزائرية فضاءات للحوار العالِم، فجميع الأسماء الشعرية والرموز الثقافية والأدبية والفكرية في العالمين العربي والغربي جاءت إلى بلادنا عن طريق وزارة التعليم العالي، فزيارة نزار قباني ومحمود درويش ومظفر النواب وعبد الوهاب البياتي ومحمود أمين العالم وأمير إسكندر وغالي شكري وعبد الله البردوني وسليمان العيسى وجورج الراسي وشاكر الفحام وأندري ميكيل وجاك بيرك وبيير بورديو وغيرهم جميعهم جاءوا الجزائر أول ما جاءوها من بوابة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وبذلك كانت الجامعات قلعة ثقافية حقيقية تعلم العلم وتعلم المواطنة من خلال الفعل الثقافي والقيم الجمالية. يروى أن الرئيس هواري بومدين، قال مرة في مجلس للحكومة بعد أن سطع نجم وزارة التعليم العالي ثقافيا، والحديث كان موجها فيما يبدو لوزير الثقافة والإعلام آنذاك: "إن هناك وزارة بيس للثقافة." * دون شك، لا يمكن إرجاع تدهور حال المدرسة الجزائرية إلى طبيعة البرنامج وعدد التلاميذ والشعبوية وغياب الرسكلة والرواتب البئيسة للمعلمين وأمور أخرى كثيرة تحدث عنها المتخصصون في البيداغوجيا الذين يعرفون الجرح بشكل عميق، ولكن ما أريد أنبّه إليه وهو أن تدهور الحس التعليمي في بلادنا ناتج أيضا عن عزلة المدرسة عن الثقافة والمثقفين، فالمدرسة التي لا يدخلها شاعر ولا يدخلها روائي ولا يدخلها مسرحي وموسيقي وفنان تشكيلي وسينمائي هي مدرسة معطوبة القلب/ مدرسة بدون روح، لذا أعتقد، وبعيدا عن مرض إعطاء الدروس، ولكن من موقف مثقف مهموم بالبؤس الثقافي الذي تغرق فيه مدرستنا، أَنْ على الدائرة المشرفة على النشاط الثقافي في وزارة التربية الوطنية، عليها أن تسطر برنامجا غير موسمي، يكون تقليدا دائما، بهدف تخليص المدرسة من التثاؤب والروتين ولن يكون ذلك إلا بفتح أبواب المدارس والثانويات ومدارس التعليم المهني للكُتاب والشعراء والفنانين كي يستعمروا بعضا من وقت المدرسة، وهذا التواجد هو وحده الذي سيجعل من المدرسة مؤسسة لإنتاج مواطن المستقبل؛ مواطن يحب الشعر والسينما واللون والخشبة، وقد سعدت للمبادرة التي وقعت ما بين وزارتي التربية الوطنية والثقافة من أجل دعم القراءة في المدارس. * بقي لي أن أقول أيضا وفي نفس السياق بأن وزارة السياحة شريك مركزي في الفعل الثقافي فهي المكلفة بتسويق الرموز الجزائرية، فالآثار والشمس وزرقة السماء وذهب الرمال وعبقرية اليد الحرفية كل ذلك شأن ثقافي، ووزارة السياحة وحدها يمكنها أن تربط مابين البعد الاقتصادي والبعد الثقافي لخيرات بلادنا الرمزية والمادية، وتصالح العالم مع ثقافتنا وتراثنا وتاريخنا، لذا فالتفكير في إقامة أوراش ومهرجانات احترافية جادة لربط الثقافة بالسياحة بالاقتصاد مسألة في غاية الأهمية، دون شك فبناء الفنادق والمركبات شأن أساسي ولكن الأهم من ذلك هو كيف يمكن ربط هذا العمل الإسمنتي بأمر تثمين الإنسان الجزائري وعبقريته في الحرف والثقافة والفن. * أما وزارة الشئون الدينية والأوقاف فعليها مسئولية ثقافية شاقة، لما أضحى عليه الحقل الديني من فوضى عارمة، إذ أصبح الإسلام هو السور القصير الذي يقفز عليه كل من هب ودب، من فتاوى التكفير والتحليل والتحريم وما لا يخطر على بال... لقد سعدت بانطلاق قافلة ثقافية تابعة لوزارة الشؤون الدينية جابت كثيرا من مدن الجزائر في الوسط والشرق والغرب والجنوب، مشكلة من أساتذة جامعيين وأدباء وسوسيولوجيين وأئمة من أجل تنشيط جملة من الندوات والحلقات في موضوعات متعددة غير مستهلكة تمتد من التاريخ إلى الوطنية إلى الروحانيات إلى العقيدة وأعتقد أن وزارة الشؤون الدينية والأوقاف وهي تشرع في عمل بهذا الوزن والعمق والذكاء والشجاعة الفكرية تريد محاصرة المرض بشكل ذكي وفاعل، كما أن الندوات التي شرعت في تنظيمها كما هو الحال مع الندوة الخاصة بحرية الشرائع في الجزائر وكذا الندوة التي خصصت للفيلسوف المجاهد الدكتور عبد الله شريط وغيرها، كل هذه الممارسات تجعل وزارة الشئون الدينية ببلادنا تتجه وجهة العمل المواطني الذي يحافظ على قيم الثقافة الجزائرية وبروح حديثة ومعاصرة، لكن الذي لا يزال معطوبا، هي تلك المراكز الثقافية التابعة للقطاع والتي تبدو حتى الآن عبارة عن مؤسسات أشباح، مؤسسات بدون روح، فمتى يا ترى تنهض هذه المراكز من سباتها؟ * والمؤسف أيضا هو غياب الأحزاب السياسية، على الأقل الأحزاب الفاعلة سواء في السلطة أو في المعارضة، غيابها وتجاهلها الكامل للعمل الثقافي الجاد، فالأحزاب جميعها، كانت في اليمين أو اليسار أو الدين أو العلمنة، لا تعير الثقافة أهمية في برامجها، ولم نسمع حزبا أقام ندوة فكرية أو أمسية أدبية أو فكرية دعا لتنشيطها أسماء عربية أو عالمية، لم نسمع بحزب له منشورات أدبية أو فكرية أو اقتصادية من خلالها يستقطب جموع المثقفين الذين تفرقت بهم السبل، لذا فأحزاب لا تعتمد في يومياتها السياسية على الثقافة في محاورة المواطن، تظل أحزابا للبؤس والتبئيس الفكري، كما أن فكرة تنظيم الجامعات الصيفية التي بادرت بها بعض الأحزاب لا ترقى إلى الثقافي العالي، إن مبادرة إنشاء مركز للدراسات من قبل حزب جبهة التحرير الوطني، مبادرة محمودة، نتمنى أن نرى، في القريب، بداية نتائج مثل هذا المركز، وأن يكون بالفعل فضاء لحوار مفتوح على أحلام الجزائريين الذين فقدوا الحلم.