عددهم بالملايين، بطّالون وعمال، يتقدمون بملفات لأجل مزاولة مهن يحلمون بها، وأهم وثيقة في الملف هي دائما "السيرة الذاتية"، وهي الوثيقة الوحيدة التي يحررها طالب العمل دون تدخل أي كان عكس بقية الوثائق من شهادة جامعية إلى شهادة الميلاد... * وهناك مؤسسات صارت تطلب السيرة الذاتية فقط، وهناك من طالبي العمل من حوّلوا السيرة الذاتية إلى ملف قائم بذاته، يتكون من عدة صفحات فيها تاريخ حياة طالب العمل منذ دخوله المدرسة إلى غاية يوم طلبه للعمل، ولا يوجد من يقدّم الوجه البشع من سيرته الذاتية، وإنما يقدّم وجها آخر وهو مغاير لحقيقته وينفخ من مستواه حتى يتحوّل إلى إنسان آخر لا علاقة له بحقيقة طالب العمل * للأسف فإن هذه الظاهرة عمّت وصارت قاعدة لدى طالبي العمل ضمن معادلة الغاية تبرر الوسيلة، ولأن الغاية هي العمل الضامن الوحيد للحياة الكريمة، فإن انتحال الصفة في السيرة الذاتية، يصبح مباحا حسب قناعات طالب العمل، ولم يحدث وأن توبع أصحاب "السيفيهات" المزيفة قانونيا، حتى أصبحت السيرة الذاتية هي انتحال الصفة التي لا يحاسب عليها القانون ويمارسها الجميع برضا الطالب والمطلوب. * عندما يتحول البقال إلى خبير في المحاسبة * "السيرة الذاتية" إجراء جديد ظهر في التسعينيات من القرن الماضي وعمّ بشكل شامل حتى أن المتخرجين الجدد تجدهم يمتلكون العشرات من السير الذاتية تختلف حسب العمل المطلوب، وتجدهم يمتلكون المئات من النسخ يوزعونها في كل مكان من باب إراحة الضمير. * وإذا كان طالب العمل لا يراوغ عندما يقدم نفسه من حيث الاسم وتاريخ الميلاد، لكن مرحلة انتحال الصفة تبدأ عندما يباشر الحديث عن سيرته ومساره الدراسي، حيث يتحدث بالتفصيل الممل عن خطوات دراسية عادية بداية من المرحلة الابتدائية ومرورا عبر الإكمالي والثانوي، إذ يقدم الأسماء التاريخية أوالخاصة بالشهداء، مثل الكواكبي وأحمد زبانة وجمال الدين الأفغاني والبشير الإبراهيمي التي تسمى بها المؤسسات، وكأنه يقرن عظمة هؤلاء بسيرته الذاتية فيكتب مثلا : زاولت الدراسة الابتدائية في مدرسة عميد الأدب العربي طه حسين والدراسة الإكمالية في متوسطة رائد النهضة الفكرية العلامة عبد الحميد بن باديس، فنجد أن أسماء العلماء أكثر بريقا وتركيزا من اسم طالب العمل الذي يتحدث عن كل سنة جامعية على حدة، وكأنه يتخرج بشهادة جامعية في كل سنة، ويتم إدراج أي تكوين خفيف أو عبر المراسلة على أساس أنه ديبلوم عال مثل كتابة "متخرج من معهد معتمد من طرف الدولة" أو "تكوين عال في الإعلام الآلي"، وهي مجرد تربصات تكوينية قصيرة الأمد، وأحيانا لا تقدم حتى شهادات خطية ومعظمها بالمراسلة. * ويأتي أكبر انتحال لصفة الغير عندما يقدم طالب العمل خبرته في الحياة العملية، حيث يصبح عمله في مخبزة أو بقالة عبارة عن ممارسته لمسؤولية اقتصادية كبرى، فيكتب خبرة واسعة في ميدان المحاسبة وعالم التجارة والاقتصاد والمالية، أما طالبات العمل فهن الأكثر تزيينا لسيرهن الذاتية من الرجال، حيث كما تطلي المرأة وجهها بالماكياج تطلي سيرتها الذاتية بالكثير من المزينات، فهي "خبيرة اقتصادية" بمجرد أن باعت في محل تجاري و"وكيلة أعمال" لأنها وقفت أمام سيارة في أحد معارض السيارات وعالمة ماركيتينغ لأنها طرقت أبواب المساكن من أجل إقناع المواطنين باقتناء صابون أوعطور نفذت مدة صلاحيتها، أولم تجد من يقتنيها. * وفي كل سيرة ذاتية يتحدث صاحبها عن اللغات التي يتقنها كتابة وقراءة، وهنا يحدث أكبر احتيال حيث لا يكتفي بعض طالبي العمل في الخوض في اللغات الثلاث في الجزائر وهي العربية والفرنسية والإنجليزية، بل يتجهون نحو لغات هم يعلمون أن مدير المؤسسة العمومية أو صاحب الشركة الخاصة لا يتقنها مثل الإسبانية والإيطالية والصينية، وأحيانا لا يعرف صاحب السيرة الذاتية إلا كلمتين أو ثلاثة من اللغة التي يدّعي أنه يتقنها، أما عن بقية اللغات فهي عادة.. ممتاز قراءة وكتابة للغة العربية وجيد كتابة وقراءة للغتين الفرنسية والإنجليزية، وعموما فإن كل "السيفيهات" تنتهي بتقديم عرض عن حيوية وخفة ظل ودم طالب أو طالبة العمل، وهي الفرصة الكبرى لأجل إقناع المدير أودارس هذه "السيفيهات"، حيث يصف طالب العمل نفسه بالحيوي والذكي والمتفهم والمستعد لأداء كل الأعمال الشاقة، بينما تبعث طالبة العمل أو بعضهن في خاتمة سيرتهن الذاتية رسائل مشفرة إلى صاحب العمل، منها كتابتهن "مستعدة لكل الأعمال!" أو كتابة "حيوية وعاشقة للعمل في أي مكان حتى وإن كان خارج المدينة"، وبعض طالبات العمل يتحدثن عن جمالهن وأناقتهن في الوقت الذي تقدم أخريات الجانب الأخلاقي مثل "كاتمات للأسرار ومحترمات لأنفسهن ومحافظات"، ورغم أن الحديث عن الجانب غير العلمي وغير العملي ليس له أهمية كبرى، إلا أنه يكاد يشغل ربع صفحة من السيرة الذاتية. * "أدين بالإسلام وأحترم بقية الأديان"! * بعض السير الذاتية صارت مرفوقة بالصورة الشمسية وهي بالتأكيد صورة لصاحبتها بالخصوص وأحيانا لصديقة تشبهها، لأن قناعة طالبات العمل في عمومهن أن المظهر أهم من اللب بالنسبة لكثير من المديرين، والسير الذاتية تكتب في عمومها باللغة الفرنسية، وهناك نماذج تسويقية يتبعها طالبوا العمل، وأحيانا لا يفهمون حتى ما يكتبوه، وكثير منها مليء بالأخطاء الإملائية الفاضحة خاصة باللغة الفرنسية، رغم أن طالب العمل يقدم نفسه على أنه متفوق في الفرنسية كتابة وقراءة، كما أن "السيفيهات" المعربة هي نموذج سيئ للتعامل مع لغة الضاد، حيث تكتب مثلا طالبة العمل "متفوقت ومتمكنت" بالتاءات المفتوحة وتصف نفسها بالجيدة في اللغة العربية. * سألنا مجموعة من أصحاب العمل ومديري المؤسسات العمومية عن أغرب السيفيهات التي تتهاطل على مكاتبهم يوميا، فقالوا إن بعض طالبات العمل وكأنهن مقبلات على العمل في مرقص أو ملهى، حيث تتحدثن عن مفاتنهن أكثر من المستوى، بينما بعض طالبي العمل واضح أنهم لا يعرفون معنى للسيرة الذاتية، إذ كتبت إحداهن "أدين بالإسلام وأحترم بقية الأديان"، وواضح أن السيرة الذاتية منقولة من سيرة دولية مرسولة إلى بلد متعدد الأديان، والغريب أن السيرة الذاتية لم تبلغ إطلاقا مرحلة الدراسة والنظر بالنسبة لأرباب العمل، الذين قد تهمهم الخبرة المكتسبة والشهادات وربما أشياء أخرى، أما السيرة الذاتية فهي وثيقة لمشاهدة صورة طالبات العمل.. ربما أحدهم قال لنا انه استقبل سيرة ذاتية لشاب في العشرين قال إن خبرته في العمل ثلاثون سنة وتحدث عن شهادات كبرى قد تزيح المدير من منصبه؟.