مشاغبة الساسة بشغب الشعوب البائسة قرار رفع الأسعار بذلك المستوى الجنوني، ثم التراجع عنه بعد تفجير غضب الشارع ليس إلا صورة من صور مشاغبة الساسة بشغب الشعوب البائسة، في موجة عالمية جديدة من التخويف والتهويل بالسنين العجاف التي بشرت بها المنظمة العالمية للتغذية عموم شعوب جغرافية البؤس في العالم. * ليس صدفة، أن يتحول احتجاج شعبي لأبناء جغرافية الفقر والإقصاء إلى أعمال انتقامية ضد مظاهر الثراء، بحرق وتهشيم السيارات الفخمة، التي تستفز من لا يجد قوت يومه. وليس صدفة أن يتحرك الشارع الفقير في دولتين مثل تونسوالجزائر الأقل فقرا، قياسا مع دول عربية وغير عربية، بلغت مستويات الفقر والجوع فيها ما لم تصل إليه في الجزائروتونس. وليس صدفة أن يتحرك هذا الشغب بعيدا عن القوى السياسية والنقابية، وما يسمى بالمجتمع المدني، لأننا أمام شريحة من المجتمع تخلى عنها الجميع، حكومة ومعارضة، أحزابا ونقابات، بل باتت معزولة جغرافيا واجتماعيا عن جغرافية المجتمع المستفيد، وهي قيد ما يسمى بالموت الاجتماعي. *
* زمن العنف المسلح بالجوع * منذ شهور كتبت ما يشبه التحذير من تشكل ظاهرة اجتماعية سوف تكون أخطر من العنف والإرهاب والتطرف، مع هذا التواطؤ على إخراج شريحة واسعة من المعدمين من القسمة، وأشرت في ما أشرت إليه، إلى أن ما تمنحه الحكومة باليد اليمنى وهي صاغرة للشرائح المنظمة والمحمية بتنظيماتها النقابية، سوف تأتي عليه السوق التي أطلقت فيها أيادي المضاربين، ونبهت وقتها إلى حتمية انتفاضة وشيكة للشرائح التي فقدت حماية الدولة، وفقدت معها تضامن فئات المجامع التي ركبت القطار. * غداة أحداث باب الواد ووهران، والتي رأيناها تتدحرج ككرة نارية عابرة للمدن تابعت تعليقا لأحد الزملاء على قناة أجنبية، وهو يطمئن الجميع على أن الشغب هنا يختلف عن شغب أكتوبر 88 . وكان الزميل محقا في تحليله لأكثر من سبب، حتى إذا كان القصد هو التهوين والتقليل من أهمية الأحداث. * فقد جاءت أحداث أكتوبر في زمن كانت قد برزت فيه نواة المجتمع المستفيد، تنشر ثراءها أمام شرائح واسعة من المجتمع لم تكن قد استفادت بعد من ريع الانفتاح وإعادة تقسيم الثروة. ولم تكن الفوارق الاجتماعية ظاهرة بهذا المستوى الاستفزازي الذي يصدم اليوم مبدأ العدالة المستوطن في ضمائر الجزائريين. ثم إن البلاد كانت وقتها حبلى بمسار انقلابي على موروث الحزب الواحد، والاقتصاد الموجه، الذي فتح أمام النخب أبواب المشاركة في السلطة والريع ولو من جهة البوابة الخلفية الخاصة بالخدم. *
* مستقبل واعد لشغب بلا أفق * وقبل هذا وذاك، كان واضحا أن السلطة وقتها هي في حاجة إلى ذلك الانفجار الاجتماعي لتمرير ما مرر بعد أكتوبر 88، ولا بعد أكتوبر. فكان ذلك الزخم الذي سمح لاحتجاجات أكتوبر أن تتحول من شغب اجتماعي إلى مسار سياسي جديد، علمنا بعد حين من هي الجهة المستفيدة، ومن كان حاله كحال الباحث عن حتفه بظلفن. * الاحتجاج الاجتماعي الذي رأيناه فاقحا للعقال وبلا أفق، ليس له ذلك الأفق السياسي الذي كان لأحداث أكتوبر. فهو أشبه بما كتب للغلابة من عبيد ثورة سبارتاكوس. فقد يتمكن من حرق أجزاء من الحواضر، ويقود إلى صدامات عنيفة مع قوى الأمن، ليكون مآله، أشبه بمآل ما بقي من غلابة انتفاضة العبيد، وهم يصلبون على جانبي الطريق المؤدي إلى روما، بل إن مآل احتجاجات جغرافية البؤس اليوم هو أسوأ، وبلا غد، حتى حين ينتج ظاهريا ما قد يرى فيه البعض تراجعا من قبل الحكومة عن قرار غير مدروس أو هكذا يبدو. * فالاحتجاج يفتقر إلى قيادة، كما يفتقر إلى تضامن بقية شرائح المجتمع التي ركبت عربات القطار بدرجاته، ولا ينبغي لشعب جغرافية البؤس أن يعول اليوم وغدا على تضامن أبناء جلدته من الموظفين، وحتى من بعض أسلاك العمال من المحظوظين نسبيا، فلن يجازف هؤلاء، وقد ألحقتهم سياسات وبرامج شراء الذمم بالمجتمع المستفيد. وكيفما تطورت أحدات هذا الشغب، المشروع بالنظر إلى ذلك العبث الاستفزازي المبيت بقوت الناس الغلابة، فإنه لن يحرك له ساكنا، لا في قطاع الوظيف العمومي، ولا في أي قطاع آخر يمتلك القدرة على الضغط على الحكومة بالإضرابات وتعطيل مرافق الدولة الحساسة. * ما يخيفني، ليس التوسع المحتمل لرقعة الاحتجاجات، أو خروجها عن السيطرة لأن فرصها معدومة، لكني أخشى أن نكون بحيال تدبير يستغل البؤس والفقر كوقود لصراعات ليس فيها للبؤساء ناقة أو جملا، كما استعمل الإرهاب والعنف من قبل عندنا وعند غيرنا، كأداة من أدوات الحكم بالتخويف والترهيب، وقد بدأ يستنفد فعاليته. *
* الترغيب والترهيب بغضب المعدمين * فقد كان بوسع الحكومة، وهي تعيش في بحبوحة مالية، أن تتعامل مع موجة الغلاء الحقيقية في أسعار المواد الغدائية، بوضع شبكة أمان كما فعلت في أوقات سابقة، وهي اليوم متحررة من إملاءات صندوق النقد الدولي. وكان بوسعها أن تبادر إلى إجراءات تلطف بها وقع الصدمة. فمن غير المعقول أن تسمح بهذا الارتفاع الجنوني في أسعار الزيت والسكر والحبوب الجافة، ثم لا تتوقع مثل هذا الشغب والاحتجاج عند فئة قد ألقي بها إلى قارعة الطريق، إلا إذا كان في النية، قصد خفي لصناعة بؤر مستدامة من الغضب داخل جغرافية الفقر المحاصرة للحواضر، تستعمل كفزاعة لشرائح من المجتمع المستفيد، تحملها على مزيد من الطاعة والولاء، والشعور الدائم بالحاجة إلى حماية الدولة من غضب "الجياع" وانتقام البؤساء وتلك هي الفرضية الأولى. * الفرضية الثانية، قد توحي أننا عشية الإعلان عن ترتيبات جديدة لإعادة النظر في منظومة التجارة، إما باستبدال شبكة من المستفيدين بشبكة جديدة ترثها دون تغيير في أحوال الناس أو، إن نحن أحسنا الظن، العودة إلى النظام السابق، بوضع اليد على التجارة الخارجية والداخلية عبر إحياء نظام الدواوين العمومية، وأنه في الحالتين تظهر الحاجة إلى إثارة غضب شعبي يوجه نحو القوى الكمبرادورية المستفيدة من ريع التجارة. * الفرضية الرابعة تشي بها تصريحات وزير التجارة الذي أعلن بعد لقاء مع كبار الموردين عن تراجع وزارته عن الإجراءات المعتمدة في الميزانية والتي تلزم الصناع والموردين والتجار التعامل بالصكوك والفوترة وهو القرار الذي دفعهم إلى إرباك نظام التوزيع، والتعويل على الاحتجاج الشعبي للي ذراع الحكومة والدولة. وإذا ما صدق الخبر فإننا نكون أمام صراع إرادات خرجت منه الحكومة مهزومة أمام عصابة أصبحت لها هذه القوة التي تملي بها ما تشاء على الحكومة. *
* صناعة كوابيس حقيقية من أحلام كاذبة * الفرضية الثالثة التي لا ينبغي أن تغيب عن الأذهان، في بلد لم تحسم فيه بعد وحدة السلطة، أننا نكون قد دخلنا مرحلة الحسم، ولحظة بداية عض الأصابع، تم تأجيلهما بالتراضي عشية بداية العهدة الثالثة، ولم يعد يحتمل التأجيل قبل أقل من ثلاث سنوات من موعد الاستحقاق الرئاسي القادم. وقد تابعنا بعض مناوشاته في أحداث متقطعة لم تصل أصداؤها إلى العامة. * أيا كانت الفرضية، فإن ما يخيف هو هذه "المشاغبة" البائسة للساسة بشغب الشعوب البائسة، تحرك داخل مسارات تكون فيها هي من يدفع في البداية والنهاية الفاتورة بلحمها، وعرضها، وأحلامها التي تتحول إلى كوابيس، حتى تقتنع الشعوب اليائسة البائسة، أن السبيل إلى التخلص من الكوابيس، إنما يكون بالإقلاع عن الحلم، وإذا أمكن الصيام عن النوم الملغم بالأحلام الكاذبة المتحولة إلى كوابيس حقيقية. * لست ممن يتطاول على الغيب حتى أخوض في مستقبل هذا الاحتجاج، فهو وإن كان مشبعا بالغضب وبالروح القتالية التدميرية عند جيل جديد من الشباب متقلب المزاج، سبق له منذ سنة أن صنع صورة مثالية عن حبه للوطن، ولألوانه وكرامته، على خلفية مقابلة كروية مع الشقيقة مصر، فإن الاحتجاج اليوم قد لا يزيد عن كونه شقشقة قد هدرت بدافع الغضب وسرعان ما ترد، وحتى لو كتب للاحتجاج أن يتطور ويستمر في الزمن، فإنه محكوم عليه مسبقا، كما حكم في التاريخ على انتفاضات شعبية بلا رأس ولا غاية. لأن شعب جغرافية الفقر يتحرك اليوم في تونسوالجزائر، وربما غدا في المغرب ومصر، بلا عقل مدبر، وبلا نخبة تحول الغضب إلى قوة بناء، بدل أن تستنفذها عبثا في تلك المواجهات مع قوى الأمن. *
* عبث السياسة بأوجاع الشعوب اليائسة * يحزنني أن أرى شعب البؤساء يدخل بدافع البؤس والتهميش هذه المواجهات بلا قيادة تحميه من نفسه، قبل أن تحميه من شطط أجهزة الأمن، يدخلها بلا أفق سياسي وبلا عوائد لما يدفعه من أثمان، وما تدفعه البلد معه من كلف، كما دفع من قبل ضريبة العشرية الحمراء. ويؤسفني أكثر أن يلازمني هذا الشعور الذي لا أستطيع مقاومته بوجود عبث مدروس ومبيت خلف هذه الحرائق، التي تتخذ من بؤس المعدمين حطبا ووقودا لمعارك غامضة بين العلية. * ليس عندي شك، أن خروج شباب أحياء البؤس كان عفويا، وأنه لا يد بيضاء أو سوداء كانت من الخارج كما زعم الرئيس التونسي، ولا دور يذكر فيها لقوى سياسية معارضة أراها تتابع الأحداث، وتترصد اللحظة التي قد تأتي إن خرجت الاحتجاجات عن السيطرة ، لكني مقتنع كل الاقتناع أن السلطة في تونس كما في الجزائر كانت على علم بواقع الحال، وتعلم مسبقا أن الإعلان عن تلك الزيادات الخيالية في أسعار مواد أساسية في حياة البؤساء لن تستقبل بهتافات الترحيب. وحيث لم تتخذ أي إجراء لتلطيف وقعها، ولم تكلف نفسها حتى بالحد الأدنى من التحضير النفسي، فإنها كانت كمن يريد لهذا الشغب أن يحصل، وأن يحصل بهذه العفوية المدمرة، لجهة تحقيق غايات في نفس يعقوب، وإن غدا لناظره قريب.