في مطلع الثمانينيات كنت أعمل في يومية كويتية، جاءني محرر المنوعات مقترحا أن يقوم بإجراء حوار خفيف لصفحته مع منجم تونسي جاء من فرنسا يقرأ بمناسبة العام الميلادي الجديد طالع بعض الراغبين ويسترزق كما يسترزق الفزانون والفزانات· ومما قاله المنجم عن توقعاته لذلك العام الجديد، أن الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة سيموت· وما أن نشر الحديث الذي لا قيمة سياسية أو أدبية له ، حتى احتج السفير التونسي رسميا· وقامت وزارة الإعلام الكويتية بناء على طلبه بإحالة الجريدة إلى القضاء· فما كان من القاضي إلا أن رد الدعوى، حيث لا يشكل كلام المنجمين وسائر الفزانين وتوقعاتهم وتخرصاتهم مادة جرمية، فلا قذف فيه ولا إهانة ولا عدوان، فهو كلام يقال على رأي القاضي سبهللا· ولما خسر السفير دعواه جاءني يرقّع ما يمكن ترقيعه، فقلت له لا عليك يا صاحب السعادة فما أنت إلا من جند الخليفة· تذكرت هذه الواقعة وأنا أتابع كلمة فخامة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي بعد انتفاضة البائسين في بلدة سيدي بوزيد، حيث حاول خريج جامعي يعمل وراء (طبلية) في أحد الأسواق علها تسد رمقه بعد أن عجزت شهادته، فاستكثر عليها رجال الشرطة سد الرمق· فحاول أن يحرق نفسه احتجاجا·· وبسرعة تضامن البائسون معه وتحركوا في طول تونس وعرضها· كما تحركوا ذات يوم في تونس نفسها وفي المغرب وفي مصر وفي الأردن وفي الجزائر وحتى في لبنان، خرجت ذات يوم النساء اللبنانيات بالطناجر الفارغة، وكما حدث في كثير من بلدان أمريكا اللاتينية وفي آسيا وفي إفريقيا··· فمثل هذه الاحتجاجات لم تعد استثنائية في عالم اليوم الذي تتزايد فيه مساحة الجوع، ومعظم زعماء عالمنا اليوم هم زعماء على شعوب بائسة بهذه الدرجة أو تلك·· لكن فخامة الرئيس أكد لنا في خطابه أن الزعماء العرب هم أنفسهم في حالة بؤس فكري وسياسي وإداري يعتقدون أنهم باستطاعتهم الضحك على ذقون الشعوب العربية· فراح يقيل الولاة والوزراء·· وكأن هؤلاء الولاة والوزراء لم يكونوا جندا من جنوده ''ينفذون سياسته وبرنامجه وتعليماته·· فمسح بهم ''الموس''· واستعمل في خطابه الكثير من المفردات البائسة التي تنتمي لقاموس القادة العرب الذين يفشلون حتى في إدارة زوجاتهم، مثل مفردات المتآمرين والمتطرفين والخارج والحزم·· وما في هذا القاموس العتيق من ألفاظ لم تعد تعني شيئا حتى في لغة الخشب· وأكثر من أشفقت عليهم من هؤلاء الذين مسحت بهم ''الموس''، وزير الإتصال، فقد ذكرتني إقالته بإقالة المذيع المصري أكثر الإذاعيين العرب شهرة في العالم، فقد حمل الرجل هزيمة الحكام العرب العام ,1967 وسعى كثير من الزعماء والساسة والمثقفين العرب لإقناع الأمة أن سبب الهزيمة هو مدير إذاعة صوت العرب المذيع أحمد سعيد - أطال الله عمره -، ثم جاءت فرصة لأن أسأل المستشار الإعلامي لأحد الزعماء كرر علينا تلك الأسطوانة: هل الإعلامي يصنع السياسة أم أنه يتبع لها، والقاعدة تقول أعطني سياسة أعطيك أعلاما؟ فأفحم الرجل الذي تعاني بلاده اليوم من مشاكل سياسية عميقة وتريد تحميلها للإعلام أيضا، فلا شيء تغير·· فلا أثار الهزيمة أزيلت ولا الزعماء غيّروا عقليتهم البائسة تلك·· ولا الشعوب أزيل بؤسها وضنكها بل زادت بؤسا وضنكا وزاد الزعما ء ثراء وتضخمت ثرواتهم وثروات زوجاتهم وعائلاتهم إلى أرقام فلكية لا يستطيع ذلك المنجم التونسي وإضرابه التكهن بها أو توقعها· إن مواطنا تونسيا واحدا مهما بلغت درجة أميته لم يقتنع بأن تغيير الوزراء والولاة يمكن أن يزيل بؤسه·· مثله في ذلك مثل أصغر مواطن في أبعد قرية عربية· فقد صار هذا السلوك علامة على بؤس الزعماء أنفسهم·· فقد تماهوا بطريقة أو بأخرى مع بؤس شعوبهم·· لكن بؤس الزعماء هو في عقولهم لا في جيوبهم·· ففلسفة البؤس لا تنتج سوى فلاسفة بائسين· طبعا، نحن كمواطنين عرب لا نخشى على شعبنا التونسي، فهو الذي علمنا صعود الجبال وأن لا نرضى البقاء في الحفر، وهو الذي زرع فينا الأمل بأن القدر نفسه ينحني لإرادتنا··· وكذلك ليس لدينا كمواطنين عرب أي وهم في أي نظام عربي حتى نحرص عليه·· كما لا نتآمر عليه··· لأن الذين نصبوه هم الذين عودونا أن يتآمروا عليه·· ولكن يؤسفنا أن لا يكون الزعماء يستطيعون تقدير زمن المهمة التي أوكلت إليهم···؟ ولو كنت تونسيا لأهديت فخامة الرئيس كتابين شهيرين أولهما لخير الدين التونسي الذي لاشك أنه يعرفه ويعرف كتابه، أما الثاني فهو لكاتب عربي اسمه عبد الرحمن الكواكبي واسم كتابه طبائع الاستبداد· فساعتئذ سيعلم أن الصحفيين العرب من أصغر مراسل إلى أكبر وزير لا يصنعون سياسة، بل هم في ورطة بين زعماء البؤس وبؤس الزعامة·· لذلك يموتون ولا يزور قبورهم أحد لا من الزعماء ولا حتى الزملاء ولو كانوا وزراء·