أشعر أحياناً أن بعض الحكام العرب في قمة الغباء، لأنهم لا يتعظون أبداً من تجارب غيرهم، ولا حتى من تجاربهم الخاصة، علماً أن الحمار يتجنب الحفرة التي وقع فيها سابقاً. * ألم ير شين الهاربين بن علي، يتساءل مواطن تونسي، كيف كانت نهاية العملاء من قبله كالرئيس الباكستاني برويز مشرف، وشاه إيران محمد رضا بهلوي، والرئيس الفلبيني فرديناند ماركوس، ومانويل نورييغا رئيس بنما، وادوارد شيفارنادرزه رئيس جورجيا، وسوهارتو رئيس إندونيسيا، وبينوشيه ديكتاتور تشيلي، وباتيستا ديكتاتور كوبا، وموبوتو رئيس الكونغو، وبي ناظير بوتو رئيسة وزراء باكستان السابقة، وجان أريستيد رئيس هاييتي، وعسكر أكاييف حاكم قريغسستان وغيرهم وغيرهم؟ متى يتعلم الحاكم العربي أن الضمانة الوحيدة شعبه؟ ربما ظن شين الهاربين أنه غير. لكن هذه هي الأيام تثبت له أنه، ككل الحكام العملاء الذين يضطهدون شعوبهم ويسومونها سوء العذاب ويؤجرون بلدانهم لأسيادهم في فرنسا وتل أبيب وواشنطن، لن يستقبلهم أحد بعد أن تطردهم شعوبهم وتحرق الأرض من تحت أقدامهم مهما كانت خدماتهم عظيمة لرعاتهم الفرنسيين والإسرائيليين والأميركيين. * لا أدري لماذا لم يقرأ شين الهاربين بن علي وغيره من الحكام العرب الذين ربطوا مصيرهم بأميركا والغرب عموماً كتاب "كيف تبيع أمريكا أصدقاءها؟... إستراتيجية الغدر الأمريكي عبر التاريخ" للمؤلف مجدي كامل. فبالرغم من أن أميركا تخصصت عبر عقود طويلة في بيع حلفائها وأصدقائها، بمجرد أن تجد البديل الأفضل، أو تراهم آيلين للسقوط، إلا أن كثيرين هم الحكام الذين لا يتعظون. وتدور الأيام ليجدوا في النهاية الغدر بانتظارهم، وربما ترفض حتى استقبالهم في بلادها، ولو للعلاج، لأنها ببساطة استنفدتهم، فتحولوا فجأة من ملائكة إلى شياطين. وتشهد أغلفة مجلة "تايم" الأمريكية على هذا الغدر، فشتان بين موضوع وصورة غلاف الحاكم عندما يكون ملاكاً في أعين واشنطن وموضوعه وصورته على الغلاف بعد أن يسقط ويدوسه شعبه. * كلنا شاهد مصير الرئيس الباكستاني برويز مشرف الذي فتح باكستان لأميركا على مصراعيها. لقد كان نموذجاً للخادم المطيع، كما يجادل كامل، تأمره أمريكا فيطيع. طلبت منه أن يفتح بلاده على مصاريعها لرجال مخابرتها وعسكرييها ففعل. لكن عندما حاصرته جموع شعبه، وشعر بتخلي الجيش عنه قرر أن يتنحى. راهن على الأمريكيين.. انتظر المكفأة.. كان يمنّي النفس بأن يحتضنوه ويوفروا له الحماية.. كان يأمل في أن يجد لديهم الملاذ والمأوى بعد أن خدمهم طويلاً إبان وجوده على قمة السلطة، ولكن ما حدث هو أن كانت هناك صفعة أمريكية على وجهه، حيث لم يكن في الحقيقة بالنسبة لهم سوى سلعة للاستخدام مرة واحدة. وقد تم استخدمه واحترق وانتهى الأمر. انتهى دوره، وألقت به واشنطن- عملياً- في سلة المهملات، فأمريكا، وهذه حقيقة واضحة حتى للعميان، لا أصدقاء لها بل عملاء فقط. * ويقول وليم سوليفان آخر سفير أمريكي في إيران قبل رحيل الشاه في كتابه "أمريكا وإيران": "التفت الشاه نحوي وقال: إن هناك مؤامرة أجنبية تنشط ضدّي. وأنا لا أستغرب أن يفعل ذلك السوفييت والانجليز، لكن مما يحزنني من الأعماق أكثر من أي شيء آخر هو دور وكالة المخابرات الأمريكية". فبعد أن كان الشاه رجل أميركا المدلل، هرب كالجرذ ليعيش متشرداً في المنافي إلى أن مات دون أن تقدم له الولاياتالمتحدة أي نوع من أنواع المساعدات حتى الإنسانية منها! * أما رئيس الفلبين ماركوس فقد فر وعائلته بعد إضرابات شهدتها الفلبين ضد حكمه بعد أن كان طيلة سنين حكمه خادماً مطيعاً لأسياده في واشنطن. وليس أدل على ذلك من فتح بلاده على مصراعيها لأمريكا رغم أنف شعبه. * وحدث عن خيانة أميركا للرئيس الإندونيسي سوهارتو الذي كان حليفا قويا للولايات المتحدة، فلم يعص لها أمراً لا في السياسة ولا في الاقتصاد، ولا في الأمن الاستراتيجي، ولا في الإسراف في خدمتها في مواجهة المد الشيوعي في اندونيسيا وما حولها. لقد كان بحق الجنرال الأمريكي في الجيش الاندونيسي ثم في حكم اندونيسيا. ثم كانت عاقبته: السقوط المخزي من الحكم الذي كان سببه المباشر (ثورة شعبية) ضد تدخلات البنك الدولي التي أدت إلى انهيار مروع في معيشة غالبية الشعب الاندونيسي. وعندما سقط الرجل الحليف بل قبيل أن يسقط: تفنّن الإعلام الأمريكي، كما يورد مجدي كامل في كتابه، في وصمه بالدكتاتورية والجهل والفساد وإساءة استعمال السلطة. كان هذا النفاق السياسي الهائل مجرد تسويغ لنظرية التخلي عن الحلفاء ورميهم في سلة المهملات، إذ ليس للعملاء ثمن. * أما مانويل نورييغا رئيس بنما فقد اختطفته قوة أمريكية ورحّلته إلى واشنطن حيث أودع السجن بتهم عديدة منها الاتجار في المخدرات والاحتيال. ولم يشفع له بأنه كان عميلا مخلصا للمخابرات الأمريكية، بل كان من أقرب الأصدقاء لبوش الأب أثناء رئاسته للمخابرات الأمريكية. * ولا يمكن أن يتذكر العالم عميلا نموذجيا للأمريكيين كما يتذكر الرئيس التشيلي الجنرال أوغستو بينوشيه. والسبب أن الرجل كان مستعدا لكل شيء أو أي شيء، فباع نفسه، ومن قبلها وطنه. وعندما سقط في النهاية، تخلى عنه حلفاؤه في واشنطن، ورفضوا استقباله وحتى علاجه. * ويقول الرئيس الجورجي السابق شيفرنادزة: "قدمت للأمريكيين كل ما طلبوا مني بل أكثر مما طلبوه ولعبت دورا أساسيا في انهيار الاتحاد السوفيتي. وجلبت جنرالاتهم ليدربوا جيشنا، ويقودوه، ورغم كل هذا خانوني ودبروا الانقلاب ضدي. لقد كان السفير الأمريكي يجلس معي، وبعد ساعة واحدة شاهدته وسط المتظاهرين ضدي في الميدان أمام مبنى البرلمان. ولا أدري لماذا فعلوا ذلك معي". * وها هو آخر مثال على تخلص أميركا من أزلامها كما تتخلص من القاذورات. لقد كان الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومي الأميركي، لا بل مثال الحاكم العربي المطلوب أميركياً وفرنسياً، لكن عندما هرب من تونس تحت جنح الظلام كالفأر المذعور امتدح الرئيس الأميركي أوباما الشعب التونسي على شهامته لتخلصه من طاغية. كذلك رفض أصدقاؤه القدامى في فرنسا وإيطاليا استقباله. لا بل إن باريس طردت على الفور أقاربه من أراضيها. وظلت طائرته تحوم في الجو حتى تكرم عليه حاكم عربي فسمح له بالإقامة في بلده كسجين وليس حتى كلاجئ. * متى يعي الحكام العملاء والكثيرون غيره من الحكام العرب أن الحاكم العميل الذي يخون شعبه كالمنديل، يكون قبل الاستخدام في الجيب قريباً من القلب، وبعد الاستخدام في الزبالة؟