عندما استمعت إلى السيد أويحيى وهو يتحدث في التلفزيون (الأربعاء 30 مارس) وقرأت ردّ السيد عبد الرزاق مقري نائب رئيس حركة مجتمع السلم عليه (الشروق 1 أفريل) واطلعت على بعض التعاليق من قراء الشروق أون لاين، وتحدثت مع الأخت سميرة بلعمري التي سألت أويحيى، في حصة حوار الساعة، وجدت صعوبة كبيرة في تصنيف هذا الرجل، وفي أي خانة يمكن وضعه؟! * هل نحكم عليه بأثر رجعي، ونطارده بالتهمة القديمة التي أقرّ بها هو، أي تهمة الاستئصال والقيام بالمهمات القذرة؟ أم نعترف بأن الرجل رغم براءته الموهومة، هو مزيج من الدهاء والخبث والمكر؟ أم نكتفي بوصفه داهية سياسي، يعرف بذكاء متى وكيف تؤكل الكتف؟ من ناحية الشكل، أعترف أن خريج المدرسة الوطنية للإدارة كان متفوقا جدا في استعمال الكلمات النحيفة، الخالية من دهون البلاغة، وشحوم البيان إلا ما كان يكفي لجعلها رشيقة وعذبة حتى وإن كانت شديدة الملوحة في بعض أجزائها أو متعفنة في بعض الأجزاء الأخرى، وهذا هو الفرق بين الخطباء والخبراء. * أما من ناحية المضمون، فلم أجد ما أعلّق به سوى بعض النكت الطريفة المعبرة عن حالة التحالف والمتحالفين والتخلاط والمخلطين. *
* أويحيى .. وحده لا شريك له * تقول النكتة الأولى، أن أويحيى كتب على باب سيارته الحكومية "أويحيى وشركاؤه" في إشارة إلى شركائه في التحالف، لكن لما انسحب أبوجرة من هذه الشراكة التي لم يستفد منها كثيرا، كتب أويحيى على الباب "أو يحيى وشريكه بلخادم"، ثم لما انسحب بلخادم من هذه الشراكة، كتب "أويحيى وحده لا شريك له"!! * فهل سيكون مصير التحالف الرئاسي، هو هذا المصير المشؤوم، بعد أن أطلق أويحيى النار على شريكه أبو جرة الذي هدد باستعمال حقه في الخلع وتطليق هذا التحالف الهرم؟ *
* اللص الداهية * وتقول النكتة الثانية، أن أويحيى وبلخادم وأبوجرة، دخلوا بنكا ليسرقوه، ولما سمعوا أصوات الحراس مقبلة عليهم، رفع أبوجرة يديه، وتظاهر بالصلاة، بينما ارتكبك بلخادم، وبدأ يهز رأسه على الطريقة الصوفية، ويتلو أدعية غير مفهومة، لكن أويحيى كان أذكى حين اصطنع لهجة المدير العام للبنك، وبدأ يصيح بصوت مرتفع: أين اللص...أين اللص، إلى أن خرج إلى الشارع وتمكن من الهروب!! * وهذا هو الفرق بين الدعاة والدهاة. *
* الداهية الأكبر * وتقول النكتة الرابعة، أن شركاء التحالف، أقلقتهم الإقامة الدائمة للرئيس بوتفليقة في شاشة التلفزيون الجزائري، فقرروا محاولة إقناع فخامته بالتزحزح قليلا عن نشرات الأخبار والبرامج، والسماح لهم بالظهور لبعض الثواني. * يقال أن بلخادم وأيحيى فشلا في إقناع فخامته بالتخلي قليلا عن كاميرات التلفزيون، وجاء دور أبوجرة الذي لمعت في خاطره فكرة جهنمية، كان متأكدا من تمريرها على بوتفليقة. * قال رضي الله عنه يا سيارة الرئيس... إن الشعب يريد الاستماع إلى القرآن الكريم، فماذا لو قدمنا له بين خطابك وخطابك على التلفزيون بعض التلاوة من الذكر الحكيم؟ * قال أبوجرة في نفسه: حكمته...ولن يستطيع رفض مثل هذا الإقتراح. * سكت الرئيس قليلا، ثم قال: فكرة رائعة ياشيخ، ولكن التلاوة ينبغي أن تكون بصوتي أنا!! * بقدر ما أضحكتني هذه النكتة الطريفة بقدر ما جعلتني أفهم، لماذا قال أبو جرة قبل شهر، إن تحالفنا هو مع الرئيس بوتفليقة فقط وليس مع غيره، حتى وإن كانت بعض التعاليق تقول إن الرئيس متحالف مع أويحيى وبلخادم فقط، وليس مع غيرهما، والدليل في نظر هذه التعاليق هو استبعاد أبو جرة مؤخرا من مشاورات الرئيس التي أجراها مع أويحيى وبلخادم... * فهل قرر الداهية الأكبر ممارسة »التجويع السياسي« ضد شريك لم يعد مهما في التحالف الرئاسي؟ *
* الحقيقة المرة * لقد أخطأ أويحيى حين قال ليس في الجزائر أزمة سياسية، وأخطأ أبوجرة حين ظن أنه قادر على صنع هذه الأزمة، وسيخطئ بلخادم إذا ظن أن حزبه العتيد مازال كما كان قادرا على استيعاب الأزمات واحتوائها، فهل أجد من يوافقني هذا الرأي؟ * أن يطلق أويحيى النار على شريكه في التحالف، فذلك أمر طبيعي جدا مادامت "الشركة هلكة" كما يقول المثل الشعبي الجزائري. * وأن ينتقد أبو جرة بقسوة من بعض أصدقائه، فإن ذلك قد يكون عاديا أيضا وإن لم يكن معروفا ومألوفا، وقد لا يقدم مثل هذا النقد ولا يؤخر داخل الحركة ومؤسساتها ولا يؤثر فيها، لكن ما معنى وفي هذا التوقيت بالذّات أن يضرب أبو جرة في العمق من طرف مصطفى بن بادة، وزير التّجارة، وعضو مجلس الشورى في الحركة؟ *
* خلفيات وتساؤلات * الذين يعرفون الحركية العامة للصّراع القيادي داخل الحركة، ويعرفون سياقات مسبباتها في الظاهر والمستور، يعرفون جيدا أن بن بادة كان من أول السّاخطين على انقسام الحركة والسّاعين إلى منع انشطارها ضمن ما سمي بلجنة الإصلاح، وقد حدثته مرة في هذا الموضوع وشكرت له مواقفه إزاءه رغم أنه كان الإختيار الأسرع والأسهل. * لكن هل سيظل هذا الموقف إيجابيا ومقبولا، عندما نعيد صياغته في ضوء تحميل أبو جرة وحدهُ مسؤولية ما حدث للحركة؟ * أعتقد أن بن بادة، كان مخطئا حين حمّل أبوجرة وحده مسؤولية انقسام الحركة، ولم يكن موفقا- رغم أنه يعرف الكثير من التفاصيل - في تقييم هذه التجربة المعقدة وطابعها المركب، حيث تصبح أدوار الفاعلين فيها متداخلة ومتشابكة، لذلك يمكن هنا أن نتحدث عن درجة قصوى من الارتباك في رؤية بن بادة لهذا الموضوع، ونسأل بمنطق التحليل السياسي: ما الذي دفعه في هذا الوقت بالذات إلى الخروج الإعلامي، وتحميل أبو جرة مسؤولية انقسام الحركة؟ هل كان ذلك بنيّة البحث عن أدوات جديدة للمّ شمل الحركة وتقليص نتائج انشطارها، وبناء معادلات جديدة يمكن أن تضبط هذا الإتجاه وترتب أسبابه ونتائجه؟ أم كان مجرد توصيف لما حدث باللغة التاريخية المعتادة التي لا تتحرك إلا في إطار ردود الفعل التي لا نملك أمامها فرصا للإختيار؟ أم أن خرجة بن بادة كانت بإيعاز من "الأيادي الخفية" التي تحركت هذه المرة لتصنع حدا لأبوجرة الذي بدأ طموحه السياسي حسب خصومه، يتجاوز حدود رئاسة الحركة، وبدأ خطابه السياسي يأخذ شكل خطابات الزعماء والكبار؟ *
* أجوبة مرّة * الذين يتحدثون بلغة أخلاق ما قبل السياسة، أو غير المتأثرين بظواهر العولمة، أو غير المعنيين بالتحولات الجارية في قلب المجتمع، مازالوا يعتقدون أن "الإخوان" يمكن أن يبقوا إخوانا إلى الأبد، لذلك ومن منظور هذه "الحكاية" ترتفع درجة غضبهم على كل من يخالف السلوك الإخواني، ويصنع المآزق للحركة بمواقفه المباشرة، حتى وإن كان برتبة وزير يخاف على منصبه ويتحالف مع الشيطان من أجل الحفاظ عليه. * ورغم أنني أتردد كثيرا في إصدار الأحكام العامة، إلا أن شواهد كثيرة من رعب المشهد القائم، تجعلني أتصور أن الحركة ستواجه في المدى المنظور أعاصير جديدة وعواصف رملية ومائية عاتية، ناشئة عن مبادرات يتم املاؤها عنوة، ولن تجد الحركة أمامها ما يساعدها على توقيف مسلسل الإنهيارت في حرب وقائية هادفة إلى تجفيف منابع قوة الحركة وتقليم أظافرها التي يمكن أن تطول في ظل ركوب موجة التغيير القادمة. * ونخشى أن يختفي في هذا الجو المحموم، ذوو المروءات والشرف والعفاف، ويصبح حال الحركة كحال دولة الخلافة الإسلامية قبل الحملة الصليبية الأولى، عندما كان العباسيون والفاطميون والأمويون، يتهارشون على مقاليد السلطة، إلى أن اقتحم الصّليبيون والتتار حدود الدولة المختلّة وفعلوا بها الأفاعيل!! * إن الذين مازالوا يحرقون البخور بين يدي أبو جرة ويزينون له أعماله مخطئون، والحمقى الذين يمثلون دور الصديق الجاهل مخطئون، والذين يريدون ضربه قبل المؤتمر الخامس مخطئون، والمشككون في قوة هذا الرجل وقدرته على المغالبة مخطئون، ومخطئ عبد الرزاق مقري إذا ظن أنه سيكون رئيس الحركة القادم، ومخطئ عبد المجيد مناصرة إذا ظنّ أن انتماءه الرمزي للشيخ نحناح - رحمه الله - سيمكنه من الزعامة، ومخطئ أبو جرة إذا ظل يتقنّع بقناع الضحيّة ويطلب الرأفة، ومخطئ بن بادة إذا ظن أن له أنصارا في مجلس الشورى ومخطئ أويحيى وكل عسكر العالم إذا ظنوا أن حركة مجتمع السلم يمكن أن تزول ب؟؟؟؟ عابرة أو جرة قلم. * لكن ماذا لو قرر الرئيس بوفتليقة إشراك الحركة في الحكم، ومنحها حق التمتع بهيبة الدولة، هل تستمر في رفع صوتها بالمعارضة؟ * لن أجيب عن هذا السؤال، لأني لا أريد الآن الحديث عن الفتنة بالخير التي قد تكون أشد من الفتنة بالشر، والفاهم يفهم...