تشهد مصر تطورا جديدا في خطاب الثورة السياسي بعد أن أنجزت خطوات حاسمة على صعيد إسقاط أركان النظام، ولقد عاش ميدان التحرير أياما تاريخية منذ يوم الجمعة الأخير حيث تنادى الشعب الى حشد زاد عن المليون تحت عنوان "جمعة التطهير".. وفي هذا اليوم بدت الثورة عفية نشطة نابهة مصرة على دفعها الأول وروحها المتحررة من قيود الأحزاب وأجندتها.. * فكما كان لا بد من تجديد المطالبة بمطاردة المفسدين ومحاكمتهم كان لا بد من تبيان الموقف من الكيان الصهيوني وعدوانه على أهل غزة وعلى فلسطين جملة.. في المستوى الأول ظهرت الثورة المصرية اكبر من الأحزاب والتنظيمات السياسية وعلى منصة ميدان التحرير وأمام أكثر من مليون مصري متواجدين في الميدان وأمام مئات الملايين من المشاهدين على شاشات التلفزيون عقدت محكمة بهيئتها الكاملة، وكان القضاة فيها كبار الشخصيات العلمية والقانونية التي يشهد لها بالنزاهة وطول الباع في مجال القضاء، وكان الشعب هو المدعي العام.. ولم يذكر من القضايا الا ما هو معلوم بالضرورة وعلى رأس الأشهاد، فكانت المحكمة تأخذ بما أصبح متواترا من القضايا لتصدر حكمها المخفف على شخصيات النظام السابق، وهذا يعني ان هناك حدا لا يمكن التنازل عنه من قبل الشعب، وعلى المجلس الأعلى للقضاء ان يسرع في انجازه.. في اليوم نفسه تحركت قوافل من ميدان التحرير لإسناد المعتصمين أمام السفارة الإسرائيلية والمطالبين برحيل السفير وإغلاق السفارة.. وبعد ترديد هتافات كان قد أطلقها ياسر عرفات من معتقله برام الله: "للقدس زاحفين شهداء بالملايين" صعد مجموعة شباب وأنزلوا العلم الإسرائيلي وأحرقوه ورفعوا مكانه علما فلسطينيا كبيرا رفرف على المبنى الذي يحتوي السفارة بكبرياء. اللافت في الموضوع ان المجلس العسكري الأعلى حاول ان يفض اعتصاما مع فجر اليوم التالي، الأمر الذي أدى الى مشادات انتهت باستشهاد احد المعتصمين وجرح عدد آخر، وهنا أخذت المواجهات منحنى جديدا.. ففي حين غاب الإخوان المسلمون وبقية الأحزاب عن الميدان تجمع من جديد المنتفضون وقياداتهم للإعلان عن بداية فعاليات الاعتصام، مؤكدين على ضرورة انجاز أهداف الثورة في محاكمة رموز النظام السابق، وعلى رأسهم حسني مبارك الرئيس المخلوع، واسترداد أموال مصر وتطهير المؤسسات من قيادات الحزب الوطني، وتسريح عشرات المحافظين، ومحاكمة من تورط منهم في قضايا اختلاس او فساد.. وعندما التحق بعض قيادات الإخوان بالميدان هبت جموع المعتصمين تتهمهم بالتخلي عن الثورة وهتفوا فيهم "لا أحزاب ولا إخوان الشرعية في الميدان".. في الوقت نفسه قدم رئيس الوزراء عصام شرف استقالته احتجاجا على مقتل احد المعتصمين.. وهنا يمكن ملاحظة عناصر مهمة في الوعي الشعبي تعتبر هي ضمانة استمرار الثورة.. لقد وجه الإخوان ضربة للثورة بقبولهم إعطاء "نعم" للبيان الدستوري، وهم بالإضافة إلى الأحزاب الأخرى ولفلول النظام استطاعوا ان يمرروا التعديل على حساب إمكانية تغيير جوهري وإنشاء دستور يليق بالثورة يكون مرجعية لنظام سياسي كامل الاختلاف عن النظام السابق.. وظن الإخوان أنهم بهذا الفوز استطاعوا ان يحسموا الأمر لصالحهم، إلا أن الأيام اللاحقة لذلك كشفت عن صوابية رؤية الثورة وعمق وعيها.. إذ أن الأيام تسير فيما الرئيس وحاشيته يتمتعون في أفخم المنتجعات واللصوص في مأمن من المحاسبات، وقيادات الحزب الوطني متعاونين مع رأس المال الفاسد يتآمرون ليل نهار على الثورة مؤسسين لثورة مضادة.. وهكذا يمكن ان تلتف قوى الظلام على اكبر منجز تاريخي أنجزه الشعب المصري فيسقطوه.. ومن هنا كان لا بد من إعلاء الصوت بأن المرجعية للشعب ولجماهيره المحتشدة في ميدان التحرير وميادين الكرامة في كل مدن مصر ونجوعها بأن الثورة لن تخضع لأجندات الأحزاب، بل هي فقط تتحرك من ضمير الناس لأجل مصلحتهم ومحاسبة جلاديهم وبالطرق السلمية التي أنجزت أهدافا كبيرة. الوعي لدى قيادة الثورة صرفهم عن استمرار الاشتباك في موضوع الدستور على أهميته، بل إنهم وافقوا على النتائج واتجهوا نحو إنجاز أهداف على الأرض إذ ما نفع أن يكون هناك دستور جديد فيما كل القتلة والفاسدين من قيادة المرحلة السابقة لا زالوا موجودين بعيدا عن قفص العدالة. إن الثورة في مصر تعرف هويتها وانتماءها وأهدافها، وتعرف كذلك كيف تنتقل من مرحلة إلى أخرى وبخطى واثقة غير مترددة، وأظهرت أيام عمرها المباركة أنها لا ترفع شعارا إلا وحققته، وأنها تتحرك على طريقة إيجاد تراكمات مهمة، ومن ثَم تفعيلها نحو أهداف متجددة، وهذا ما لا يمكن أن تدركه الأحزاب التي استبد بها الخوف والتردد والمصالح الحزبية.. إن هناك عبقرية شعبية تنتج أساليبا علمية فائقة في النباهة لحل المشكلات وللخروج من الأزمات، وهذه منهجية لن تستطيعها الأحزاب المتكلسة والمتجمدة على شعارات بعضها يرجع الى مئة سنة. لقد كان من الخير أن لا تعترض الأحزاب المصرية مسيرة الثورة، وأن تتركها تنمو كما هي بدون إرهاق ووضع العصي في الدواليب، فلم يكن من حلم لهذه الأحزاب أكثر من اعتراف بها ومجلة تابعة للحزب وضمان وجود انتخابات نزيهة، وهذه الأهداف ضمنت منذ اليوم الأول للثورة، فكان على الأحزاب أن تدعم عن بعد الثورة وتدافع عنها عن بعد، ولكن دون إرباكها بمواقف مترددة تفتقد الى الحس العام.. فها هي الثورة تنجز ما لم يخطر على بال بشر، وهي قد منحت الأحزاب ما لم تكن تتخيل، فلا إقل من دعم الثورة وفقط.. ولقد أعجبني السيد هيكل عندما قال "علينا أن نسكت ونترك الثورة تتكلم فهذه أعظم ثورة في تاريخ مصر" وأنا أقول إنها أعظم ثورة في التاريخ الإنساني إذا ما لاحظنا قلة عدد الضحايا وعظيم التغييرات التي تعصف بالمرحلة السابقة.. ومن أهم ما ميز الثورة أنها ثورة الكل المصري الذي انفتح على الوطن العربي، فلقد شهد ميدان التحرير تجمعات لمتظاهرين عرب من أكثر من بلد من ليبيا واليمن والعراق وفلسطين، وكل تجمع من هذه التجمعات الرمزية يطالب بحرية الشعب ويرفع صوته في ميدان التحرير الذي أصبح مكانا للتوحد العربي.. وهكذا تعود مصر لتكون عاصمة العرب ومنبرهم عالي الصوت لتنتشر منها أشعة صبح جديد.. وهكذا تتوحد أماني العرب في ضرورة بعث الأمة نحو الحياة الحرة الكريمة. الشرعية في الميدان.. أجل الشرعية لمن يجعل صدره مفتوحا للتحديات كلها، وعقله يتحرك في إطار العقل الجماعي، ومشاعره تصيغها جماهير الملايين من الناس، لا فئة حزبية وجلسات في غرف مغلقة تحوم عليها أوهام وأحلام يقظة.